جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري  
{تَرۡمِيهِم بِحِجَارَةٖ مِّن سِجِّيلٖ} (4)

وقوله : { تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجّيلٍ } يقول تعالى ذكره : ترمي هذه الطير الأبابيل التي أرسلها الله على أصحاب الفيل ، بحجارة من سجيل .

وقد بيّنا معنى سجيل في موضع غير هذا ، غير أنا نذكر بعض ما قيل من ذلك في هذا الموضع ، من أقوال مَنْ لم نذكره في ذلك الموضع . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن السديّ ، عن عكرِمة ، عن ابن عباس { حِجارَةٍ مِنْ سَجّيلٍ } قال : طين في حجارة .

حدثني الحسين بن محمد الذارع ، قال : حدثنا يزيد بن زُرَيع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن عكرِمة ، عن ابن عباس { تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سَجّيلٍ } قال : من طين .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن السّدّي ، عن عكرِمة ، عن ابن عباس { حِجَارَةٍ مِنْ سَجّيلٍ } قال : سنك وكل .

حدثني الحسين بن محمد الذارع ، قال : حدثنا يزيد بن زُرَيع ، عن عُمارة بن أبي حفصة ، عن عكرِمة ، في قوله : { تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سَجّيلٍ } قال : من طين .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن شَرْقِي ، قال : سمعت عكرِمة يقول : { تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سَجّيلٍ } قال : سنك وكل .

حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حصين ، عن عكرِمة ، قال : كانت ترميهم بحجارة معها ، قال : فإذا أصاب أحدهم خرج به الجُدَريّ ، قال : كان أوّل يوم رُؤي فيه الجدريّ . قال : لم يُر قبل ذلك اليوم ، ولا بعده .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن موسى بن أبي عائشة ، قال : ذكر أبو الكُنود ، قال : دون الحِمّصة وفوق العدسة .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن موسى بن أبي عائشة ، قال : كانت الحجارة التي رُمُوا بها أكبرَ من العدَسة ، وأصغر من الحِمّصَةِ .

قال : ثنا أبو أحمد الزّبيريّ ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن موسى بن أبي عائشة ، عن عمران ، مثله .

حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن السديّ ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : سجّيل بالفارسية : سنك وكل ، حَجَر وطين .

حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا وكيع ، عن إسرائيل ، عن جابر بن سابط ، قال : هي بالأعجمية : سنك وكل .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : كانت مع كلّ طير ثلاثة أحجار : حجران في رجليه ، وحجر في منقاره ، فجعلت ترميهم بها .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة { حِجَارَةٍ مِنْ سَجّيلٍ } قال : هي من طين .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : هي طير بِيض ، خرجت من قِبَل البحر ، مع كلّ طير ثلاثة أحجار : حَجران في رجليه ، وحجر في منقاره ، ولا يصيب شيئا إلا هشَمه .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرنا عمرو بن الحارث بن يعقوب أن أباه أخبره أنه بلغه أن الطير التي رمت بالحجارة ، كانت تحملها بأفواهها ، ثم إذا ألقتها نَفِط لها الجلد .

وقال آخرون : معنى ذلك : ترميهم بحجارة من سماء الدنيا . ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : { تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سَجّيلٍ } قال : السماء الدنيا ، قال : والسماء الدنيا اسمها سجّيل ، وهي التي أنزل الله جلّ وعزّ على قوم لوط .

قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرنا عمرو بن الحارث ، عن سعيد بن أبي هلال ، أنه بلغه أن الطير التي رمت بالحجارة ، أنها طير تخرج من البحر ، وأن سجيل : السماء الدنيا .

وهذا القول الذي قاله ابن زيد لا نعرف لصحته وجها في خبر ولا عقل ، ولا لغة ، وأسماء لا تُدرك إلا من لغة سائرة ، أو خبر من الله تعالى ذكره .

وكان السبب الذي من أجله حلّت عقوبة الله تعالى بأصحاب الفيل مسير أبرهة الحبشيّ بجنده معه الفيل ، إلى بيت الله الحرام لتخريبه . وكان الذي دعاه إلى ذلك فيما :

حدثنا به ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، قال : حدثنا ابن إسحاق ، أن أبرهة بنى كنيسة بصنعاء ، وكان نصرانيا ، فسماها القُلّيْس ، لم يُر مثلها في زمانها بشي من الأرض ، وكتب إلى النجاشي ملك الحبشة أن قد بنيت لك أيها الملك كنيسة ، لم يُبن مثلها لملك كان قبلك ، ولستُ بمُنته حتى أصرف إليها حاجّ العرب . فلما تحدّثت العرب بكتاب أبرهة ذلك للنجاشيّ ، غضب رجل من النّسَأة أحد بن فُقَيم ، ثم أحد بني ملك ، فخرج حتى أتى القُلَيس ، فقعد فيها ، ثم خرج فلحق بأرضه ، فأُخْبر أبرهة بذلك ، فقال : من صنع هذا ؟ فقيل : صنعه رجل من أهل هذا البيت ، الذي تحجّ العرب إليه بمكة ، لما سمع من قولك : أصرف إليه حاجّ العرب ، فغضب ، فجاء فقعد فيها ، أي أنها ليست لذلك بأهل فغضب عند ذلك أبرهة ، وحلف ليسيرنّ إلى البيت فيهدمه ، وعند أبرهة رجال من العرب قد قَدِموا عليه يلتمسون فضله ، منهم محمد بن خُزَاعي بن حِزَابة الذّكواني ، ثم السّلَمي ، في نفر من قومه ، معه أخ له يقال له : قيس بن خزاعي ، فبينما هم عنده ، غَشِيهم عبد لأبرهة ، فبعث إليهم فيه بغذائه ، وكان يأكل الخُصَى ، فلما أتى القوم بغذائه ، قالوا : والله لئن أكلنا هذا لا تزال تسبّنا به العرب ما بقينا ، فقام محمد بن خزاعي ، فجاء أبرهة فقال : أيها الملك ، إن هذا يوم عيد لنا ، لا نأكل فيه إلا الجُنوبَ والأيدي ، فقال له أبرهة : فسنبعث إليكم ما أحببتم ، فإنما أكرمتكم بغذائي ، لمنزلتكم عندي .

ثم إن أبرهة توّج محمد بن خُزَاعِي ، وأمّره على مضر ، أن يسير في الناس ، يدعوهم إلى حجّ القُلّيس ، كنيسته التي بناها ، فسار محمد بن خِزاعي ، حتى إذا نزل ببعض أرض بني كنانة ، وقد بلغ أهل تهامة أمره ، وما جاء له ، بعثوا إليه رجلاً من هُذَيل يقال له : عُرْوة بن حياض الملاصي ، فرماه بسهم فقتله ، وكان مع محمد بن خزاعي أخوه قيس بن خزاعي ، فهرب حين قُتل أخوه ، فلحق بأبرهة فأخبره بقتله ، فزاد ذلك أبرهة غضبا وحنقا ، وحلف ليغزونّ بني كنانة ، وليهدمنّ البيت .

ثم إن أبرهة حين أجمع السير إلى البيت ، أمر الحُبْشان فتهيأتْ وتجهّزتْ ، وخرج معه بالفيل ، وسمعت العرب بذلك ، فأعظموه ، وفُظِعوا به ، ورأوا جهاده حقّا عليهم ، حين سمعوا أنه يريد هدم الكعبة ، بيت الله الحرام ، فخرج رجل كان من أشراف أهل اليمن وملوكهم ، يقال له : ذو نَفْر ، فدعا قومه ومن أجابه من سائر العرب ، إلى حرب أبرهة ، وجهاده عن بيت الله ، وما يريد من هدمه وإخرابه ، فأجابه من أجابه إلى ذلك ، وعَرَض له ، وقاتله ، فهُزم وتفرّق أصحابه ، وأُخِذَ له ذو نفر أسيرا فلما أراد قتله ، قال ذو نفر : أيها الملك لا تقتلني ، فإنه عسى أن يكون بقائي معك خيرا لك من قتلي ، فتركه من القتل ، وحبسه عنده في وثاق . وكان أبرهة رجلاً حليما .

ثم مضى أبرهة على وجهه ذلك يريد ما خرج له ، حتى إذا كان بأرض خثعم ، عرض له نُفَيل بن حبيب الخثعميّ في قبيلَي خثعم : شَهران ، وناهس ، ومن معه من قبائل العرب ، فقاتله فهزمه أبرهة ، وأُخِذ له أسيرا ، فأُتِي به فلما همّ بقتله ، قال له نفيل : أيها الملك لا تقتلني ، فإني دليلك بأرض العرب ، وهاتان يداي لك على قبيلي خثعم : شهران ، وناهس ، بالسمع والطاعة ، فأعفاه وخلّى سبيله ، وخرج به معه ، يدله على الطريق حتى إذا مرّ بالطائف ، خرج إليه مسعود بن مُعَتّب في رجال ثقيف ، فقال : أيها الملك ، إنما نحن عبيدك ، سامعون لك مطيعون ، ليس لك عندنا خلاف ، وليس بيتنا هذا بالبيت الذي تريد -يعنون اللاّت- إنما تريد البيت الذي بمكة- يعنون الكعبة- ونحن نبعث معك من يدلك ، فتجاوز عنهم ، وبعثوا معهم أبا رِغال ، فخرج أبرهة ومعه أبو رِغال حتى أنزله المغمّس ، فلما أنزله به مات أبو رِغال هناك ، فَرَجمت العرب قبره ، فهو القبر الذي ترجم الناس بالمغمّس .

ولما نزل أبرهة المغمّس ، بعث رجلاً من الحبشة- يقال له : الأسود بن مقصود- على خيل له حتى انتهى إلى مكة ، فساق إليه أموال أهل مكة من قريش وغيرهم ، وأصاب فيها مئتي بعير لعبد المطلب بن هاشم ، وهو يومئذٍ كبير قريش وسيّدها ، وهمّت قريش وكنانة وهُذَيل ومن كان معهم بالحرم من سائر الناس بقتاله ، ثم عرفوا أنهم لا طاقة لهم به ، فتركوا ذلك ، وبعث أبرهة حُناطة الحميريّ إلى مكة ، وقال له : سل عن سيد هذا البلد وشريفهم ، ثم قل له : إن الملك يقول لكم : إني لم آت لحربكم ، إنما جئت لهدم البيت ، فإن لم تعرضوا دونه بحرب فلا حاجة لي بدمائكم ، فإن لم يُرِد حربي فأتني به .

فلما دخل حناطة مكة ، سأل عن سيد قريش وشريفها ، فقيل : عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قُصَيّ ، فجاءه فقال له ما أمره به أبرهة ، فقال له عبد المطلب : واللّهِ ما نريد حربه ، وما لنا بذلك من طاقة ، هذا بيت الله الحرام ، وبيت خليله إبراهيم عليه السلام- أو كما قال- فإن يمنعه فهو بيته وحَرَمه ، وإن يُخْلِ بينه وبينه ، فوالله ما عندنا له من دافع عنه- أو كما قال- فقال له حناطة : فانطِلقْ إلى الملك ، فإنه قد أمرني أن آتيه بك . فانطلق معه عبد المطلب ، ومعه بعض بنيه ، حتى أتى العسكر ، فسأل عن ذي نَفْر ، وكان له صديقا ، فَدُلّ عليه ، فجاءه وهو في محبسه ، فقال : يا ذا نَفْر ، هل عندك غَناء فيما نزل بنا ؟ فقال له ذو نفر ، وكان له صديقا : وما غَنَاءُ رجل أسير في يدي ملك ، ينتظر أن يقتله غدوّا أو عشيا ، ما عندي غناء في شيء مما نزل بك ، إلاّ أن أُنَيسا سائق الفيل لي صديق ، فسأرسل إليه ، فأوصيه بك ، وأُعظم عليه حقك ، وأسأله أن يستأذن لك على الملك ، فتكلمه بما تريد ، ويشفع لك عنده بخير ، إن قدر على ذلك . قال : حسبي ، فبعث ذو نَفْر إلى أُنيس ، فجاء به ، فقال : يا أُنيس إن عبد المطلب سيّد قريش ، وصاحب عِير مكة ، يُطعم الناس بالسهل ، والوحوش في رؤوس الجبال ، وقد أصاب الملكُ له مئتي بعير ، فاستأذنْ له عليه ، وانفعْه عنده بما استطعت ، فقال : أفعل .

فكلّم أُنيس أبرهة ، فقال : أيها الملك ، هذا سيّد قريش ببابك ، يستأذن عليك ، وهو صاحب عِير مكة ، يُطعم الناس بالسهل ، والوحوش في رؤوس الجبال ، فأْذَنْ له عليك ، فليكلمك بحاجته ، وأحسن إليه . قال : فأذِن له أبرهة ، وكان عبد المطلب رجلاً عظيما وسيما جسيما ، فلما رآه أبرهة أجلّه وأكرمه أن يجلس تحته ، وكرِه أن تراه الحبشة يُجِلسُه معه على سرير مُلكه ، فنزل أبرهة عن سريره ، فجلس على بساطه ، فأجلسه معه عليه إلى جنبه ، ثم قال لترجمانه : قل له : ما حاجتك إلى الملك ؟ فقال له ذلك الترجمان ، فقال له عبد المطلب : حاجتي إلى الملك أن يردّ عليّ مئتي بعير أصابها لي ، فلما قال له ذلك ، قال أبرهة لترجمانه : قل له : قد كنت أعجبتني حين رأيتك ، ثم زَهِدت فيك حين كلّمتَني ، أتكلمني في مئتي بعير أصبتها لك ، وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك ، قد جئت لهدمه فلا تكلمني فيه ؟ قال له عبدالمطلب : إني أنا ربّ الإبل ، وإن للبيت ربا سيمنعه ، قال : ما كان ليُمَنع مني . قال : فأنت وذاك ، اردد إليّ إبلي .

وكان فيما زعم بعض أهل العلم قد ذهب مع عبد المطلب إلى أبرهة ، حين بعث إليه حناطة ، يعمر بن نُفاثة بن عديّ بن الديل بن بكر بن عبد مناف بن كنانة- وهو يومئذٍ سيّد بني كنانة- وخويلِد بن واثلة الهُذَليّ -وهو يومئذٍ سيد هُذَيل- ، فعرضوا على أبرهة ثلث أموال تِهامة ، على أن يرجع عنهم ، ولا يهدم البيت ، فأبي عليهم ، والله أعلم .

وكان أبرهة ، قد ردّ على عبد المطلب الإبل التي أصاب له ، فلما انصرفوا عنه انصرف عبد المطلب إلى قريش ، فأخبرهم الخبر ، وأمرهم بالخروج من مكة ، والتحرّز في شَعَف الجبال والشعاب ، تخوّفا عليهم من مَعَرّة الجيش ، ثم قام عبد المطلب ، فأخذ بحلقة الباب- باب الكعبة- ، وقام معه نفر من قريش يدعون الله ، ويستنصرونه على أبرهة وجنده ، فقال عبد المطلب ، وهو آخذ بحلقة باب الكعبة :

يا رَبّ لا أرْجُو لَهُمْ سِوَاكا *** يا رَبّ فامْنَعْ مِنْهُمْ حِماكا

إنّ عَدُوّ البَيْتِ مَنْ عادَاكا *** امْنَعْهُمُ أنْ يُخَرّبُوا قُرَاكا

وقال أيضا :

لا هُمّ إنّ الْعَبْدَ يَمْ *** نُعُ رَحْلَهُ فامْنَعْ حِلالكْ

لا يَغْلِبَنّ صَلِيبُهُمْ *** ومِحَالُهُمْ غَدْوا مِحَالكْ

فَلَئِنْ فَعَلْتَ فَرُبّمَا *** أوْلى فأمْرٌ ما بَدَا لَكْ

وَلْئِنَ فَعَلْتَ فإنّهُ *** أمْرٌ تُتِمّ بِهِ فَعالَكْ

وقال أيضا :

وكُنْتُ إذَا أتى باغٍ بِسَلْمٍ *** نُرَجّي أن تَكُونَ لَنَا كَذَلِكْ

فَوَلّوْا لَمْ يَنالُوا غَيْرَ خِزْىٍ *** وكانَ الْحَيْنُ يُهْلِكُهُمْ هُنالكْ

ولَمْ أسْمَعْ بأرْجَسَ منْ رِجالٍ *** أرَادُوا الْعِزّ فانْتَهَكُوا حَرامَكْ

جَرّوا جُمُوعَ بِلادِهِمْ *** والْفِيلَ كَيْ يَسْبُوا عِيالَكْ

ثم أرسل عبد المطلب حلقة باب الكعبة ، وانطلق هو ومن معه من قريش إلى شَعَف الجبال ، فتحرّزوا فيها ، ينتظرون ما أبرهة فاعل بمكة إذا دخلها ، فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة ، وهيأ فيله ، وَعبّأ جيشه ، وكان اسم الفيل محمودا ، وأبرهة مُجْمِعٌ لهدم البيت ، ثم الانصراف إلى اليمن . فلما وجّهوا الفيل ، أقبل نُفَيل بن حبيب الخثعميّ ، حتى قام إلى جنبه ، ثم أخذ بأذنه فقال : ابرك محمود ، وارجع راشدا من حيث جئت ، فإنك في بلد الله الحرام ، ثم أرسل أذنه ، فَبرَك الفيلِ ، وخرج نُفَيل بن حبيب يشتدّ حتى أصعد في الجبل . وضربوا الفيل ليقوم فأبى ، وضربوا في رأسه بالطّبَرْزِين ليقوم ، فأبى ، فأدخلوا محَاجن لهم في مراقّه ، فبزغوه بها ليقوم ، فأبى ، فوجّهوه راجعا إلى اليمن ، فقام يُهَرْوِل ، ووجّهوه إلى الشام ، ففعل مثل ذلك ، ووجّهوه إلى المشرق ، ففعل مثل ذلك ، ووجّهوه إلى مكة فبرك ، وأرسل الله عليهم طيرا من البحر ، أمثالَ الخطاطيف ، مع كلّ طير ثلاثة أحجار يحملها : حجر في منقاره ، وحجران في رجليه مثل الحِمّص والعَدَس ، لا يصيب منهم أحدا إلاّ هلك ، وليس كلّهم أصابت ، وخرجوا هاربين يبتدرون الطريق الذي منه جاؤوا ، ويسألون عن نُفَيل بن حبيب ، ليدلهم على الطريق إلى اليمن ، فقال نُفَيل بن حبيب حين رأى ما أنزل الله بهم من نقمته :

أيْنَ المَفَرّ والإلَهُ الطّالِبْ *** والأشْرَمُ المَغْلُوبُ غَيْرُ الْغالِبْ

فخرجوا يتساقطون بكلّ طريق ، ويهلكون على كلّ مَنْهل ، فأصيب أبرهة في جسده ، وخرجوا به معهم ، فسقطت أنامله أنملة أنملة ، كلما سقطت أنملة أتبعتها مِدّة تَمُثّ قيحا ودما ، حتى قَدِموا به صنعاء ، وهو مثل فرخ الطير ، فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه فيما يزعمون .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن يعقوب بن عتبة بن المُغيرة بن الأخنس ، أنه حدّث ، أن أوّل ما رُؤيت الحَصْبة والجُدَريّ بأرض العرب ذلك العام ، وأنه أوّل ما رؤي بها مُرار الشجر : الحرملُ والحنظلُ والعُشَرُ ذلك العام .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { ألمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبّكَ بأصحَابِ الْفِيلِ } أقبل أبرهة الأشرم من الحبشة يوما ومن معه من عداد أهل اليمن ، إلى بيت الله ليهدمه من أجل بِيعة لهم أصابها العرب بأرض اليمن ، فأقبلوا بفيلهم ، حتى إذا كانوا بالصّفَاح برك ، فكانوا إذا وجّهوه إلى بيت الله ألقى بجرانه الأرض ، وإذا وجّهوه إلى بلدهم انطلق وله هَرْولة ، حتى إذا كان بنخلةَ اليمانية بعث الله عليهم طيرا بيضا أبابيل . والأبابيل : الكثيرة ، مع كلّ طير ثلاثة أحجار : حجران في رجليه ، وحجر في منقاره ، فجعلت ترميهم بها حتى جعلهم الله عزّ وجلّ كعصف مأكول . قال : فنجا أبو يكسوم وهو أبرهة ، فجعل كلما قدم أرضا تساقط بعض لحمه ، حتى أتى قومه ، فأخبرهم الخبر ثم هلك .