قوله تعالى : { وقدمنا } وعمدنا ، { إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً } أي : باطلاً لا ثواب له ، لأنهم لم يعلموه لله عز وجل . واختلفوا في الهباء ، قال علي : هو ما يرى في الكوة إذا وقع ضوء الشمس فيها كالغبار ، ولا يمس بالأيدي ، ولا يرى في الظل ، وهو قول الحسن وعكرمة ومجاهد ، والمنثور : المتفرق . وقال ابن عباس وقتادة وسعيد بن جبير : هو ما تسفيه الرياح وتذريه من التراب وحطام الشجر . وقال مقاتل : هو ما يسطع من حوافر الدواب عند السير . وقيل : الهباء المنثور : ما يرى في الكوة ، والهباء المنبث : هو ما تطيره الرياح من سنابك الخيل .
{ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ } أي : أعمالهم التي رجوا أن تكون خيرا لهم وتعبوا فيها ، { فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا } أي باطلا مضمحلا قد خسروه وحرموا أجره وعوقبوا عليه وذلك لفقده الإيمان وصدوره عن مكذب لله ورسله ، فالعمل الذي يقبله الله ، ما صدر عن المؤمن المخلص المصدق للرسل المتبع لهم فيه .
( وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا ) . .
هكذا في لحظة . والخيال يتبع حركة القدوم المجسمة المتخيلة - على طريقة القرآن في التجسيم والتخييل - وعملية الإثارة للأعمال ، والتذرية في الهواء ؛ فإذا كل ما عملوا في الدنيا من عمل صالح هباء . ذلك أنه لم يقم على الإيمان ، الذي يصل القلب بالله ، والذي يجعل العمل الصالح منهجا مرسوما وأصلا قاصدا ، لا خبط عشواء ، ولا نزوة طارئة ، ولا حركة مبتورة لا قصد لها ولا غاية . فلا قيمة لعمل مفرد لا يتصل بمنهج ، ولا فائدة لحركة مفردة ليست حلقة من سلسلة ذات هدف معلوم .
إن وجود الإنسان وحياته وعمله في نظرة الإسلام موصولة كلها بأصل هذا الكون ، وبالناموس الذي يحكمه ، والذي يصله كله بالله . بما فيه الإنسان وما يصدر عنه من نشاط . فإذا انفصل الإنسان بحياته عن المحور الرئيسي الذي يربطه ويربط الكون ، فإنه يصبح لقي ضائعا لا وزن له ولا قيمة ، ولا تقدير لعمله ولا حساب . بل لا وجود لهذا العمل ولا بقاء .
والإيمان هو الذي يصل الإنسان بربه ؛ فيجعل لعمله قيمة ووزنا ، ويجعل له مكانه في حساب هذا الكون وبنائه .
وهكذا تعدم أعمال أولئك المشركين . تعدم إعداما يصوره التعبير القرآني تلك الصورة الحسية المتخيلة :
وقوله تعالى : { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا } ، وهذا يوم القيامة ، حين يحاسب الله العباد على ما عملوه من خير وشر ، فأخبر أنه لا يتحصل لهؤلاء المشركين من الأعمال - التي ظنوا أنها منجاة لهم - شيء ؛ وذلك لأنها فقدت الشرط الشرعي ، إما الإخلاص فيها ، وإما المتابعة لشرع الله . فكل عمل لا يكون خالصا وعلى الشريعة المرضية ، فهو باطل . فأعمال الكفار لا تخلو من واحد من هذين ، وقد تجمعهما معا ، فتكون أبعد من القبول حينئذ ؛ ولهذا قال تعالى : { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا } .
قال مجاهد ، والثوري : { وَقَدِمْنَا } أي : عمدنا .
وقال السدي : ( قدمنا ) : عَمَدنا . وبعضهم يقول : أتينا عليه .
وقوله : { فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا } قال سفيان الثوري ، عن أبي إسحاق ، عن الحارث ، عن علي ، رضي الله عنه ، في قوله : { [ فَجَعَلْنَاهُ ]{[21458]} هَبَاءً مَنْثُورًا } ، قال : شعاع الشمس إذا دخل في الكوَّة . وكذا روي من غير هذا الوجه عن علي . ورُوي مثله عن ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جُبَير ، والسُّدِّي ، والضحاك ، وغيرهم . وكذا قال الحسن البصري : هو الشعاع في كوة أحدهم{[21459]} ، ولو ذهب يقبض عليه لم يستطع .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { هَبَاءً مَنْثُورًا } قال : هو الماء المهراق .
وقال أبو الأحوص ، عن أبي إسحاق ، عن الحارث ، عن علي : { هَبَاءً مَنْثُورًا } قال : الهباء رَهْج{[21460]} الدواب . ورُوي مثله عن ابن عباس أيضا ، والضحاك ، وقاله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم .
وقال قتادة في قوله : { هَبَاءً مَنْثُورًا } قال : أما رأيت يَبِيس الشجر إذا ذرته{[21461]} الريح ؟ فهو ذلك الورق .
وقال عبد الله بن وهب : أخبرني عاصم بن حكيم ، عن أبي سريع الطائي ، عن يعلى بن عبيد{[21462]} قال : وإن الهباء الرماد .
وحاصل هذه الأقوال التنبيهُ على مضمون الآية ، وذلك أنهم عملوا أعمالا اعتقدوا أنها شيء ، فلما عرضت على الملك الحكيم{[21463]} العدل الذي لا يجور ولا يظلم أحدا ، إذا إنها لا شيء بالكلية . وشبهت في ذلك بالشيء التافه الحقير المتفرق ، الذي لا يقدر منه صاحبه على شيء بالكلية ، كما قال الله تعالى : { مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ } [ إبراهيم : 18 ] وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا } [ البقرة : 264 ] وقال تعالى : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا } [ النور : 39 ] وتقدم الكلام على تفسير ذلك ، ولله الحمد والمنة .
{ وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا } أي وعمدنا إلى ما عملوا في كفرهم من المكارم كقري الضيف وصلة الرحم وإغاثة الملهوف فأحبطناه لفقد ما هو شرط اعتباره ، وهو تشبيه حالهم وأعمالهم بحال قوم استعصوا على سلطانهم فقدم إلى أشيائهم فمزقها وأبطلها ولم يبق لها أثرا ، وال { هباء } غبار يرى في شعاع يطلع من الكوة من الهبوة وهي الغبار ، و { منثورا } صفته شبه عملهم المحبط بالهباء في حقارته وعدم نفعه ثم بالمنثور منه في انتشاره بحيث لا يمكن نظمه أو تفرقه نحو أغراضهم التي كانوا يتوجهون به نحوها ، أو مفعول ثالث من حيث إنه كالخبر بعد الخبر كقوله تعالى : { كونوا قردة خاسئين } .
ثم أخبر تعالى عما يأتي عليه قضاؤه وفعله فقال حكاية عن يوم القيامة { وقدمنا } أي قصد حكمنا وإنفاذنا ونحو هذا من الألفاظ اللائقة ، وقيل هو قدوم الملائكة أسنده إليه لأنه عن أمره ، وحسنت لفظة { قدمنا } لأن القادم على شيء مكروه لم يقدره ولا أمر به مغير له مذهب ، وأما قول الراجز :
وقدم الخوارج الضلال . . . إلى عباد ربنا فقالوا :
إن دماءكم لنا حلال . . . {[8809]} فالقدوم فيه على بابه ، ومعنى الآية وقصدنا إلى أعمالهم التي هي في الحقيقة لا تزن شيئاً إذ لا نية معها فجعلناها على ما تستحق لا تعد شيئاً وصيرناها { هباء منثوراً } أي شيئاً لا تحصيل له ، والهباء هي الأجرام المستدقة الشائعة في الهواء التي لا يدركها حس إلا حين تدخل الشمس على مكان ضيق يحيط به الظل كالكوة أو نحوها ، فيظهر حينئذ فيما قابل الشمس أشياء تغيب وتظهر فذلك هو الهباء ، ووصفه في هذه الآية ب { منثور } ، ووصفه في غيرها ب «منبث »{[8810]} ، فقالت فرقة هما سواء ، وقالت فرقة المنبث أرق وأدق من المنثور لأن المنثور يقتضي أن غيره نثره كسنابك الخيل والريح أو هدم حائط أو كنس ونحو ذلك ، والمنبث كأنه هو انبث من دقته ، وقال ابن عباس{[8811]} الهباء المنثور ، ما تسفي به الرياح وتبثه ، وروي عنه أنه قال أيضاً الهباء الماء المهراق والأول أصح والعرب تقول أهبات الغبار والتراب ونحوه إذا بثثته وقال الشاعر { الحارث بن حلزة اليشكري ] : [ الخفيف ]
وترى خلفها من الربع والوق . . . ع منيناً كأنه أهباء{[8812]}
كانوا في الجاهلية يعدّون الأعمال الصالحة مَجلبة لخير الدنيا لأنها ترضي الله تعالى فيجازيهم بنعم في الدنيا إذ كانوا لا يؤمنون بالبعث ، وقد قالت خديجة للنبيء صلى الله عليه وسلم حين تحيّر في أمر ما بدأه من الوحي وقالَ لها : « لقد خشِيتُ على نفسي » ، فقالت : « والله لا يخزيك الله أبداً . إنك لتصل الرحم وتَقري الضيف وتعين على نوائب الحق » . فالظاهر أن المشركين إذا سمعوا آيات الوعيد يقولون في أنفسهم : لئن كان البعث حقّاً لنجدنّ أعمالاً عملناها من البرّ تكون سبباً لنجاتنا ، فعلم الله ما في نفوسهم فأخبر بأن أعمالهم تكون كالعدم يومئذٍ .
والقدوم مستعمل في معنى العَمْد والإرادة ، وأفعال المشي والمجيء تجيء في الاستعمال لمعاني القصد والعَزم والشروع مثل : قَام يفعل ، وذَهب يقول ، وأقبل ، ونحوها . وأصل ذلك ناشىء عن تمثيل حال العامد إلى فعل باهتمام بحال من يَمشي إليه ، فموقعه في الكلام أرشق من أن يقول : وعَمَدْنا أو أردنا إلى ما عملوا .
و { مِن } في قوله : { من عمل } بيانية لإبهام { ما } وتنكير { عمل } للنوعية ، والمراد به عمل الخير ، أي إلى ما عملوه من جنس عمل الخير .
والهباء : كائنات جسمية دقيقة لا تُرى إلا في أشعة الشمس المنحصرة في كوّة ونحوها ، تلوح كأنها سَابحة في الهواء وهي أدق من الغبار ، أي فجعلناه كهباء منثور ، وهو تشبيه لأعمالهم في عدم الانتفاع بها مع كونها موجودة بالهَباء في عدم إمساكه مع كونه موجوداً ، وهذا تشبيه بليغ وهو هنا رشيق . ونظيره قوله تعالى : { وبُسّت الجبالُ بسّاً فكانت هباءً منبثاً } [ الواقعة : 5 ، 6 ] .
والمنثور : غير المنتظم ، وهو وصف كاشِف لأن الهباء لا يكون إلاّ منثوراً ، فذكر هذا الوصف للإشارة إلى ما في الهباء من الحقارة ومن التفرق .