39- بل سارع هؤلاء المشركون إلى تكذيب القرآن من غير أن يتدبروا ، ويعلموا ما فيه ، فلم ينظروا فيه بأنفسهم ، ولم يقفوا على تفسيره وبيان أحكامه بالرجوع إلى غيرهم ، وبمثل هذه الطريقة في التكذيب من غير علم ، كذب الكافرون من الأمم السابقة رسلهم وكتبهم ، فانظر - أيها الإنسان - ما آل إليه أمر المكذبين السابقين من خذلانهم وهلاكهم بالعذاب ، وهذه سنة الله في أمثالهم .
ثم قال : { بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه } ، يعني : القرآن ، كذبوا به ولم يحيطوا بعلمه ، { ولما يأتهم تأويله } ، أي : عاقبة ما وعد الله في القرآن ، أنه يؤول إليه أمرهم من العقوبة ، يريد : أنهم لم يعلموا ما يؤول إليه عاقبة أمرهم . { كذلك كذب الذين من قبلهم } ، أي : كما كذب هؤلاء الكفار بالقرآن كذلك كذب الذين من قبلهم من كفار الأمم الخالية ، { فانظر كيف كان عاقبة الظالمين } ، آخر أمر المشركين بالهلاك .
ولكن لما بان عجزهم تبين أن ما قالوه باطل ، لا حظ له من الحجة ، والذي حملهم على التكذيب بالقرآن المشتمل على الحق الذي لا حق فوقه ، أنهم لم يحيطوا به علمًا .
فلو أحاطوا به علمًا وفهموه حق فهمه ، لأذعنوا بالتصديق به ، وكذلك إلى الآن لم يأتهم تأويله الذي وعدهم أن ينزل بهم العذاب ويحل بهم النكال ، وهذا التكذيب الصادر منهم ، من جنس تكذيب من قبلهم ، ولهذا قال : { كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ْ } وهو الهلاك الذي لم يبق منهم أحدًا .
فليحذر هؤلاء ، أن يستمروا على تكذيبهم ، فيحل بهم ما أحل بالأمم المكذبين والقرون المهلكين .
وفي هذا دليل على التثبت في الأمور ، وأنه لا ينبغي للإنسان أن يبادر بقبول شيء أو رده ، قبل أن يحيط به علمًا .
ويضرب السياق عن المضي في الجدل بعد هذا التحدي ، ليقرر أنهم لا يتبعون إلا الظن ، فهم يحكمون على مالم يعلموه . والحكم يجب أن يسبقه العلم ، وألا يعتمد على مجرد الهوى أو مجرد الظن . والذي حكموا عليه هنا هو الوحي بالقرآن وصدق ما فيه من الوعد والوعيد . لقد كذبوا بهذا وليس لديهم من علم يقوم عليه التكذيب ، ولما يأتهم تأويله الواقعي بوقوعه :
( بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ، ولما يأتهم تأويله ) . .
شأنهم في هذا شأن المكذبين من قبلهم ، الظالمين المشركين بربهم . فليتأمل المتأمل كيف كان مصير الأولين ليعرف حقيقة مصير الآخرين :
( كذلك كذب الذين من قبلهم ، فانظر كيف كان عاقبة الظالمين ) . .
وقوله : { بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } يقول : بل كذب هؤلاء بالقرآن ، ولم يفهموه ولا عرفوه ، { وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } أي : ولم يُحصّلوا ما فيه من الهدى ودين الحق إلى حين تكذيبهم به جهلا وسفهًا { كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } أي : من الأمم السالفة { فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ } أي : فانظر كيف أهلكناهم بتكذيبهم رسلنا ظلمًا وعلوا ، وكفرا وعنادًا وجهلا فاحذروا أيها المكذبون أن يصيبكم ما أصابهم .
{ بل كذّبوا } بل سارعوا إلى التكذيب . { بما لم يحيطوا بعلمه } بالقرآن أول ما سمعوه قبل أن يتدبروا آياته ويحيطوا بالعلم بشأنه ، أو بما جهلوه ولم يحيطوا به علما من ذكر البعث والجزاء وسائر ما يخالف دينهم . { ولما يأتهم تأويله } ولم يقفوا بعد على تأويله ولم تبلغ أذهانهم معانيه ، أو ولم يأتهم بعد تأويل ما فيه من الإخبار بالغيوب حتى يتبين لهم أنه صدق أم كذب ، والمعنى أن القرآن معجز من جهة اللفظ والمعنى ثم إنهم فاجئوا تكذيبه قبل أن يتدبروا نظمه ويتفحصوا معناه ومعنى التوقع في لما أنه قد ظهر لهم بالآخرة إعجازه لما كرر عليهم التحدي فزادوا قواهم في معارضته فتضاءلت دونها ، أو لما شاهدوا وقوع ما أخبر به طبقا لإخباره مرارا فلم يقلعوا عن التكذيب تمردا وعنادا . { كذلك كذّب الذين من قبلهم } أنبياءهم . { فانظر كيف كان عاقبة الظالمين } فيه وعيد لهم بمثل ما عوقب به من قبلهم .
{ بل } إضرابٌ انتقالي لبيان كنه تكذيبهم ، وأن حالهم في المبادرة بالتكذيب قبل التأمل أعجب من أصل التكذيب إذ إنهم بادروا إلى تكذيبِه دون نظر في أدلة صحته التي أشار إليها قوله : { وما كان هذَا القرآن أن يفترى من دون الله } [ يونس : 37 ] .
والتكذيب : النسبة إلى الكذب ، أو الوصف بالكذب سواء كان من اعتقاد أم لم يكنه .
واختيار التعْبير عن القرآن بطريق الموصولية في قوله : { بما لم يحيطوا بعلمه } لِمَا تؤذن به صلة الموصول من عجيب تلك الحالة المنافية لتسليط التكذيب ، فهم قد كذبوا قبل أن يختبروا ، وهذا من شأن الحماقة والجهالة .
والإحاطة بالشيء : الكون حوله كالحَائط ، وقد تقدم آنفاً في قوله : { وظنوا أنهم أحيط بهم } [ يونس : 22 ] . ويكنى بها عن التمكن من الشيء بحيث لا يفوت منه . ومنه قوله تعالى : { ولا يُحيطون به علماً } [ طه : 110 ] وقوله : { وأحاط بما لديهم } [ الجن : 28 ] أي علمِه ، فمضى { بما لم يحيطوا بعلمه } بما لم يتقنوا علمه .
والباء للتعدية . وشأنها مع فعل الإحاطة أن تدخل على المُحاط به وهو المعلوم ، وهو هنا القرآن . وعدل عن أن يقال بما لم يحيطوا به علماً أو بما لم يحط علمهم به إلى { بما لم يحيطوا بعلمه } للمبالغة إذ جُعل العِلم معلوماً . فأصل العبارة قبل النفي أحاطوا بعلمه أي أتقنوا عِلْمه أشد إتقان فلما نُفي صار لم يحيطوا بعلمه ، أي وكان الحق أن يحيطوا بعلمه لأن توفر أدلة صدقه يحتاج إلى زيادة تأمل وتدقيق نظر بحيث يتعين على الناظر عِلمُ أدلته ثم إعادةُ التأمل فيها وتسليط علم على علم ونظر على نظر بحيث تحصل الإحاطة بالعلم . وفي هذا مبالغة في فرط احتياجه إلى صدق التأمل ، ومبالغة في تجهيل الذين بادروا إلى التكذيب من دون تأمل في شيء حقيق بالتأمل بعد التأمل .
والمعنى أنهم سارعوا إلى التكذيب بالقرآن في بديهة السماع قبل أن يفقهوه ويعلموا كنه أمره وقبل أن يتدبروه . وإنما يكون مثل هذا التكذيب عن مكابرة وعداوة لا عن اعتقاد كونِه مكذوباً . ثم إن عدم الإحاطة بعلمه متفاوت : فمنه عدم بحت وهو حال الدهماء ، ومنه عدم في الجملة وهو ما يكون بضرب من الشبهة والتردد أو يكون مع رجحان صدقه ولكن لا يحيط بما يؤدي إليه التكذيب من شديد العقاب . ونظير هذه الآية في سورة [ النمل : 84 ] { قال أكذَّبتم بآياتي ولم تُحيطوا بها علماً أم ماذا كنتم تعملون } .
وجملة : { ولماَّ يأتهم تأويله } معطوفة على الصلة ، أي كذبوا بما لمّا يأتهم تأويله . وهذا ارتقاء في وصفهم بقلة الأنَاةِ والتثبت ، أي لو انتظروا حتى يأتيهم تأويل القرآن ، أي ما يحتاج منه إلى التأويل بل هم صمموا على التكذيب قبل ظهور التأويل .
والتأويل : مشتق من آل إذا رجع إلى الشيء . وهو يطلق على تفسير اللفظ الذي خفي معناه تفسيراً يظهر المعنى ، فيؤول واضحاً بعد أن كان خفياً ، ومنه قوله تعالى : { وما يعلم تأويله إلا الله } [ آل عمران : 7 ] الآية . وهو بهذا الإطلاق قريب من معنى التفسير . وقد مرَّ في سورة آل عمران وفي المقدمة الأولى من هذا التفسير . ويطلق التأويل على اتضاح ما خفي من معنى لفظ أو إشارة ، كما في قوله تعالى : { هذا تأويل رؤْياي من قبل } [ يوسف : 100 ] وقوله : { هل ينظرون إلا تأويله } [ الأعراف : 53 ] أي ظهور ما أنذرهم به من العذاب . والتأويل الذي في هذه الآية يحتمل المعنيين ولعل كليهما مراد ، أي لما يأتهم تأويل ما يدَّعون أنهم لم يفهموه من معاني القرآن لعدم اعتيادهم بمعرفة أمثالها ، مثل حكمة التشريع ، ووقوع البعث ، وتفضيل ضعفاء المؤمنين على صناديد الكافرين ، وتنزيل القرآن منجماً ، ونحو ذلك . فهم كانوا يعتبرون الأمور بما ألفوه في المحسوسات وكانوا يقيسون الغائب على الشاهد فكذبوا بذلك وأمثاله قبل أن يأتيهم تأويله . ولو آمنوا ولازموا النبي صلى الله عليه وسلم لعلموها واحدةً بعد واحدة . وأيضاً لما يأتهم تأويل ما حسبوا عدم التعجيل به دليلاً على الكذب كما قالوا : { إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ايتنا بعذاب أليم } [ الأنفال : 32 ] ظناً أنهم إن استغضبوا الله عَجَّل لهم بالعذاب فظنوا تأخر حصول ذلك دليلاً على أن القرآن ليس حقاً من عنده . وكذلك كانوا يسألون آيات من الخوارق ، كقولهم : { لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً } [ الإسراء : 90 ] الآية . ولو أسلموا ولازموا النبي عليه الصلاة والسلام لعلموا أن الله لا يعبأ باقتراح الضُلال .
وعلى الوجهين فحرف { لمّا } موضوع لنفي الفعل في الماضي والدلالة على استمرار النفي إلى وقت التكلم ، وذلك يقتضي أن المنفي بها متوقَّع الوقوع ، ففي النفي بها هنا دلالة على أنه سيجيء بيان ما أجمل من المعاني فيما بعد ، فهي بذلك وعد ، وأنه سيحِل بهم ما توعدهم به ، كقوله : { يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا } [ الأعراف : 53 ] الآية . فهي بهذا التفسير وعيد .
وجملة : { كذلك كذّب الذين من قبلهم } استئناف . والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم أو لمن يتأتى منه السماع . والإشارة ب { كذلك } إلى تكذيبهم المذكور ، أي كان تكذيب الذين مِن قبلهم كتكذيبهم ، والمراد بالذين من قبلهم الأممُ المكذبون رسلهم كما دل عليه المشبه به .
ومما يقصد من هذا التشبيه أمور :
أحدها : أن هذه عادة المعاندين الكافرين ليعلم المشركون أنهم مماثلون للأمم التي كذبت الرسل فيعتبروا بذلك .
الثاني : التعريض بالنذارة لهم بحلول العذاب بهم كما حل بأولئك الأمم التي عرف السامعون مصيرها وشاهدوا ديارها .
الثالث : تسلية النبي صلى الله عليه وسلم بأنه ما لقي من قومه إلا مثل ما لقي الرسل السابقون من أقوامهم .
ولذلك فرع على جملة التشبيه خطابُ النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : { فانظر كيف كان عاقبة الظالمين } أي عاقبة الأمم التي ظلمت بتكذيب الرسل كما كذب هؤلاء .
والأمر بالنظر في عاقبة الظالمين مقصود منه قياس أمثالهم في التكذيب عليهم في ترقب أن يحل بهم من المصائب مثل ما حل بأولئك لتعلم عظمة ما يلاقونك به من التكذيب فلا تحسبن أنهم مفلتون من العذاب . والنظر هنا بصري .
و{ كيف } يجوز أن تكون مجردة عن الاستفهام ، فهي اسم مصدر للحالة والكيفية ، كقولهم : كن كيف شئت . ومنه قوله تعالى : { هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء } في سورة [ آل عمران : 6 ] . فكيف } مفعول به لفعل { انظر } ، وجملة : { كان عاقبة الظالمين } صفة { كيف } . والمعنى انظر بعينك حالة صفتها كان عاقبة الظالمين ، وهي حالة خراب منازلهم خراباً نشأ من اضمحلال أهلها .
ويجوز أن تكون { كيف } اسم استفهام ، والمعنى فانظر هذا السؤال ، أي جوابَ السؤال ، أي تدَبره وتفكَّر فيه . و { كيفَ } خبر { كان } . وفعل النظر معلق عن العمل في مفعوليه بما في { كيف } من معنى الاستفهام .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه} إذ زعموا أن لا جنة، ولا نار ولا بعث،
{ولما يأتيهم تأويله} يعني بيانه،
{كذلك كذب الذين من قبلهم} من الأمم الخالية،
{فانظر كيف كان عاقبة الظالمين} يعني المكذبين بالبعث.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ما بهؤلاء المشركين يا محمد تكذيبك، ولكن بهم التكذيب "بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بعِلْمِهِ "مما أنزل الله عليك في هذا القرآن من وعيدهم على كفرهم بربهم، "وَلمّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ" يقول: ولما يأتهم بعد بيان ما يؤول إليه ذلك الوعيد الذي توعدهم الله في هذا القرآن.
"كذلكَ كَذّبَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ" يقول تعالى ذكره: كما كذّب هؤلاء المشركون يا محمد بوعيد الله، كذلك كذّب الأمم التي خلت قبلهم بوعيد الله إياهم على تكذيبهم رسلهم وكفرهم بربهم.
"فانْظُرُ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظّالِمِين" يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فانظر يا محمد كيف كان عقبىَ كفر من كفر بالله، ألم نهلك بعضهم بالرجفة وبعضهم بالخسف وبعضهم بالغرق؟ يقول: فإن عاقبة هؤلاء الذي يكذّبونك ويجحدون بآياتي من كفار قومك، كالتي كانت عاقبة من قبلهم من كفرة الأمم، إن لم ينيبوا من كفرهم ويسارعوا إلى التوبة.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
(بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ) قال بعضهم: ما لم يحفظوا نظمه ولا لفظه، ولا نظروا فيه، ولا تدبروا ليعلموا (بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ) بالبديهة. والشيء إنما يعرف كذبه وصدقه بالنظر فيه والتفكر والتدبر لا بالبديهة، فذلك، والله أعلم، تأويل قوله (بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ) كذبوا على علم منهم أنهم كذبة في ما يقولون، وينقلون أنه مفترى ليس بمنزل.
قيل: التأويل هو رد كل شيء إلى أولية الأمر. وقالت الحكماء: التأويل آخر كل فعل: هو قصد في أوله، وقصد كل شيء في أوله هو آخره في فعل أو نحوه.
وقال بعضهم: (ولما يأتهم تأويله) ما وعد الله أن يكون قبل أن يكون، وقال ابن عباس رضي الله عنه: تأويل القرآن بما يكون منه في الدنيا وبما يكون منه يوم القيامة، وهو العذاب الذي وعد...
وأصل التأويل هو النظر إلى ما تؤول عاقبة الأمر.
وقوله تعالى: (كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) يحتمل وجهين:
أحدهما: أي كذلك كذب الأمم السابقة رسلهم كما كذب كفار مكة رسولهم؛ أي لست أنت بأول مكذب، بل كذب من كان قبلك من إخوانك ليكون له التسلي عما هو فيه من تكذيبهم إياه وردهم عليه أنه ينزل بهم ما نزل بأولئك، إن هم أقاموا على ما هم عليه.
والثاني: أن يكون الخطاب، وإن كان خارجا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فهو راجع إلى قومه، يأمر بالنظر في ما نزل بالأمم السالفة، وأن يتأملوا أحوالهم ليكون ذلك سببا لزجرهم عما هم فيه.
وقوله تعالى: (فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) بالتكذيب؛ أي كيف يعاقبون، ويُعَذَّبون؟ والله أعلم.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
قابلوا الحقَّ بالتكذيب لِتَقاصُر علومهم عن التحقيق، فالتحقيقُ من شرط التصديق، وإنما يؤمن بالغيب مَنْ لوَّح- سبحانه- لقلبه حقائق البرهان، وصَرَفَ عنه دواعي الرِّيَب.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{بَلْ كَذَّبُواْ}: بل سارعوا إلى التكذيب بالقرآن، وفاجأوه في بديهة السماع قبل أن يفقهوه ويعلموا كنه أمره، وقبل أن يتدبروه ويقفوا على تأويله ومعانيه وذلك لفرط نفورهم عما يخالف دينهم وشرادهم عن مفارقة دين آبائهم، كالناشئ على التقليد... إذا أحسّ بكلمة لا توافق ما نشأ عليه وألفه -وإن كانت أضوأ من الشمس في ظهور الصحة وبيان الاستقامة- أنكرها في أوّل وهلة، واشمأز منها قبل أن يحسّ إدراكها بحاسّة سمعه من غير فكر في صحة أو فساد، لأنه لم يشعر قلبه إلاّ صحة مذهبه وفساد ما عداه من المذاهب.
فإن قلت: ما معنى التوقع في قوله: {وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ}؟ قلت: معناه أنهم كذبوا به على البديهة قبل التدبر ومعرفة التأويل، تقليداً للآباء. وكذبوه بعد التدبر، تمرداً وعناداً، فذمهم بالتسرع إلى التكذيب قبل العلم به، وجاء بكلمة التوقع ليؤذن أنهم علموا بعد علو شأنه وإعجازه لما كرّر عليهم التحدّي، ورازوا قواهم في المعارضة واستيقنوا عجزهم عن مثله، فكذبوا به بغياً وحسداً {كَذَلِكَ} أي مثل ذلك التكذيب {كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} يعني قبل النظر في معجزات الأنبياء وقبل تدبرها من غير إنصاف من أنفسهم، ولكن قلدوا الآباء وعاندوا.
وقيل: هو في الذين كذبوا وهم شاكون. ويجوز أن يكون معنى {وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} ولم يأتهم بعد تأويل ما فيه من الإخبار بالغيوب أي عاقبته، حتى يتبين لهم أهو كذب أم صدق، يعني أنه كتاب معجز من جهتين: من جهة إعجاز نظمه، ومن جهة ما فيه من الإخبار بالغيوب، فتسرعوا إلى التكذيب به قبل أن ينظروا في نظمه وبلوغه حدّ الإعجاز، وقبل أن يخبروا أخباره بالمغيبات وصدقه وكذبه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم كان كأنه قيل: فقال لهم ذلك فلم يأتوا لقومهم بشبهة توجب شكاً فضلاً عن مصدق، لأنه معجز لكونه كلاماً في أعلى طبقات البلاغة بحسن النظام والجزالة منزلاً من عند الله المحيط علماً وقدرة، فهو مشتمل من كل معنى على ما علا كل العلو عن مدان {بل}. وأحسن من ذلك أنه لما أقام الدليل على أن القرآن كلامه، وكان الدليل إنما من شأنه أن يقام على من عرض له غلط أو شبهة، وكان قولهم {افتراه} لا عن شبهة وإنما هو مجرد عناد، نبه سبحانه على ذلك وعلى أنه إنما أقام الدليل لإظهار عنادهم لا لأن عندهم شبهة في كونه حقاً بالإضراب عن قولهم فقال: {بل} أي لم يقولوا {افتراه} عن اعتقاد منهم لذلك بل {كذبوا} أي أوقعوا التكذيب الذي لا تكذيب أشنع منه مسرعين في ذلك من غير أن يتفهموه مستهينين {بما لم يحيطوا بعلمه} أي في نظمه أو معناه من غير شبهة أصلاً بل عناداً وطغياناً ونفوراً مما يخالف دينهم وشراداً، فهو من باب "من جهل شيئاً عاداه "والإحاطة: إرادة ما هو كالحائط حول الشيء، فإحاطة العلم بالشيء العلم به من جميع وجوهه.
ولما كان لا بد من وقوع تأويله، وهو إتيان ما فيه من الإخبار بالمغيبات على ما هي عليه، قال: {ولما يأتهم} أي إلى زمن تكذيبهم {تأويله} أي ترجيعنا لأخباره إلى مراجعها وغاياتها حتى يعلموا أصدق هي أم كذب، فإنه معجز من جهة نظمه ومن جهة صدقه في أخباره؛ والتأويل: المعنى الذي يؤول إليه التفسير، وهو منتهى التصريح من التضمين.
ولما كان كأنه قيل: إن فعلهم هذا لعجب، فما حملهم على التمادي فيه؟ فقيل: تبعوا في ذلك من قبلهم لموافقتهم في سوء الطبع، قال مهدداً لهم ومسلياً له صلى الله عليه وسلم: {كذلك} أي مثل تكذيبهم هذا التكذيب العظيم في الشناعة قبل تدبير المعجز {كذب الذين} ولما كان المكذبون بعض السالفين، أثبت الجار فقال: {من قبلهم} أي من كفار الأمم الخالية فظلموا فأهلكناهم بظلمهم؛ ولما كان التكذيب خطراً لما يثير من السرور، سبب عنه -تحذيراً منه- النظر في عاقبة أمره فقال: {فانظر} أي بعينك ديارهم وبقلبك أخبارهم.
ولما كان من نظر هذا النظر وجد فيه أجل معتبر وأعلى مزدجر، وجه السؤال إليه بقوله: {كيف كان عاقبة} أي آخر أمر {الظالمين} أي الذين رسخت أقدامهم في وضع الأشياء في غير مواضعها حتى كذبوا من لا يجوز عليه الكذب بوجه، ومن المقطوع به أن هذا المسؤول يقول من غير تلعثم ولا تردد: عاقبة وخيمة قاصمة ذميمة؛ والعاقبة سبب تؤدي إليه البادئة، فالذي أدى إلى هلاكهم بعذاب الاستئصال ما تقدم من ظلمهم لأنفسهم وعتوهم في كفرهم.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ} هذا إضراب عن بعض ما يتضمنه قولهم (افتراء) وما يستلزمه- ككونهم يعتقدون أن محمدا صلى الله عليه وسلم كان يكذب، أو أن القرآن في جملته افتراء منه، وقد ثبت أنهم كانوا يعلمون تحريه الصدق في كل ما يقوله، وانتقال إلى بيان موضوع تكذيبهم بظنهم أنه محال في نفسه، وهو ما أنذرهم من عذاب الله لهم في الدنيا والآخرة إن لم يؤمنوا له ويتبعوه، وقد وصفهم بعدم إحاطتهم بعلمه، أي لم يعلموه من جميع وجوهه ونواحيه، وبأنه لما يأتهم تأويله، أي مصداقه إلى ذلك الوقت، مع توقع إتيانه، وبتشبيه تكذيبهم إياه بتكذيب الذين من قبلهم بمثله، فبين ما كذبوا به بهذه الصفات الثلاث.
فالوصف الأول: لما كذبوا به أنه ما لم يحيطوا بعلمه، فيكون تكذيبهم صحيحا وإنما ظنوا ظنا، والظن لا يغني من الحق شيئا،
والوصف الثاني: قوله: {ولَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} أي ولم يأتهم إلى الآن ما يؤول إليه ويكون مصداقا له بالفعل، وإتيانه متوقع بل آت لابد منه، وقد خبط المفسرون الفنيون في معنى هذا التأويل منذ القرون الوسطى، لأنهم لم يفهموا القرآن بلغته الحرة الفصحى، بل بلغة اصطلاحاتهم الفنية ولاسيما أصول الفقه والكلام. فقال بعضهم: إنهم كذبوا بما لم يفهموا معناه، وقال بعضهم: إنهم كذبوا بما لم يظهر لهم وجه الإعجاز فيه، ولو صح هذا أو ذاك لكانوا معذورين بالتكذيب طبعا، وسبب مثل هذا الغلط جعلهم التأويل تارة بمعناه عند بعض المفسرين وهو رديف التفسير، وتارة بمعناه عند المتكلمين والأصوليين، وهو صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى معنى يحتمله في اللغة بشرط موافقته للشرع، لتخرج تأويلات الباطنية وغلاة الصوفية...
وأما التأويل في لغة القرآن فله معنى واحد -لا معنى له سواه- وهو عاقبة الشيء ومآله الذي يؤول إليه، من بيان مصداقه المراد منه بالفعل، كما قلنا آنفا، وبيناه بالتفصيل في تفسير آية المحكمات والمتشابهات من سورة آل عمران التي أطال الرازي في الكلام عليها، فأخطأ محجة الصواب، وحرم الحكمة وفصل الخطاب، فكان أجدر بالخطأ هنا وقد التزم الاختصار، وأوضح الأدلة على ذلك بعد ما علمت من حمله التأويل على المعنى الاصطلاحي غفلته عن نفي إتيانه بحرف لما الدال على توقعه، إذ معناه أن تأويله لم يأتهم إلى الآن، وإتيانه متوقع بعده، وغفلته عن تشبيه تكذيبهم بتكذيب من قبلهم في الجملة الآتية، والمتبادر منه أنه وعيد الله إياهم على تكذيبهم لرسوله صلى الله عليه وسلم بالعذاب في الدنيا قبل الآخرة، ونصره عليهم، وهو ما فسر الآية به إمام المفسرين أبو جعفر محمد بن جرير الطبري...
الوصف الثالث: التشبيه الذي ذكرناه في الإجمال وهو قوله تعالى: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} شبه تكذيب مشركي مكة لمحمد صلى الله عليه وسلم بتكذيب من قبلهم من مشركي الأمم لرسلهم بما لم يحيطوا بعلمه قبل أن يأتيهم تأويله من عذاب الله الذي أوعدهم به، كما ترى في قصصهم المفسرة في السور العديدة ولاسيما سورة الشعراء المبدوءة فيها بقوله: {كذبت قوم نوح المرسلين} [الشعراء: 105] {كذبت عاد المرسلين} [الشعراء: 123] {كذبت ثمود المرسلين} [الشعراء:141]، ثم ذكر لفظ التكذيب في وعيدهم كقول هود لقومه: {إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم} إلى قوله: {فكذبوه فأهلكناهم إن في ذلك لآية} [الشعراء: 139] الخ، وقول صالح لقومه بعدهم إذ أتتهم آية الناقة: {ولَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ * فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ* فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ} [الشعراء: 156 158] الخ، فهذا تأويله المراد من قوله هنا.
{فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} أي فانظر أيها الرسول أو العاقل المعتبر كيف كان عاقبة الظالمين لأنفسهم بتكذيب رسلهم، وهو تأويل وعيدهم لهم، لتعلم مصير الظالمين من بعدهم، وهذه العاقبة مبنية بالإجمال في قوله: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا ومِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ ومِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ ومِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ ولَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت: 40] وسيأتي ما يؤيد ما قررناه كله قريبا في الآيات (46 و55).
وقد أنذر الله قوم محمد صلى الله عليه وسلم ما نزل بالأمم قبلهم في الدنيا بهذه الآية وغيرها من هذه السورة وفي سور كثيرة كما أنذرهم عذاب الآخرة، وكذبه المعاندون المقلدون في كل منهما ظانين أنه لا يقع، لا غير فاهمين لمعناه أو لإعجازه، ولكن قضت حكمته تعالى حفظ قومه من تكذيب أكثرهم، وما يقتضيه من أخذ عذاب الاستئصال لهم، وراجع إلى قوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 53] الخ تعلم علم اليقين أن ما قررناه هو حق اليقين الذي لا تقبل غيره لغة القرآن، وأنه هو الذي يتفق مع سائر الآيات... وأما تلقين المسلمين أنفسهم للعقائد وقواعد الإسلام فيجب أن يعتمد فيها على آيات القرآن والمأثور في الأحاديث وسيرة الصحابة وعلماء التابعين وأئمة الهدى قبل ظهور البدع، ومن أكبر الضلال أن يعتمد فيها على أقولة المتكلمين، فتجعل أصلا ترد إليها آيات القرآن المبين، إيثارا لبيانهم على بيانه...