قال ابن هشام : الأبابيل الجماعات ، ولم تتكلم العرب بواحدة . قال : وأما السجيل ، فأخبرني يونس النحوي وأبو عبيدة أنه عند العرب : الشديد الصلب . قال : وذكر بعض المفسرين أنهما كلمتان بالفارسية ، جعلتهما العرب كلمة واحدة ، وإنما هو سنج وجل ، يعني بالسنج : الحجر ، والجل : الطين . يقول : الحجارة من هذين الجنسين : الحجر والطين .
قال : والعصفُ : ورقُ الزرع الذي لم يُقضب ، واحدته عصفة . انتهى ما ذكره{[30537]} .
وقد قال حماد بن سلمة : عن عاصم ، عن زر ، عن عبد الله - وأبو سلمة بن عبد الرحمن - : { طَيْرًا أَبَابِيلَ } قال : الفرق{[30538]} .
وقال ابن عباس ، والضحاك : أبابيل يتبع بعضها بعضًا . وقال الحسن البصري ، وقتادة : الأبابيل : الكثيرة . وقال مجاهد : أبابيل : شتى متتابعة مجتمعة . وقال ابن زيد : الأبابيل : المختلفة ، تأتي من هاهنا ، ومن هاهنا ، أتتهم من كل مكان .
وقال الكسائي : سمعت [ النحويين يقولون : أبول مثل العجول . قال : وقد سمعت ]{[30539]} بعض النحويين يقول : واحد الأبابيل : إبيل .
وقال ابن جرير : [ حدثنا ابن المثنى ]{[30540]} حدثني عبد الأعلى ، حدثني داود ، عن إسحاق بن عبد الله بن الحارث بن نوفل ؛ أنه قال في قوله : { وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ } هي : الأقاطيع ، كالإبل المؤبلة .
وحدثنا أبو كريب ، حدثنا وكيع ، عن ابن عون ، عن ابن سيرين ، عن ابن عباس : { وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ } قال : لها خراطيم كخراطيم الطير ، وأكف كأكف الكلاب .
وحدثنا يعقوب ، حدثنا هشيم ، أخبرنا حصين عن عكرمة في قوله : { طَيْرًا أَبَابِيلَ } قال : كانت طيرًا خضرا خرجت من البحر ، لها رءوس كرءوس السباع .
وحدثنا ابن بشار ، حدثنا ابن مهدي ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن عبيد بن عمير : { طَيْرًا أَبَابِيلَ } قال : هي طير{[30541]} سود بحرية ، في منقارها{[30542]} وأظافيرها الحجارة .
وقال سعيد بن جبير : كانت طيرًا خضرا لها مناقير صفر ، تختلف عليهم .
وعن ابن عباس ، ومجاهد ، وعطاء : كانت الطير الأبابيل مثل التي يقال لها عنقاء مُغْرب . رواه عنهم ابن أبي حاتم .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا عبد الله بن محمد بن أبي شيبة ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن عبيد بن عمير ، قال : لما أراد الله أن يهلك أصحاب الفيل ، بعث عليهم طيرا أنشئت من البحر ، أمثال الخطاطيف . كل طير منها تحمل ثلاثة أحجار مجزعة : حجرين في رجليه ، وحجرا في منقاره . قال : فجاءت حتى صفت على رءوسهم ، ثم صاحت وألقت ما في أرجلها ومناقيرها ، فما يقع حجر على رأس رجل إلا خرج من دبره ، ولا يقع على شيء من جسده إلا وخرج من الجانب الآخر . وبعث الله ريحا شديدة فضربت الحجارة فزادتها شدة ، فأهلكوا جميعا .
وقال السُّدِّي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : { حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ } قال : طين في حجارة : " سنك - وكل " وقد قدمنا بيان ذلك بما أغنى عن إعادته هاهنا .
وقوله : { فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ } قال سعيد بن جبير : يعني التبن الذي تسميه العامة : هبور . وفي رواية عن سعيد : ورق الحنطة . وعنه أيضا : العصف : التبن . والمأكول : القصيل يجز للدواب . وكذلك قال الحسن البصري .
وعن ابن عباس : العصف : القشرة التي على الحبة ، كالغلاف على الحنطة .
وقال ابن زيد : العصف : ورق الزرع ، وورق البقل ، إذا أكلته البهائم فراثته ، فصار درينا{[30543]} .
والمعنى : أن الله ، سبحانه وتعالى ، أهلكهم ودمرهم ، وردهم بكيدهم وغيظهم لم ينالوا خيرًا ، وأهلك عامتهم ، ولم يرجع منهم بخير إلا وهو جريح ، كما جرى لملكهم أبرهة ، فإنه انصدع صدره عن قلبه حين وصل إلى بلده صنعاء ، وأخبرهم بها{[30544]} جرى لهم ، ثم مات . فملك بعده ابنه يكسوم ، ثم من بعده أخوه مسروق بن أبرهة{[30545]} ثم خرج سيف بن ذي يَزَن الحميري إلى كسرى فاستغاثه{[30546]} على الحبشة ، فأنفذ معه من جيوشه فقاتلوا معه ، فرد الله إليهم ملكهم ، وما كان في آبائهم من الملك ، وجاءته وفود العرب للتهنئة .
وقد قال محمد بن إسحاق : حدثنا عبد الله بن أبي بكر ، عن عمرة بنت عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة ، عن عائشة قالت : لقد رأيت قائد الفيل وسائسه بمكة أعميين مُقْعَدَين ، يستطعمان{[30547]} ورواه الواقدي ، عن عائشة مثله . ورواه أيضا عن أسماء بنت أبي بكر أنها قالت : كانا مقعدين يستطعمان الناس ، عند إساف ونائلة ، حيث يذبح المشركون ذبائحهم .
قلت : كان اسم قائد الفيل : أنيسا .
وقد ذكر الحافظ أبو نعيم في كتاب " دلائل النبوة " من طريق ابن وهب ، عن ابن لَهِيعة ، عن عقيل بن خالد ، عن عثمان بن المغيرة قصة أصحاب الفيل ، ولم يذكر أن أبرهة قدم من اليمن ، وإنما بعث على الجيش رجلا يقال له : شمر بن مفصود ، وكان الجيش عشرين ألفًا ، وذكر أن الطير طرقتهم ليلا فأصبحوا صرعى .
وهذا السياق غريب جدًا ، وإن كان أبو نعيم قد قواه ورجحه على غيره . والصحيح أن أبرهة الأشرم الحبشي قدم مكة كما دل على ذلك السياقات والأشعار . وهكذا روى ابن لَهِيعة ، عن الأسود ، عن عُرْوَة : أن أبرهة بعث الأسود بن مفصود على كتيبة معهم الفيل ، ولم يذكر قدوم أبرهة نفسه ، والصحيح قدومه ، ولعل ابن مقصود كان على مقدمة الجيش ، والله أعلم .
ثم ذكر ابن إسحاق شيئًا من أشعار العرب ، فيما كان من قصة أصحاب الفيل ، فمن ذلك شعر عبد الله بن الزبعرى :
تَنَكَّلُوا عن بطن مَكَّةَ إنها *** كانتْ قديمًا لا يُرَام حَريمها
لم تُخلَق الشِّعرَى ليالي حُرّمتْ *** إذ لا عزيزَ من الأنام يَرُومها
سائل أميرَ الجيش عنها ما رَأى? *** فلسوفَ يُنبي الجاهلين عليمها . . .
ستونَ ألفًا لم يؤوبوا أرَضهم *** بل لم يعش بعد الإياب سقيمها
كانتْ بها عادٌ وجُرْهُم قبلهم *** واللهُ من فوق العباد يُقيمها{[30548]}
وقال أبو قيس{[30549]} بن الأسلت الأنصاري المري :{[30550]}
ومن صُنْعه يوم فيل الحُبُو *** ش ، إذ كل ما بَعَثُوه رَزَمْ
محاجنهم تحت أقرابه *** وقد شَرَموا أنفه فانخرم
وقد جعلوا سوطه مغولا *** إذا يَمَّمُوه قَفَاه كُليم
فَسوَّل{[30551]} أدبر أدراجه *** وقد باء بالظلم من كان ثمَّ
فأرسل من فوقهم حاصبًا *** يَلُفهُم مثْلَ لَف القزُم
تحث على الصَّبر أحبارُهم *** وَقَد ثأجُوا كَثؤاج الغَنَم
وقال أبو الصلت بن أبي ربيعة الثقفي ، ويروى لأمية بن أبي الصلت بن أبي ربيعة :
إن آيات رَبِّنا بَاقياتٌ *** مَا يُمَاري فيهنَّ إلا الكفورُ
خُلِقَ الليلُ والنهارُ فَكُلّ *** مستبينٌ حسابُه مَقْدُورُ
ثمَّ يجلو النَّهارَ ربٌ رحيمٌ *** بمهاة شُعَاعها منشورُ
حُبِسَ الفيلُ بالمُغمَّس حَتَّى *** صار يَحْبُو ، كأنه معقورُ
لازمًا حلقُه الجرانَ كما قُطِّر *** من ظَهْر كَبْكَب مَحدُورُ
حَوله من مُلُوك كِندةَ أبطالُ *** ملاويثُ في الحُرُوب صُقُورُ
خَلَّفُوه ثم ابذَعرّوا جَميعًا ، *** كُلَّهم عَظْمُ ساقه مَكْسُورُ
كُلّ دين يَومَ القِيَامة عندَ ال *** له إلا دِينُ الحَنِيفَة بورُ
وقد قدمنا في تفسير " سورة الفتح " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أطل يوم الحديبية على الثنية التي تهبط به على قريش ، بركت ناقته ، فزجروها فألحَّت ، فقالوا : خلأت القصواء ، أي : حَرَنت . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما خلأت القصواء ، وما ذاك لها بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل " ، ثم قال : " والذي نفسي بيده ، لا يسألوني اليوم خطة يُعَظمون فيها حُرُمات الله ، إلا أجبتهم إليها " . ثم زجرها فقامت . والحديث من أفراد البخاري{[30552]} .
وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة : " إن الله حبس عن مكة الفيل ، وسَلَّط عليها رسوله والمؤمنين ، وإنه قد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس ، ألا فليبلغ الشاهد الغائب " {[30553]} . آخر تفسير سورة " الفيل " .
وجملة { ترميهم } حال من { طيراً } وجيء بصيغة المضارع لاستحضار الحالة بحيث تخيل للسامع كالحادثة في زمن الحال ومنه قوله تعالى : { واللَّه الذي أرسل الرياح فتثير سحاباً فسقناه إلى بلد ميت } [ فاطر : 9 ] الآية .
وحجارة : اسم جمع حَجر . عن ابن عباس قال : طين في حجارة ، وعنه أن سجيل معرب سَنْك كِلْ من الفارسية ، أي عن كلمة ( سنك ) وضبط بفتح السين وسكون النون وكسر الكاف اسم الحجر وكلمة ( كلْ ) بكسر الكاف اسم الطين ومجموع الكلمتين يراد به الآجُر .
وكلتا الكلمتين بالكاف الفارسية المعمّدة وهي بين مخرج الكاف ومخرج القاف ، ولذلك تكون { من } بيانية ، أي حجارة هي سجيل ، وقد عد السبكي كلمة سجيل في « منظومته في المعرَّب الواقع في القرآن » .
وقد أشار إلى أصل معناه قوله تعالى : { لنرسل عليهم حجارة من طين } [ الذاريات : 33 ] مع قوله في آيات أُخر { حجارة من سجيل } فعلم أنه حجر أصله طين .
وجاء نظيره في قصة قوم لوط في سورة هود ( 82 ) : { وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود } وفي سورة الحجر ( 74 ) : فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل فتعين أن تكون الحجارة التي أرسلت على أصحاب الفيل من جنس الحجارة التي أمطرت على قوم لوط ، أي ليست حجراً صخرياً ولكنها طين متحجر دلالة على أنها مخلوقة لعذابهم .
قال ابن عباس : كانَ الحجر إذا وقع على أحدهم نفط جلده فكان ذلك أول الجُدري{[464]} . وقال عكرمة : إذا أصاب أحدَهم حجر منها خرج به الجدري .
وقد قيل : إن الجدري لم يكن معروفاً في مكة قبل ذلك .
وروي أن الحجر كان قدر الحِمَّص . روى أبو نعيم عن نوفل بن أبي معاوية الديلمي قال : رأيت الحصَى التي رمي بها أصحاب الفيل حصى مثل الحمص حمراً بحُتْمَة ( أي سواد ) كأنها جِزع ظَفَارِ . وعن ابن عباس : أنه رأى من هذه الحجارة عند أم هاني نحو قفيز مخططة بحُمرة بالجزع الظَّفاري .