الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{عِندَ سِدۡرَةِ ٱلۡمُنتَهَىٰ} (14)

قوله تعالى : " عند سدرة المنتهى " " عند " من صلة " رآه " على ما بينا . والسدر شجر النبق وهي في السماء السادسة ، وجاء في السماء السابعة . والحديث بهذا في صحيح مسلم ، الأول ما رواه مرة عن عبدالله قال : لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى به إلى سدرة المنتهى ، وهي في السماء السادسة ، إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض فيقبض منها ، وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها فيقبض منها ، قال : " إذ يغشى السدرة ما يغشى " قال : فراش{[14364]} من ذهب ، قال : فأعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا : أعطي الصلوات الخمس ، وأعطي خواتيم سورة البقرة ، وغفر لمن لم يشرك بالله من أمته شيئا المقحِمات{[14365]} .

الحديث الثاني رواه قتادة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لما رفعت إلى سدرة المنتهى في السماء السابعة نبقها مثل قِلال هجر وورقها مثل آذان الفيلة يخرج من ساقها نهران ظاهران ونهران باطنان قلت : يا جبريل ما هذا ؟ قال أما الباطنان ففي الجنة ، وأما الظاهران فالنيل والفرات ) لفظ الدارقطني . والنبق بكسر الباء : ثمر السدر الواحد نبقة . ويقال : نبق بفتح النون وسكون الباء ، ذكرهما يعقوب في الإصلاح وهي لغة المصريين ، والأولى أفصح وهي التي ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم . وروى الترمذي عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول - وقد ذكر له سدرة المنتهى - قال : ( يسير الراكب في ظل الغصن منها مائة سنة أو يستظل بظلها مائة راكب - شك يحيى - فيها فراش الذهب كأن ثمرها القلال ) قال أبو عيسى : هذا حديث حسن .

قلت : وكذا لفظ مسلم من حديث ثابت عن أنس ( ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى ، وإذا ورقها كآذان الفيلة ، وإذا ثمرها كالقلال فلما غشيها من أمر الله عز وجل ما غشي تغيرت فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها ) . واختلف لم سميت سدرة المنتهى على أقوال تسعة : الأول : ما تقدم عن ابن مسعود أنه ينتهي إليها كلما يهبط من فوقها ويصعد من تحتها . الثاني : أنه ينتهي علم الأنبياء إليها ويعزب علمهم عما وراءها ، قاله ابن عباس . الثالث : أن الأعمال تنتهي إليها وتقبض منها ، قاله الضحاك . الرابع : لانتهاء الملائكة والأنبياء إليها ووقوفهم عندها ، قاله كعب . الخامس : سميت سدرة المنتهى لأنها ينتهي إليها أرواح الشهداء ، قاله الربيع بن أنس . السادس : لأنه تنتهي{[14366]} إليها أرواح المؤمنين ، قاله قتادة . السابع : لأنه ينتهي إليها كل من كان على سنة محمد صلى الله عليه وسلم ومنهاجه ، قاله علي رضي الله عنه والربيع بن أنس أيضا . الثامن : هي شجرة على رؤوس حملة العرش إليها ينتهي علم الخلائق ، قاله كعب أيضا .

قلت : يريد - والله أعلم - أن ارتفاعها وأعالي أغصانها قد جاوزت رؤوس حملة العرش ، ودليله على ما تقدم من أن أصلها في السماء السادسة وأعلاها في السماء السابعة ، ثم علت فوق ذلك حتى جاوزت رؤوس حملة العرش . والله أعلم .

التاسع : سميت بذلك لأن من رفع إليها فقد انتهى في الكرامة . وعن أبي هريرة لما أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى به إلى سدرة المنتهى فقيل له هذه سدرة المنتهى ينتهي إليها كل أحد خلا من أمتك على سنتك ، فإذا هي شجرة يخرج من أصلها أنهار من ماء غير آسن ! وأنهار من لبن لم يتغير طعمه ، وأنهار من خمر لذة للشاربين ، وأنهار من عسل مصفى ، وإذا هي شجرة يسير الراكب المسرع في ظلها مائة عام لا يقطعها ، والورقة منها تغطي الأمة كلها ، ذكره الثعلبي .


[14364]:ويروى: "جراد من ذهب". والفراش: دويبة ذات جناحين تتهافت في ضوء السراج واحدتها فراشة.
[14365]:المقحمات: الذنوب العظام التي تقحم أصحابها في النار، أي تلقيهم فيها.
[14366]:في ب، ح، ز، س، هـ: "لأنه تأوي إليها".