قوله تعالى : { قيماً } فيه تقديم وتأخير ، معناه : أنزل على عبده الكتاب قيماً ، ولم يجعل له عوجاً ، قيماً أي : مستقيماً . قال ابن عباس : عدلاً . وقال الفراء : قيماً على الكتب كلها أي : مصدقاً لها ناسخاً لشرائعها . وقال قتادة : ليس على التقديم والتأخير ، بل معناه : أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً ، ولكن جعله قيماً ولم يكن مختلف على ما قال الله تعالى : { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً } [ النساء – 82 ] . وقيل : معناه لم يجعله مخلوقاً . وروي عن ابن عباس في قوله : { قرآناً عربياً غير ذي عوج } [ الزمر – 28 ] أي : غير مخلوق . { لينذر بأساً شديداً } أي : لينذر ببأس شديد ، { من لدنه } أي : من عنده { ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً حسناً } أي الجنة .
وقوله { لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ } أي : لينذر بهذا القرآن الكريم ، عقابه الذي عنده ، أي : قدره وقضاه ، على من خالف أمره ، وهذا يشمل عقاب الدنيا وعقاب الآخرة ، وهذا أيضا ، من نعمه أن خوف عباده ، وأنذرهم ما يضرهم ويهلكهم .
كما قال تعالى -لما ذكر في هذا القرآن وصف النار- قال : { ذلك يخوف الله به عباده يا عباد فاتقون } فمن رحمته بعباده ، أن قيض العقوبات الغليظة على من خالف أمره ، وبينها لهم ، وبين لهم الأسباب الموصلة إليها .
{ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا } أي : وأنزل الله على عبده الكتاب ، ليبشر المؤمنين به ، وبرسله وكتبه ، الذين كمل إيمانهم ، فأوجب لهم عمل الصالحات ، وهي : الأعمال الصالحة ، من واجب ومستحب ، التي جمعت الإخلاص والمتابعة ، { أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا } وهو الثواب الذي رتبه الله على الإيمان والعمل الصالح ، وأعظمه وأجله ، الفوز برضا الله ودخول الجنة ، التي فيها ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر . وفي وصفه بالحسن ، دلالة على أنه لا مكدر فيه ولا منغص بوجه من الوجوه ، إذ لو وجد فيه شيء من ذلك لم يكن حسنه تاما .
{ لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ } أي : لمن خالفه وكذبه ولم يؤمن به ، ينذره بأسًا شديدًا ، عقوبة عاجلة في الدنيا وآجلة في الآخرة { مِنْ لَدُنْهُ } أي : من عند الله الذي لا يُعَذّب عذابه أحد ، ولا يوثق وثاقه أحد .
{ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ } أي : بهذا القرآن الذين صدقوا إيمانهم بالعمل الصالح { أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا } أي : مثوبة عند الله جميلة .
{ قيّماً } مستقيما معتدلا لا إفراط فيه ولا تفريط ، أو { قيما } بمصالح العباد فيكون وصفا له بالتكميل بعد وصفه بالكمال ، أو على الكتب السابقة يشهد بصحتها ، وانتصابه بمضمر تقديره جعله قيما أو على الحال من الضمير في { له } ، أو من { الكتاب } على أن الواو { ولم يجعل } للحال دون العطف ، إذ لو كان للعطف لكان المعطوف فاصلا بين أبعاض المعطوف عليه ولذلك قيل فيه تقديم وتأخير { قيما } . { ليُنذر بأسا شديدا } أي لينذر الذين كفروا عذبا شديدا ، فحذف المفعول الأول اكتفاء بدلالة القرينة واقتصارا على الغرض المسوق إليه . { من لدنه } صادرا من عنده ، وقرأ أبو بكر بإسكان الدال كإسكان الباء من سبع مع الإشمام ليدل على أصله ، وكسر النون لالتقاء الساكنين وكسر الهاء للإتباع . { ويبشّر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا } هو الجنة .
و { قيماً } حال من { الكتاب } أو من ضميره المجرور باللام ، لأنه إذا جعل حالاً من أحدهما ثبت الاتصاف به للآخر إذ هما شيء واحد ، فلا طائل فيما أطالوا به من الإعراب .
والقيم : صفة مبالغة من القيام المجازي الذي يطلق على دوام تعهد شيء وملازمة صلاحه ، لأن التعهد يستلزم القيام لرؤية الشيء والتيقظ لأحواله ، كما تقدم عند قوله تعالى : { الحي القيوم } في سورة البقرة ( 255 ) .
والمراد به هنا أنه قيم على هدي الأمة وإصلاحها ، فالمراد أن كماله متعدّ بالنفع ، فوزانه وزان وصفه بأنه { هدى للمتقين } في سورة البقرة : ( 2 ) .
والجمع بين قوله : { ولم يجعل له عوجاً } وقوله : { قيماً } كالجمع بين { لا ريب فيه } [ البقرة : 2 ] وبين { هدى للمتقين } [ البقرة : 2 ] وليس هو تأكيداً لنفي العوج .
{ لِّيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنْهُ }
{ لينذر } متعلق ب { أنزل } . والضمير المرفوع عائد إلى اسم الجلالة ، أي لينذر الله بأساً شديداً من لدنه ، والمفعول الأول ل { ينذر } محذوف لقصد التعميم ، أو تنزيلاً للفعل منزلة اللازم لأن المقصود المنذَر به وهو البَأس الشديد تهويلاً له ولتهديد المشركين المنكرين إنزال القرآن من الله .
والبأس : الشدة في الألم . ويطلق على القوة في الحرب لأنها تؤلم العدو . وقد تقدم في قوله تعالى : { والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس } من سورة البقرة ( 177 ) . والمراد هنا : شدة الحال في الحياة الدنيا ، وذلك هو الذي أطلق على اسم البأس في القرآن ، وعليه درج الطبري . وهذا إيماء بالتهديد للمشركين بما سيلقونه من القتل والأسر بأيدي المسلمين ، وذلك بأس من لدنه تعالى لأنه بتقديره وبأمره عباده أن يفعلوه ، فاستعمال ( لدن ) هنا في معنييه الحقيقي والمجازي .
وليس في جعل الإنذار ببأس الدنيا علّةً لإنزال الكتاب ما يقتضي اقتصار عِلل إنزاله على ذلك ، لأن الفعل الواحد قد تكون له علل كثيرة يذكر بعضُها ويُترك بعض .
وإنما آثَرْتُ الحمل على جعل اليأس الشديد بأسَ الدنيا للنقصي مما يرد على إعادة فعل { وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا } [ الكهف : 4 ] كما سيأتي .
ويجوز أن يراد بالبأس عذابُ الآخرة فإنه بأس شديد ، ويكون قوله : من لدنه } مستعملاً في حقيقته . وبهذا الوجه فسر جمهور المفسرين .
ويجوز أن يراد بالبأس الشديد ما يشمل بأس عذاب الآخرة وبأس عذاب الدنيا ، وعلى هذا درج ابن عطية والقرطبي ، ويكون استعمال من { لدنه } في معنييه الحقيقي والمجازي ، أما في عذاب الآخرة فظاهر ، وأما في عذاب الدنيا فلأن بعضه بالقتل والأسر وهما من أفعال الناس ولكن الله أمر المسلمين بهما فهما من لدنه .
وحذف مفعول { ينذر } لدلالة السياق عليه لظهور أنه ينذر الذين لم يؤمنوا بهذا الكتاب ولا بالمنزل عليه ، ولدلالة مقابله عليه في قوله : { ويبشر المؤمنين } .
عطف على قوله : { لينذر بأساً } ، فهو سبب آخر لإنزال الكتاب أثارته مناسبة ذكر الإنذار ليبقى الإنذار موجهاً إلى غيرهم .
وقوله : { أن لهم أجراً حسناً } متعلق ب { يبشر } بحذف حرف الجر مع ( أن ) ، أي بأن لهم أجراً حسناً . وذكر الإيمان والعمل الصالح للإشارة إلى أن استحقاق ذلك الأجر بحصول ذلك لأمرين . ولا يتعرض القرآن في الغالب لحالة حصول الإيمان مع شيء من الأعمال الصالحة كثيرٍ أو قليلٍ ، ولحُكْمِهِ أدلة كثيرة .