قوله تعالى : { عند سدرة المنتهى } وعلى قول ابن عباس معنى :{ نزلة أخرى } هو أنه كانت للنبي صلى الله عليه وسلم عرجات في تلك الليلة لمسألة التخفيف من أعداد الصلوات ، فيكون لكل عرجة نزلة ، فرأى ربه في بعضها ، وروينا عنه : أنه رأى ربه بفؤاده مرتين . وعنه : أنه رأى بعينه ، وقوله : ( عند سدرة المنتهى ) روينا عن عبد الله ابن مسعود قال : لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سدرة المنتهى وهي في السماء السابعة وإليها ينتهي ما يعرج به من الأرض فيقبض منها ، وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها فيقبض منها ، قال :{ إذ يغشى السدرة ما يغشى } ، قال : فراش من ذهب . وروينا في حديث المعراج : ثم صعد بي إلى السماء السابعة فإذا أنا بإبراهيم عليه السلام فسلمت عليه ، ثم رفعت إلي سدرة المنتهى فإذا نبقها مثل قلال هجر ، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة ، والسدرة شجر النبق ، وقيل لها : سدرة المنتهى لأنه إليها ينتهي علم الخلق . قال هلال بن يسار : سأل ابن عباس كعباً عن سدرة المنتهى وأنا حاضر ، فقال كعب : إنها سدرة في أصل العرش على رؤوس حملة العرش وإليها ينتهي علم الخلائق ، وما خلفها غيب لا يعلمه إلا الله . أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، حدثنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرني ابن فنجويه حدثنا المسوحي ، حدثنا عبد الله بن يعيش ، حدثنا يونس بن بكير ، حدثنا محمد بن إسحاق عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن جدته أسماء بنت أبي بكر قالت : " سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يذكر سدرة المنتهى ، قال : " يسير الراكب في ظل الغصن منها مائة عام ويستظل في الغصن منها مائة ألف راكب ، فيها فراش من ذهب ، كأن ثمرها القلال " . وقال مقاتل : هي شجرة تحمل الحلي والحلل والثمار من جميع الألوان ، لو أن ورقة وضعت منها في الأرض لأضاءت لأهل الأرض ، وهي طوبى التي ذكرها الله تعالى في سورة الرعد .
{ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى } وهي شجرة عظيمة جدا ، فوق السماء السابعة ، سميت سدرة المنتهى ، لأنه ينتهي إليها ما يعرج من الأرض ، وينزل إليها ما ينزل من الله ، من الوحي وغيره ، أو لانتهاءعلم الخلق{[894]} إليها أي : لكونها فوق السماوات والأرض ، فهي المنتهى في علوها{[895]} أو لغير ذلك ، والله أعلم .
فرأى محمد صلى الله عليه وسلم جبريل في ذلك المكان ، الذي هو محل الأرواح العلوية الزاكية الجميلة ، التي لا يقربها شيطان ولا غيره من الأرواح الخبيثة .
وقوله : { وَلَقَدْ رَآهُ نزلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى } ، هذه هي المرة الثانية التي رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها جبريل على صورته التي خلقه الله عليها ، وكانت ليلة الإسراء . وقد قدمنا الأحاديث الواردة في الإسراء بطرقها وألفاظها في أول سورة " سبحان " بما أغنى عن إعادته هاهنا ، وتقدم أن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، كان يثبت الرؤية ليلة الإسراء ، ويستشهد بهذه الآية . وتابعه جماعة من السلف والخلف ، وقد خالفه جماعات من الصحابة ، رضي الله عنهم ، والتابعين وغيرهم .
وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن عاصم بن بَهْدَلَة ، عن زر بن حُبَيْش ، عن ابن مسعود في هذه الآية : { وَلَقَدْ رَآهُ نزلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى } ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رأيت جبريل وله ستمائة جناح ، ينتثر من ريشه التهاويل : الدرّ والياقوت " {[27611]} . وهذا إسناد جيد قوي .
وقال أحمد أيضا : حدثنا يحيى بن آدم ، حدثنا شريك ، عن جامع بن أبي راشد ، عن أبي وائل ، عن عبد الله قال : رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل في صورته وله ستمائة جناح ، كل جناح منها قد سد الأفق : يسقط من جناحه من التهاويل والدر والياقوت ما الله به عليم " {[27612]} . إسناده حسن أيضا .
وقال أحمد أيضا : حدثنا زيد بن الحُبَاب ، حدثني حسين ، حدثني عاصم بن بَهْدَلَة قال : سمعت شَقِيق بن سلمة يقول : سمعت ابن مسعود يقول قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رأيت جبريل على سدرة {[27613]} المنتهى وله ستمائة جناح " سألت عاصما عن الأجنحة فأبى أن يخبرني . قال : فأخبرني بعض أصحابه أن الجناح ما بين المشرق والمغرب {[27614]} . وهذا أيضا إسناد جيد .
وقال أحمد : حدثنا زيد بن الحباب ، حدثنا حسين ، حدثني عاصم بن بَهْدَلَة{[27615]} ، حدثني{[27616]} شقيق{[27617]} قال :{[27618]} سمعت ابن مسعود يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أتاني جبريل ، عليه السلام ، في خُضر معلق به الدر {[27619]} " {[27620]} . إسناده جيد أيضا .
وقال الإمام أحمد : حدثني يحيى عن إسماعيل ، حدثنا عامر قال : أتى مسروقُ عائشة فقال : يا أم المؤمنين ، هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل ؟ قالت : سبحان الله لقد قَفّ شعري لما قلت ، أين أنت من ثلاث من حَدّثكهن فقد كذب : من حدثك أن محمدًا رأى ربه فقد كذب ، ثم قرأت : { لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ } [ الأنعام : 103 ] ، { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ } [ الشورى : 51 ] ، ومن أخبرك أنه يعلم ما في غد فقد كذب ، ثم قرأت : { إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنزلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ } الآية [ لقمان : 34 ] ، ومن أخبرك أن محمدا قد كتم{[27621]} ، فقد كذب ، ثم قرأت : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ } [ المائدة : 67 ] ، ولكنه رأى جبريل في صورته مرتين {[27622]} .
وقال أحمد أيضا : حدثنا محمد بن أبي عدي ، عن داود ، عن الشعبي ، عن مسروق قال : كنت عند عائشة فقلت : أليس الله يقول : { وَلَقَدْ رَآهُ بِالأفُقِ الْمُبِينِ } [ التكوير : 23 ] ، { وَلَقَدْ رَآهُ نزلَةً أُخْرَى } فقالت : أنا أول هذه الأمة سأل {[27623]} رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها ، فقال : " إنما ذاك جبريل " . لم يره في صورته التي خلق عليها إلا مرتين ، رآه منهبطا من السماء إلى الأرض ، سادًّا عُظْمُ خلقه ما بين السماء والأرض .
أخرجاه في الصحيحين ، من حديث الشعبي ، به{[27624]} .
رواية أبي ذر ، قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا همام ، حدثنا قتادة ، عن عبد الله بن شقيق قال : قلت لأبي ذر : لو رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لسألته . قال : وما كنت تسأله ؟ قال : كنت أسأله : هل رأى ربه ، عز وجل ؟ فقال : إني قد سألته فقال : " قد رأيته ، نورا أنى أراه " {[27625]} .
هكذا وقع في رواية الإمام أحمد ، وقد أخرجه مسلم من طريقين بلفظين فقال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا وَكِيع ، عن يزيد بن إبراهيم ، عن قتادة ، عن عبد الله بن شقيق ، عن أبي ذر قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل رأيت ربك ؟ فقال : " نور أنى أراه " .
وقال : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا معاذ بن هشام ، حدثنا أبي ، عن قتادة ، عن عبد الله بن شقيق قال : قلت لأبي ذر : لو رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لسألته . فقال : عن أي شيء كنت تسأله ؟ قال : قلت : كنت أسأله : هل رأيت ربك ؟ قال أبو ذر : قد سألت فقال : " رأيت نورا " {[27626]} .
وقد حكى الخلال في " علله " أن الإمام أحمد سُئل عن هذا الحديث فقال : ما زلتُ منكرا له ، وما أدري ما وجهه {[27627]} .
وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عمرو بن عون الواسطي ، أخبرنا هُشَيْم ، عن منصور ، عن الحكم ، عن إبراهيم ، عن أبيه ، عن أبي ذر قال : رآه بقلبه ، ولم يره بعينه .
وحاول ابن خُزَيمة أن يدعي انقطاعه بين عبد الله بن شَقِيق وبين أبي ذر ، وأما ابن الجوزي فتأوله على أن أبا ذر لعله سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الإسراء ، فأجابه بما أجابه به ، ولو سأله بعد الإسراء لأجابه بالإثبات . وهذا ضعيف جدا ، فإن عائشة أم المؤمنين ، رضي الله عنها ، قد سألت عن ذلك بعد الإسراء ، ولم يثبت لها الرؤية . ومن قال : إنه خاطبها على قدر عقلها ، أو حاول تخطئتها فيما ذهبت إليه - كابن خُزيمة في كتاب التوحيد{[27628]} - ، فإنه هو المخطئ ، والله أعلم .
وقال النسائي : حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا هشام {[27629]} ، عن منصور ، عن الحكم ، عن يزيد بن شريك ، عن أبي ذر قال : رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه بقلبه ، ولم يره ببصره {[27630]} .
وقد ثبت في صحيح مسلم ، عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن علي بن مُسْهِر ، عن عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، أنه قال في قوله : { وَلَقَدْ رَآهُ نزلَةً أُخْرَى } ، قال : رأى جبريل {[27631]} ، عليه السلام{[27632]} .
وقال مجاهد في قوله : { وَلَقَدْ رَآهُ نزلَةً أُخْرَى } قال : رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل في صورته مرتين ، وكذا قال قتادة والربيع بن أنس ، وغيرهم .
و : { سدرة المنتهى } هي شجرة نبق{[10694]} ، قال كعب : هي في السماء السابعة ، وروى ذلك مالك بن صعصعة عن النبي صلى الله عليه وسلم{[10695]} . وقال ابن مسعود : في السماء السادسة . وقيل لها : { سدرة المنتهى } لأنها إليها ينتهي علم كل عالم ، ولا يعلم ما وراءها صعداً إلا الله تعالى . وقيل سميت بذلك لأنها إليها ينتهي من مات على سنة النبي صلى الله عليه وسلم .
قال القاضي أبو محمد : هم المؤمنون حقاً من كل جيل .
وقيل سميت بذلك ، لأن ما نزل من أمر الله فعندها يتلقى ولا يتجاوزها ملائكة العلو ، وما صعد من الأرض فعندها يتلقى ولا يتجاوزها ملائكة السفل . وروي عن النبي عليه السلام أن الأمة من الأمم تستظل بظل الفنن منها{[10696]} ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «رفعت لي { سدرة المنتهى } ، فإذا نبقها مثل قلال هجر ، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة »{[10697]} .
وقوله : { عند سدرة المنتهى } متعلق ب { رءاه } . وخُصت بالذكر رؤيته عند سدرة المنتهى لعظيم شرف المكان بما حصل عنده من آيات ربه الكبرى ولأنها منتهى العروج في مراتب الكرامة .
و { سدرة المنتهى } : اسْم أطلقه القرآن على مكان علوي فوق السماء السابعة ، وقد ورد التصريح بها في حديث المعراج من الصحاح عن جمع من الصحابة .
ولعله شُبه ذلك المكان بالسدرة التي هي واحدة شجر السدر إما في صفة تفرعه ، وإما في كونه حداً انتهى إليه قرب النبي صلى الله عليه وسلم إلى موضع لم يبلغه قبله ملَك . ولعله مبني على اصطلاح عندهم بأن يجعلوا في حدود البقاع سدراً .
وإضافة { سدرة } إلى { المنتهى } يجوز أن تكون إضافة بيانية . ويجوز كونها لتعريف السدرة بمكان ينتهي إليه لا يتجاوزه أحد لأن ما وراءه لا تطيقه المخلوقات .
والسدرة : واحدة السدر وهو شجر النبق قالوا : ويختص بثلاثة أوصاف : ظل مديد ، وطعم لذيذ ، ورائحة ذكية ، فجعلت السدرة مثلاً لذلك المكان كما جُعلت النخلة مثلاً للمؤمِن .
وفي قوله : { ما يغشى } إبهام للتفخيم الإجمالي وأنه تضيق عنه عبارات الوصف في اللغة .