الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{قَيِّمٗا لِّيُنذِرَ بَأۡسٗا شَدِيدٗا مِّن لَّدُنۡهُ وَيُبَشِّرَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمۡ أَجۡرًا حَسَنٗا} (2)

قوله : { قَيِّماً } : فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنَّه حالٌ من " الكتاب " . والجملةُ مِنْ قولِه " ولم يَجْعَلْ " اعتراضٌ بينهما . وقد مَنَع الزمخشريُّ ذلك فقال : " فإنْ قُلْتَ : بم انتصَبَ " قَيِّماً " ؟ قلت : الأحسنُ أن ينتصِبَ بمضمرٍ ، ولم يُجْعَلْ حالاً من " الكتابَ " لأنَّ قولَه " ولم يَجْعَلْ " معطوفٌ على " أَنْزَلَ " فهو داخلٌ في حَيِّزِ الصلةِ ، فجاعِلُه حالاً فاصِلٌ بين الحالِ وذي الحالِ ببعضِ الصلةِ " . وكذلك قال أبو البقاء . وجوابُ هذا ما تقدَّمَ مِنْ أَنَّ الجملةَ اعتراضٌ لا معطوفةٌ على الصلةِِ .

الثاني : أنَّه حالٌ مِنَ الهاءِ في " له " . قال أبو البقاء : " والحالُ موكِّدةٌ . وقيل : منتقلةٌ " . قلت : القولُ بالانتقالِ لا يَصِحُّ .

/خ2

وفَعَلَ حفص في مواضعَ من القرآن مثلَ فِعْلِهِ هنا مِنْ سكتةٍ لطيفةٍ نافيةٍ لوَهْمٍ مُخِلٍّ . فمنها : أَنَّه كان يقفُ على " مَرْقَدِنا " ، ويَبْتدئ : { هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ } [ يس : 52 ] . قال : " لئلا يُتَوَهَّمَ أنَّ " هذا " صفةٌ ل " مَرْقَدِنا " فالوقفُ يبيَِّن أنَّ كلامَ الكفارِ انقَضى ، ثم ابتُدِئ بكلامِ/ غيرِهم . قيل : هم الملائكةُ . وقيل : هم المؤمنون . وسيأتي في يس ما يَقْتضي أنْ يكونَ " هذا " صفةً ل " مَرْقَدِنا " فيفوتُ ذلك .

ومنها : { وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ } [ القيامة : 27 ] . كان يقف على نونِ " مَنْ " ويَبْتَدِئ " راقٍ " قال : لئلا يُتَوَهَّمَ أنَّها كلمةٌ واحدةٌ على فَعَّال اسمَ فاعلٍ للمبالغة مِنْ مَرَق يَمْرُق فهو مَرَّاق .

ومنها : { بَلْ رَانَ } [ المطففين : 14 ] كان يقفُ على لام بل ، ويَبْتدئ " رانَ " لِما تقدَّم .

قال المهدويُّ : " وكان يَلْزَمُ حفصاً مثلُ ذلك ، فيما شاكَلَ هذه المواضِعَ ، وهو لا يَفعلُه ، فلم يكن لقراءتِه وَجْهٌ من الاحتجاجِ إلا اتباعُ الأثَرِ في الرواية " . قال أبو شامة : " أَوْلَى من هذه المواضعِ بمراعاةِ الوقفِ عليها : " ولا يَحْزُنْكَ قولُهم .

{ إِنَّ الْعِزَّةَ للَّهِ جَمِيعاً } [ يونس : 65 ] ، الوقفُ على " قَوْلُهم " لئلا يُتَوَهَّم أنَّ ما بعده هو المقولُ " ، وكذا { أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ * الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ } [ غافر : 67 ] ينبغي أن يُعْتَنَى بالوقفِ على " النار " لئلا تُتَوَهَّم الصفةُ " .

قلت : وَتَوَهُّمُ هذه الأشياءِ مِنْ أبعدِ البعيدِ . وقال أبو شامةَ أيضاً : " ولو لَزِم الوقفُ على اللامِ والنونِ ليَظْهرا لَلَزِمَ ذلك في كلِّ مُدْغَمٍ " . قلت : يعني في " بَلْ رَان " وفي " مَنْ راقٍ " .

قوله : " لِيُنْذِرَ " في هذه اللامِ وجهان ، أحدُهما : أنَّها متعلقةٌ ب " قَيِّماً " قاله الحوفيُّ . والثاني : -وهو الظاهرُ- أنها تتعلَّق ب " أَنْزَلَ " . وفاعلُ " لِيُنْذِرَ " يجوز أن يكونَ " الكتابَ " وأن يكونَ الله ، وأن يكون الرسول .

و " أَنْذَرَ " يتعدَّى لاثنين : { إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً } [ النبأ : 40 ]

{ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً } [ فصلت : 13 ] . ومفعولُه الأولُ محذوفٌ ، فقدَّره الزمخشريُّ : " ليُنْذِرَ الذين كفروا ، وغيره : " ليُنْذِرَ العبادَ " ، أو " لِيُنْذِرَكم " ، أو لِيُنْذِرَ العالَم . وتقديرُه أحسنُ لأنه مقابلٌ لقولِه { وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ } ، وهو ضِدَّهم .

/خ4