روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{قَيِّمٗا لِّيُنذِرَ بَأۡسٗا شَدِيدٗا مِّن لَّدُنۡهُ وَيُبَشِّرَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمۡ أَجۡرًا حَسَنٗا} (2)

{ قَيِّماً } أي مستقيماً كما أخرجه ابن المنذر عن الضحاك وروى أيضاً عن ابن عباس ، والمراد مما قبل أنه لا خلل في لفظه ولا في معناه ، والمراد من هذا أنه معتدل لا إفراط فيما اشتمل عليه من التكاليف حتى يشق على العباد ولا تفريط فيه بإهمال ما يحتاج إليه حتى يحتاج إلى كتاب آخر كما قال سبحانه : { مَّا فَرَّطْنَا في الكتاب مِن شيء } [ الأنعام : 38 ] ولذا كان آخر الكتب المنزل على خاتم الرسل عليه الصلاة والسلام ، وقيل المراد منه ما أريد مما قبله وذكره للتأكيد .

وقال الفراء : المراد قيماً على سائر الكتب السماوية شاهداً بصحتها . وقال أبو مسلم : المراد قيماً بمصالح العباد متكفلاً بها وببيانها لهم لاشتماله على ما ينتظم به المعاش والمعاد وهو على هذين القولين تأسيس أيضاً لا تأكيد فكأنه قيل كاتباً صادقاً في نفسه مصدقاً لغيره أو كتاباً خالياً عن النقائض حالياً بالفضائل وقيل المراد على الأخير أنه كامل في نفسه ومكمل لغيره ، ونصبه بمضمر أي جعله قيماً على أن الجملة مستأنفة أو جعله قيماً على أنها معطوفة على ما قبل إلا أنه قيل إن حذف حرف العطف مع المعطوف تكلفّ ؛ وكان حفص يسكت على { عِوَجَا } سكتة خفيفة ثم يقول { قَيِّماً } .

واختار غير واحد أنه على الحال من الضمير في { لَهُ } [ الكهف : 1 ] أي لم يجعل له عوجاً حال كونه مستقيماً ولا عوج فيه على ما سمعت أولاً من معنى المستقيم إذ محصله أنه تعالى صانه عن الخلل في اللفظ والمعنى حال كونه خالياً عن الإفراط والتفريط ، وكذا على القولين الأخيرين ، نعم قيل : إن جعله حالا من الضمير مع تفسير المستقيم بالخالي عن العوج ركيك .

وتعقبه بعضهم بأنه تندفع الركاكة بالحمل على الحال المؤكدة كما في قوله تعالى : { ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ } [ التوبة : 25 ] وفيه بحث ، وجوز أن يكون حالا من الكتاب ، واعترض بأنه يلزم حينئذ العطف قبل تمام الصلة لأن الحال بمنزلة جزء منها ، وأجيب بأنه يجوز أن يجعل { وَلَمْ يَجْعَل } [ الكهف : 1 ] الخ من تتمة الصلة الأولى على أنه عطف بياني حيث قال تعالى : { أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب } [ الكهف : 1 ] الكامل في بابه عقبه بقوله سبحانه : { وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا } [ الكهف : 1 ] فحينئذ لا يكون الفصل قبل تمام الصلة ، وهو نظير قوله تعالى : { وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله وَكُفْرٌ بِهِ والمسجد الحرام } [ البقرة : 217 ] وعلى قول . وأيضاً يجوز أن يكون الواو في { وَلَمْ يَجْعَل } [ الكهف : 1 ] للحال والجملة بعده حال من { الكتاب } [ الكهف : 1 ] كقيما واختاره الأصبهاني .

وقال أبو حيان : إن ذاك على مذهب من يجوز وقوع حالين من ذي حال واحد بغير عطف وكثير من أصحابنا على منعه ، وقال آخر : إن قياس قول الفارسي في الخبر أنه لا يتعدد مختلفاً بالأفراد والجملية أن يكون الحال كذلك .

وأجيب بأنه غير وارد إذ ما ذكره الفارسي خلاف مذهب الجمهور مع أنه قياس مع الفارق فلا يسمع ، وكذا ما ذكره أبو حيان عن الكثير خلاف المعول عليه عند الأكثر ، نعم فراراً من القيل والقال جعل بعضهم الواو للاعتراض والجملة اعتراضية ، وفي الكلام تقديم وتأخير والأصل الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب قيما ولم يجعل له عوجاً ، وروي القول بالتقديم والتأخير عن ابن عباس . ومجاهد ، وذكر السمين أن ابن عباس حيث وقعت جملة معترضة في النظم يجعلها مقدمة من تأخير ، ووجه ذلك بأنها وقعت بين لفظين مرتبطين فهي في قوة الخروج من بينهما ، ولما كان { قَيِّماً } يفيد استقامة ذاتية أو ثابتة لكونه صفة مشبهة وصيغة مبالغة ، وما من شيء كذلك إلا وقد يتوهم فيه أدنى عوج ذكر قوله تعالى : { وَلَمْ يَجْعَل } [ الكهف : 1 ] الخ للاحتراس ، وقدم للاهتمام كما في قوله :

ألا يا اسلمي يا دار مي على البلا*** ولا زال منهلا بجرعائك القطر

ومن هنا يعلم أن تفسير القيم بالمستقيم بالمعنى المتبادر ، وان قول الزمخشري فائدة الجمع بينه وبين نفي العوج التأكيد فرب مستقيم مشهود له بالاستقامة ولا يخلو من أدنى عوج عند السبر والتصفح غير ذي عوج عند السبر والتصفح ، وأنه لا يرد قول الإمام إن قوله تعالى : { لَّمْ يَجْعَلِ لَّهُ عِوَجَا } [ الكهف : 1 ] يدل على كونه مكملاً في ذاته ، وقوله سبحانه : { قَيِّماً } يدل على كونه مكملاً لغيره ، فثبت بالبرهان العقلي أن الترتيب الصحيح كما ذكره الله تعالى وان ما ذكروه من التقديم والتأخير فاسد يمتنع العقل من الذهاب إليه انتهى .

ولعمري أن هذا الكلام لا ينبغي من الإمام إن صح عنده أن القول المذكور مروى عن ابن عباس ومجاهد ، فإن الأول ترجمان القرآن وناهيك به جلالة ومعرفة بدقائق اللسان ، وقد قيل في الثاني إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك ، وقال صاحب حل العقد : يمكن أن يكون قيما بدلاً من قوله تعالى : { وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا } [ الكهف : 1 ] قال أبو حيان : ويكون حينئذ بدل مفرد من جملة كما قالوا في عرفت زيداً أبو من هو إنه بدل جملة من مفرد ، وفي جواز ذلك خلاف ، هذا وزعم بعضهم أن ضمير { لَهُ } [ الكهف : 1 ] عائد على { عَبْدِهِ } [ الكهف : 1 ] وحينئذ لا يتأتى جميع التخاريج الإعرابية السابقة ، وقرأ أبان بن ثعلب { قَيِّماً } بكسر القاف وفتح الياء المخففة ؛ وفي بعض مصاحف الصحابة { وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا قَيِّماً } وحمل ذلك على أنه تفسير لا قراءة { لّيُنذِرَ } متعلق ب { انزل } [ الكهف : 1 ] واللام للتعليل ، واستدل به من قال بتعليل أفعال الله تعالى بالإغراض كالسلف والماتريدية ، ومن يأبى ذلك بجعلها لام العاقبة ، وزعم الحوفي أنه متعلق بقيما وليس بقيم ، والفاعل ضمير الجلالة ، وكذا في الفعلين المعطوفين عليه ، وجوز أن يكون الفاعل في الكل ضمير { الكتاب } [ الكهف : 1 ] أو ضميره صلى الله عليه وسلم ، وأنذر يتعدى لمفعولين قال تعالى : { أنذرناكم عَذَاباً قَرِيباً } [ النبأ : 40 ] وحذف هنا المفعول الأول واقتصر على الثاني ، وهو قوله تعالى : { بَأْسًا شَدِيدًا } إيذاناً بأن ما سيق له الكلام هو المفعول الثاني ، وأن الأول ظاهر لا حاجة إلى ذكره وهو الذين كفروا بقرينة ما بعد ، والمراد الذين كفروا بالكتاب ، والظاهر أن المراد من البأس الشديد عذاب الآخرة لا غير ، وقيل يحتمل أن يندرج فيه عذاب الدنيا { مِن لَّدُنْهُ } أي صادرا من عنده تعالى نازلاً من قبله بمقابلة كفرهم فالجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع صفة ثانية للبأس ، ولدن هنا بمعنى عند كما روي عن قتادة ، وذكر الراغب أنه أخص منه لأنه يدل على ابتداء نهاية نحو أقمت عنده من لدن طلوع الشمس إلى غروبها ، وقد يوضع موضع عند .

وقال بعضهم : إن { لَّدُنْ } أبلغ من عند وأخص وفيه لغات ، وقرأ أبو بكر عن عاصم بإشمام الدال بمعنى تضعيف الصوت بالحركة الفاصلة بين الحرفين فيكون إخفاء لها وبكسر النون لالتقاء الساكنين وكسر الهاء للاتباع ، ويفهم من كلام بعضهم أنه قرأ بالإسكان مع الاشمام بمعنى الإشارة إلى الحركة بضم الشفتين مع انفراج بينهما فاستشكل في الدر المصون . وغيره بأن هذا الاشمام إنما يتحقق في الوقف على الآخر وكونه في الوسط كما هنا لا يتصور ، ولذا قيل : إنه يؤتى به هنا بعد الوقف على الهاء . ودفع الاعتراض بأنه لا يدل حينئذ على حركة الدال وقد علل به بأنه متعين إذ ليس في الكلمة ما يصلح أن يشار إلى حركته غيرها ، ولا يخفي ما فيه ، وما قدمناه حاسم لمادة الإشكال . وقرأ الجمهور بضم الدال والهاء وسكون النون إلا أن ابن كثير يصل الهاء بواو وغيره لا يصل { وَيُبَشّرُ } بالنصب عطف على { ينذر } وقرئ شاذاً بالرفع .

وقرأ حمزة . والكسائي { أَقْوَمُ وَيُبَشّرُ } بالتخفيف { المؤمنين } أي المصدقين بالكتاب كما يشعر به وكذا بما تقدم ذكر ذلك بعد الامتنان بإنزال الكتاب { الذين يَعْمَلُونَ الصالحات } أي الأعمال الصالحة التي بينت في تضاعيفه ، وإيثار صيغة الاستقبال في الصلة للإشعار بتجدد العمل واستمراره ، وإجراء الموصول على موصوفه المذكور لما أن مدار قبول العمل الإيمان { أَنَّ لَهُمْ } أي بأن لهم بمقابلة إيمانهم وعملهم المذكور { أَجْرًا حَسَنًا } هو كما قال السدى وغيره الجنة وفيها من النعيم المقيم والثواب العظيم ما فيها ، ويؤيد كون المراد به الجنة ظاهر قوله تعالى : { مَّاكِثِينَ فِيهِ } أي مقيمين في الأجر { أَبَدًا } من غير انتهاء لزمان مكثهم .

( هذا ومن باب الإشارة ) :{ قَيِّماً } قد تقدم في التفسير أن الضمير المجرور عائد على { الكتاب } وجعله بعض أهل التأويل عائداً على { عَبْدِهِ } أي لم يجعل له عليه الصلاة والسلام انحرافاً عن جنابه وميلاً إلى ما سواه وجعله مستقيماً في عبوديته سبحانه ، وجعل الأمر في قوله تعالى { فاستقم كَمَا أُمِرْتَ } [ هود : 112 ] أمر تكوين { لِّيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مّن لَّدُنْهُ } وهو بأس الحجاب والبعد عن الجناب وذلك أشد العذاب { كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ } [ المطففين : 15 ] { وَيُبَشّرُ المؤمنين الذين يَعْمَلُونَ الصالحات } وهي الأعمال التي أريد بها وجه الله تعالى لا غير ، وقيل العمل الصالح التبري من الوجود بوجود الحق { أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا } [ الكهف : 2 ] وهي رؤية المولى ومشاهدة الحق بلا حجاب