قوله تعالى : { ومن الناس من يقول آمنا بالله } . نزلت في المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول ، ومعتب بن قشير ، وجد بن قيس وأصحابهم حيث أظهروا كلمة الإسلام ليسلموا من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه واعتقدوا خلافها وأكثرهم من اليهود ، والناس جمع إنسان سمي به لأنه عهد إليه فنسي كما قال الله تعالى ( ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ) وقيل لظهوره من قولهم : آنست أي أبصرت ، وقيل لأنه يستأنس به
ثم قال تعالى في وصف المنافقين الذين ظاهرهم الإسلام وباطنهم الكفر فقال :
{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ }
واعلم أن النفاق هو : إظهار الخير وإبطان الشر ، ويدخل في هذا التعريف النفاق الاعتقادي ، والنفاق العملي ، كالذي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : " آية المنافق ثلات : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان " وفي رواية : " وإذا خاصم فجر "
وأما النفاق الاعتقادي المخرج عن دائرة الإسلام ، فهو الذي وصف الله به المنافقين في هذه السورة وغيرها ، ولم يكن النفاق موجودا قبل هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم [ من مكة ] إلى المدينة ، وبعد أن هاجر ، فلما كانت وقعة " بدر " {[37]} وأظهر الله المؤمنين وأعزهم{[38]} ، ذل من في المدينة ممن لم يسلم ، فأظهر بعضهم الإسلام خوفا ومخادعة ، ولتحقن دماؤهم ، وتسلم أموالهم ، فكانوا بين أظهر المسلمين في الظاهر أنهم منهم ، وفي الحقيقة ليسوا منهم .
فمن لطف الله بالمؤمنين ، أن جلا أحوالهم ووصفهم بأوصاف يتميزون بها ، لئلا يغتر بهم المؤمنون ، ولينقمعوا أيضا عن كثير من فجورهم [ قال تعالى ] : { يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ } فوصفهم الله بأصل النفاق فقال : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ } فإنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ، فأكذبهم الله بقوله : { وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ } لأن الإيمان الحقيقي ، ما تواطأ عليه القلب واللسان ، وإنما هذا مخادعة لله ولعباده المؤمنين .
ثم ننتقل - مع السياق - إلى الصورة الثالثة . أو إلى النموذج الثالث
إنها ليست في شفافية الصورة الأولى وسماحتها . وليست في عتامة الصورة الثانية وصفاقتها . ولكنها تتلوى في الحس . وتروغ من البصر ، وتخفى وتبين . . إنها صورة المنافقين :
( ومن الناس من يقول : آمنا بالله وباليوم الآخر ، وما هم بمؤمنين . يخادعون الله والذين آمنوا ، وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون . في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون . وإذا قيل لهم : لا تفسدوا في الأرض ، قالوا : إنما نحن مصلحون . ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون . وإذا قيل لهم : آمنوا كما آمن الناس ، قالوا : أنؤمن كما آمن السفهاء ؟ ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون . وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا : آمنا . وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا : إنا معكم ، إنما نحن مستهزئون . الله يستهزئ بهم ، ويمدهم في طغيانهم يعمهون . أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى ، فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين ) . .
لقد كانت هذه صورة واقعة في المدينة ؛ ولكننا حين نتجاوز نطاق الزمان والمكان نجدها نموذجا مكرورا في أجيال البشرية جميعا . نجد هذا النوع من المنافقين من علية الناس الذين لا يجدون في أنفسهم الشجاعة ليواجهوا الحق بالإيمان الصريح ، أو يجدون في نفوسهم الجرأة ليواجهوا الحق بالإنكار الصريح . وهم في الوقت ذاته يتخذون لأنفسهم مكان المترفع على جماهير الناس ، وعلى تصورهم للأمور ! ومن ثم نميل إلى مواجهة هذه النصوص كما لو كانت مطلقة من مناسبتها التاريخية ، موجهة إلى هذا الفريق من المنافقين في كل جيل . وإلى صميم النفس الإنسانية الثابت في كل جيل .
إنهم يدعون الإيمان بالله واليوم الآخر . وهم في الحقيقة ليسوا بمؤمنين . إنما هم منافقون لا يجرؤون على الإنكار والتصريح بحقيقة شعورهم في مواجهة المؤمنين .
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ( 8 )
كان أصل النون أن تكسر لالتقاء الساكنين ، لكنها تفتح مع الألف واللام . ومن قال : استثقلت كسرتان تتوالى في كلمة على حرفين فمعترض بقولهم من ابنك ومن اسمك وما أشبهه .
واختلف النحويون في لفظ { الناس } فقال قوم : «هي من نسي فأصل ناس نسي قلب فجاء نيس تحركت الياء وانفتح ، ما قبلها فانقلبت ألفاً فقيل ناس ، ثم دخلت الألف واللام » .
وقال آخرون : ناس اسم من أسماء الجموع دون هذا التعليل ، دخلت عليه الألف واللام .
وقال آخرون : «أصل ناس أناس دخلت الألف واللام فجاء الأناس ، حذفت الهمزة فجاء الناس أدغمت اللام في النون لقرب المخارج » . وهذه الآية نزلت في المنافقين . ( {[209]} )
وقوله تعالى : { من يقول آمنا بالله } رجع من لفظ الواحد إلى لفظ الجمع بحسب لفظ { من } ومعناها ، وحسن ذلك لأن الواحد قبل الجمع في الرتبة ، ولا يجوز ان يرجع متكلم من لفظ جمع إلى توحيد ، لو قلت ومن الناس من يقولون ويتكلم لم يجز .
وسمى الله تعالى يوم القيامة { اليوم الآخر } لأنه لا ليل بعده ، ولا يقال يوم إلا لما تقدمه ليل ، ثم نفى تعالى الإيمان عن المنافقين ، وفي ذلك رد على الكرامية( {[210]} ) في قولهم إن الإيمان قول باللسان وإن لم يعتقد بالقلب .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.