{ 21 } { وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ }
أي : ولنذيقن الفاسقين المكذبين ، نموذجًا من العذاب الأدنى ، وهو عذاب البرزخ ، فنذيقهم طرفًا منه ، قبل أن يموتوا ، إما بعذاب بالقتل ونحوه ، كما جرى لأهل بدر من المشركين ، وإما عند الموت ، كما في قوله تعالى { وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ } ثم يكمل لهم العذاب الأدنى في برزخهم .
وهذه الآية من الأدلة على إثبات عذاب القبر ، ودلالتها ظاهرة ، فإنه قال : { وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى } أي : بعض وجزء منه ، فدل على أن ثَمَّ عذابًا أدنى قبل العذاب الأكبر ، وهو عذاب النار .
ولما كانت الإذاقة من العذاب الأدنى في الدنيا ، قد لا يتصل بها الموت ، فأخبر تعالى أنه يذيقهم ذلك لعلهم يرجعون إليه ويتوبون من ذنوبهم كما قال تعالى : { ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ }
( ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر ) . .
لكن ظلال الرحمة تتراءى من وراء هذا العذاب الأدنى ؛ فالله سبحانه و تعالى لا يحب أن يعذب عباده إذا لم يستحقوا العذاب بعملهم ، وإذا لم يصروا على موجبات العذاب . فهو يوعدهم بأن يأخذهم بالعذاب في الأرض ( لعلهم يرجعون ) . . وتستيقظ فطرتهم ، ويردهم ألم العذاب إلى الصواب . ولو فعلوا لما صاروا إلى مصير الفاسقين الذين رأيناه في مشهدهم الأليم .
وقوله : { وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ] } {[23136]} قال{[23137]} ابن عباس : يعني بالعذاب الأدنى مصائب الدنيا وأسقامها وآفاتها ، وما يحل بأهلها مما يبتلي الله به عباده ليتوبوا إليه . وروي مثله عن أبي بن كعب ، وأبي العالية ، والحسن ، وإبراهيم النَّخَعِي ، والضحاك ، وعلقمة ، وعطية ، ومجاهد ، وقتادة ، وعبد الكريم الجَزَري ، وخَصِيف .
وقال ابن عباس - في رواية عنه - : يعني به إقامة الحدود عليهم .
وقال البراء بن عازب ، ومجاهد ، وأبو عبيدة : يعني به عذاب القبر .
وقال النسائي : أخبرنا عمرو بن علي ، أخبرنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص وأبي عبيدة{[23138]} ، عن عبد الله : { وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأكْبَرِ } قال : سنون أصابتهم . {[23139]}
وقال عبد الله بن الإمام أحمد : حدثني عبد الله بن عُمَر القَوَاريري ، حدثنا يحيى بن سعيد ، عن شعبة ، عن قتادة ، عن عَزْرَة{[23140]} ، عن الحسن العُرَني ، عن يحيى بن الجزار ، عن ابن أبي ليلى{[23141]} عن أبي بن كعب في هذه الآية : { وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأكْبَرِ } قال : المصيبات{[23142]} والدخان قد مضيا ، والبطشة واللزام . {[23143]}
ورواه مسلم من حديث شعبة ، به موقوفا نحوه . {[23144]} وعند البخاري عن ابن مسعود ، نحوه . {[23145]}
وقال عبد الله بن مسعود {[23146]} أيضا ، في رواية عنه : العذاب الأدنى : ما أصابهم من القتل والسبي يوم بدر . وكذا قال مالك ، عن زيد بن أسلم .
قال السُّدِّي وغيره : لم يبق بيت بمكة إلا دخله الحزن على قتيل لهم أو أسير ، فأصيبوا أو غَرموا {[23147]} ، ومنهم مَنْ جمع له الأمران .
إخبار بأن لهم عذاباً آخر لا يبلغ مبلغ عذاب النار الموعودين به في الآخرة فتعين أن العذاب الأدنى عذاب الدنيا . والمقصود من هذا : التعريضُ بتهديدهم لأنهم يسمعون هذا الكلام أو يبلغ إليهم . وهذا إنذار بما لحقهم بعد نزول الآية وهو ما مُحنوا به من الجوع والخوف وكانوا في أمن منهما وما يصيبهم يوم بدر من القتل والأسر ويوم الفتح من الذل .
وجملة { لعلهم يرجعون } استئناف بياني لحكمة إذاقتهم العذاب الأدنى في الدنيا بأنه لرجاء رجوعهم ، أي رجوعهم عن الكفر بالإيمان . والمراد : رجوع من يمكن رجوعه وهم الأحياء منهم . وإسناد الرجوع إلى ضمير جميعهم باعتبار القبيلة والجماعة ، أي لعل جماعتهم ترجع . وكذلك كان فقد آمن كثير من الناس بعد يوم بدر وبخاصة بعد فتح مكة ، فصار من تحقق فيهم الرجوع المرجوّ مخصوصين من عموم { الذين فسقوا } في قوله تعالى : { وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها } الآية [ السجدة : 20 ] ، فبقي ذلك الوعيد للذين ماتوا على الشرك ، وهي مسألة الموافاة عند الأشعري .