البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{قَيِّمٗا لِّيُنذِرَ بَأۡسٗا شَدِيدٗا مِّن لَّدُنۡهُ وَيُبَشِّرَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمۡ أَجۡرًا حَسَنٗا} (2)

و { قيماً } تأكيد لإثبات الاستقامة إن كان مدلوله مستقيماً وهو قول ابن عباس والضحاك .

وقيل : { قيماً } بمصالح العباد وشرائع دينهم وأمور معاشهم ومعادهم .

وقيل : { قيماً } على سائر الكتب بتصديقها .

واختلفوا في هذه الجملة المنفية ، فزعم الزمخشري أنها معطوفة على { أنزل } فهي داخلة في الصلة ، ورتب على هذا أن الأحسن في انتصاب { قيماً } أن ينتصب بفعل مضمر ولا يجعل حالاً من { الكتاب } لما يلزم من ذلك وهو الفصل بين الحال وذي الحال ببعض الصلة ، وقدره جعله { قيماً } .

وقال ابن عطية : { قيماً } نصب على الحال من { الكتاب } فهو بمعنى التقديم مؤخر في اللفظ ، أي أنزل الكتاب { قيماً } واعترض بين الحال وذي الحال قوله { ولم يجعل له عوجاً } ذكره الطبري عن ابن عباس ، ويجوز أن يكون منصوباً بفعل مضمر تقديره أنزله أو جعله { قيماً } .

أما إذا قلنا بأن الجملة المنفية اعتراض فهو جائز ، ويفصل بجمل للاعتراض بين الحال وصاحبها .

وقال العسكري : في الآية تقديم وتأخير كأنه قال : احمدوا الله على إنزال القرآن { قيماً } لا عوج فيه ، ومن عادة البلغاء أن يقدّموا الأهم .

وقال أبو عبد الله الرازي : { ولم يجعل له عوجاً } يدل على كونه مكملاً في ذاته .

وقوله قيماً يدل على كونه مكملاً بغيره ، فثبت بالبرهان العقلي أن الترتيب الصحيح هو الذي ذكره الله ، وأن ما ذكروه من التقديم والتأخير فاسد يمتنع العقل من الذهاب إليه .

وقال الكرماني : إذ جعلته حالاً وهو الأظهر فليس فيه تقديم ولا تأخير ، والصحيح أنهما حالان من { الكتاب } الأولى جملة والثانية مفرد انتهى .

وهذا على مذهب من يجوز وقوع حالين من ذي حال واحد بغير عطف ، وكثير من أصحابنا على منع ذلك انتهى .

واختاره الأصبهاني وقال : هما حالان متواليان والتقدير غير جاعل له { عوجاً قيماً } وقال صاحب حل العقد : يمكن أن يكون قوله قيماً بدلاً من قوله { ولم يجعل له عوجاً } أي جعله مستقيماً { قيماً } انتهى .

ويكون بدل مفرد من جملة كما قالوا في عرفت زيداً أبو من أنه بدل جملة من مفرد وفيه خلاف .

وقيل : { قيماً } حال من الهاء المجرورة في { ولم يجعل له } مؤكدة .

وقيل : منتقلة ، والظاهر أن الضمير في { له } عائد على { الكتاب } وعليه التخاريج الإعرابية السابقة .

وزعم قوم أن الضمير في { له } عائد على { عبده } والتقدير { على عبده } وجعله { قيماً } .

وحفص يسكت على قوله { عوجاً } سكتة خفيفة ثم يقول { قيماً } .

وفي بعض مصاحف الصحابة { ولم يجعل له عوجاً } لكن جعله قيماً ويحمل ذلك على تفسير المعنى لا أنها قراءة .

وأنذر يتعدى لمفعولين قال { إنا أنذرناكم عذاباً قريباً } وحذف هنا المفعول الأول وصرح بالمنذر به لأنه هو الغرض المسوق إليه فاقتصر عليه ، ثم صرح بالمنذر في قوله حين كرر الإنذار فقال : { وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولداً } فحذف المنذر أولاً لدلالة الثاني عليه ، وحذف المنذر به لدلالة الأول عليه ، وهذا من بديع الحذف وجليل الفصاحة ، ولما لم يكرر البشارة أتى بالمبشر والمبشر به ، والظاهر أن { لينذر } متعلقة بأنزل .

وقال الحوفي : تتعلق بقيماً ، ومفعول لينذر المحذوف قدره ابن عطية { لينذر } العالم ، وأبو البقاء { لينذر } العباد أو لينذركم .

والزمخشري قدره خاصاً قال : وأصله { لينذر } الذين كفروا { بأساً شديداً } ، والبأس من قوله { بعذاب بئيس } وقد بؤس العذاب وبؤس الرجل بأساً وبأسة انتهى .

وكأنه راعي في تعيين المحذوف مقابله وهو { ويبشر المؤمنين الذين } والبأس الشديد عذاب الآخرة ويحتمل أن يندرج فيه ما يلحقهم من عذاب الدنيا .

ومعنى من { لدنه } صادر من عنده .

وقرأ أبو بكر بسكون الدال وإشمامها الضم وكسر النون ، وتقدّم الكلام عليها في أول هود .

وقرئ { ويبشر } بالرفع والجمهور بالنصب عطفاً على { لينذر } والأجر الحسن الجنة ، ولما كنى عن الجنة بقوله { أجراً حسناً }