قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله } ، بطاعته وترك معصيته .
قوله تعالى : { يجعل لكم فرقاناً } ، قال مجاهد : مخرجاً في الدنيا والآخرة ، وقال مقاتل بن حيان : مخرجاً في الدين من الشبهات ، وقال عكرمة : نجاة ، أي يفرق بينكم وبين ما تخافون ، وقال الضحاك : بياناً ، وقال ابن إسحاق : فصلاً بين الحق والباطل ، يظهر الله به حقكم ، ويطفئ بطلان من خالفكم . والفرقان مصدر كالرجحان والنقصان . قوله تعالى : { ويكفر عنكم سيئاتكم } ، يمح عنكم ما سلف من ذنوبكم .
29 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ .
امتثال العبد لتقوى ربه عنوان السعادة ، وعلامة الفلاح ، وقد رتب اللّه على التقوى من خير الدنيا والآخرة شيئا كثيرا ، فذكر هنا أن من اتقى اللّه حصل له أربعة أشياء ، كل واحد منها خير من الدنيا وما فيها :
الأول : الفرقان : وهو العلم والهدى الذي يفرق به صاحبه بين الهدى والضلال ، والحق والباطل ، والحلال والحرام ، وأهل السعادة من أهل الشقاوة .
الثاني والثالث : تكفير السيئات ، ومغفرة الذنوب ، وكل واحد منهما داخل في الآخر عند الإطلاق وعند الاجتماع يفسر تكفير السيئات بالذنوب الصغائر ، ومغفرة الذنوب بتكفير الكبائر .
الرابع : الأجر العظيم والثواب الجزيل لمن اتقاه وآثر رضاه على هوى نفسه . وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ
( يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (
والهتاف الأخير للذين آمنوا - في هذا المقطع من السورة - هو الهتاف بالتقوى . فما تنهض القلوب بهذه الأعباء الثقال ، إلا وهي على بينة من أمرها ونور يكشف الشبهات ويزيل الوساوس ويثبت الأقدام على الطريق الشائك الطويل . وما يكون لها هذا الفرقان إلا بحساسية التقوى وإلا بنور الله :
( يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ، ويكفر عنكم سيئاتكم ، ويغفر لكم . والله ذو الفضل العظيم ) .
هذا هو الزاد ، وهذه هي عدة الطريق . . زاد التقوى التي تحيي القلوب وتوقظها وتستجيش فيها أجهزة الحذر والحيطة والتوقي . وعدة النور الهادي الذي يكشف منحنيات الطريق ودروبه على مد البصر ؛ فلا تغبشه الشبهات التي تحجب الرؤية الكاملة الصحيحة . ثم هو زاد المغفرة للخطايا . الزاد المطمئن الذي يسكب الهدوء والقرار . . وزاد الأمل في فضل الله العظيم يوم تنفد الأزواد وتقصر الأعمال .
إنها حقيقة : أن تقوى الله تجعل في القلب فرقانا يكشف له منعرجات الطريق . ولكن هذه الحقيقة - ككل حقائق العقيدة - لا يعرفها إلا من ذاقها فعلا ! إن الوصف لا ينقل مذاق هذه الحقيقة لمن لم يذوقوها ! .
إن الأمور تظل متشابكة في الحس والعقل ؛ والطرق تظل متشابكة في النظر والفكر ؛ والباطل يظل متلبسا بالحق عند مفارق الطريق ! وتظل الحجة تُفحم ولكن لا تُقنع . وتسكت ولكن لا يستجيب لها القلب والعقل . ويظل الجدل عبثا والمناقشة جهدا ضائعا . . ذلك ما لم تكن هي التقوى . . فإذا كانت استنار العقل ، ووضح الحق ، وتكشف الطريق ، واطمأن القلب ، واستراح الضمير ، واستقرت القدم وثبتت على الطريق !
إن الحق في ذاته لا يخفى على الفطرة . . إن هناك اصطلاحا من الفطرة على الحق الذي فطرت عليه ؛ والذي خلقت به السماوات والأرض . . ولكنه الهوى هو الذي يحول بين الحق والفطرة . . الهوى هو الذي ينشر الغبش ، ويحجب الرؤية ، ويُعمي المسالك ، ويخفي الدروب . . والهوى لا تدفعه الحجة إنما تدفعه التقوى . . تدفعه مخافة الله ، ومراقبته في السر والعلن . . ومن ثم هذا الفرقان الذي ينير البصيرة ، ويرفع اللبس ، ويكشف الطريق .
وهو أمر لا يقدر بثمن . . ولكن فضل الله العظيم يضيف إليه تكفير الخطايا ومغفرة الذنوب . ثم يضيف إليهما ( الفضل العظيم ) . .
ألا إنه العطاء العميم الذي لا يعطيه إلا الرب( الكريم )ذو الفضل العظيم !
قال ابن عباس ، والسُّدِّيّ ، ومُجاهِد ، وعِكْرِمة ، والضحاك ، وقَتَادة ، ومُقَاتِل بن حَيَّان : { فُرْقَانًا } مخرجا . زاد مجاهد : في الدنيا والآخرة .
وفي رواية عن ابن عباس : { فُرْقَانًا } نجاة . وفي رواية عنه : نصرا .
وقال محمد بن إسحاق : { فُرْقَانًا } أي : فصلا بين الحق والباطل .
وهذا التفسير من ابن إسحاق أعم مما تقدم وقد يستلزم ذلك كله ؛ فإن من اتقى الله بفعل أوامره وترك زواجره ، وفق لمعرفة الحق من الباطل ، فكان ذلك سبب نصره{[12865]} ونجاته ومخرجه من أمور الدنيا ، وسعادته يوم القيامة ، وتكفير ذنوبه - وهو محوها - وغفرها : سترها عن الناس - سببًا لنيل ثواب الله الجزيل ، كما قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [ الحديد : 28 ] .
{ يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا } هداية في قلوبكم تفرقون بها بين الحق والباطل أو نصرا يفرق بين المحق والمبطل بإعزاز المؤمنين وإذلال الكافرين ، أو مخرجا من الشبهات ، أو نجاة عما تحذرون في الدارين ، أو ظهورا يشهر أمركم ويبث صيتكم من قولهم بت أفعل كذا حتى سطع الفرقان أي الصبح . { ويكفّر عنكم سيئاتكم } ويسترها . { ويغفر لكم } بالتجاوز والعفو عنكم . وقيل السيئات الصغائر والذنوب الكبائر . وقيل المراد ما تقدم وما تأخر لأنها في أهل بدر وقد غفرهما الله تعالى لهم . { والله ذو الفضل العظيم } تنبيه على أن ما وعده لهم على التقوى تفضل منه وإحسان ، وأنه ليس مما يوجب تقواهم عليه كالسيد إذا وعد عبده إنعاما على عمل .
وقوله : { يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله } الآية ، وعد للمؤمنين بشرط الاتقاء والطاعة له ، و { ويجعل لكم فرقاناً } معناه فرقاً بين حقكم وباطل من ينازعكم أي بالنصرة والتأييد عليهم ، و «الفرقان » مصدر من فرق بين الشيئين إذا حال بينهما أو خالف حكمهما ، ومنه قوله { يوم الفرقان }{[5295]} وعبر قتادة وبعض المفسرين عن الفرقان ها هنا بالنجاة ، وقال السدي ومجاهد معناه : مخرجاً ، ونحو هذا مما يعمه ما ذكرناه ، وقد يوجد للعرب استعمال الفرقان كما ذكر المفسرون فمن ذلك قول مزرد بن ضرار : [ الخفيف ]
بادر الأفقُ أنْ يَغيبَ فلمّا*** أَظْلَمَ اللّيلُ لمْ يجدْ فُرْقَانا{[5296]}
ما لك من طولِ الأسَى فُرقانُ*** بعد قطينٍ رحلوا وبانوا{[5297]}
وكيف أرجّي الخلدَ والموتُ طالبي*** وماليَ من كأسِ المنيَّةِ فرقان{[5298]}