بعد ذلك يعالج أسطورة الملائكة واتخاذهم آلهة بزعم أنهم بنات الله ، وهم عباد الله :
وجعلوا له من عباده جزءاً . إن الإنسان لكفور مبين . أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين ? وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلاً ظل وجهه مسوداً وهو كظيم . أو من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين ? وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً أشهدوا خلقهم ? ستكتب شهادتهم ويسألون . وقالوا : لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم ، إن هم إلا يخرصون . أم آتيناهم كتاباً من قبله فهم به مستمسكون ? بل قالوا : إنا وجدنا آباءنا على أمة ، وإنا على آثارهم مهتدون . وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها : إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون . قال : أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم ? قالوا : إنا بما أرسلتم به كافرون . فانتقمنا منهم ، فانظر كيف كان عاقبة المكذبين . .
إن هذا القرآن يحاصر هذه الأسطورة ويواجهها في نفوسهم من كل جانب ، ولا يبقي ثغرة مفتوحة حتى يأخذها عليهم ، ويواجههم في هذا كله بمنطقهم ومسلماتهم وواقع حياتهم ، كما يواجههم بمصير الذين وقفوا مثل وقفتهم ، وقالوا مثل قولتهم من الغابرين .
ويبدأ بتصوير سخف هذه الأسطورة وتهافتها ، ومقدار ما في القول بها من كفر صريح :
( وجعلوا له من عباده جزءاً ، إن الإنسان لكفور مبين ) . .
فالملائكة عباد الله ، ونسبة بنوتهم له معناها عزلهم من صفة العبودية ، وتخصيصهم بقرابة خاصة بالله ؛ وهم عباد كسائر العباد ، لا مقتضى لتخصيصهم بصفة غير صفة العبودية في علاقتهم بربهم وخالقهم . وكل خلق الله عباد له خالصو العبودية . وادعاء الإنسان هذا الادعاء يدمغه بالكفر الذي لا شبهة فيه : ( إن الإنسان لكفور مبين ) .
يقول تعالى مخبرا عن المشركين فيما افتروه وكذبوه في جعلهم بعض الأنعام لطواغيتهم وبعضها لله ، كما ذكر الله عنهم في سورة " الأنعام " ، في قوله : { وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } [ الأنعام : 136 ] . وكذلك جعلوا له من قسمي{[26015]} البنات والبنين أخسَّهما وأردأهما وهو البنات ، كما قال تعالى : { أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأنْثَى . تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى } [ النجم : 21 ، 22 ] . وقال هاهنا : { وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ }
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وجعلوا له}: وصفوا له {من عباده} من الملائكة.
{جزءا} يعني عدلا هو الولد، فقالوا: إن الملائكة بنات الله تعالى.
يقول الله: {إن الإنسان} في قوله {لكفور مبين}: بين الكفر...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وجعل هؤلاء المشركون لله من خلقه نصيبا، وذلك قولهم للملائكة: هم بنات الله...
وقال آخرون: عنى بالجزء هاهنا: العِدل...
وإنما اخترنا القول الذي اخترناه في تأويل ذلك، لأن الله جلّ ثناؤه أتبع ذلك قوله:"أمِ اتّخَذَ مِما يخْلُقُ بَناتٍ وأصْفاكُمْ بالبَنِينَ" توبيخا لهم على قولهم ذلك، فكان معلوما أن توبيخه إياهم بذلك إنما هو عما أخبر عنهم من قيلهم ما قالوا في إضافة البنات إلى الله جلّ ثناؤه.
وقوله: "إنّ الإنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ "يقول تعالى ذكره: إن الإنسان لذو جحد لنِعم ربه التي أنعمها عليه "مبين": يقول: يبين كفرانه نعمه عليه، لمن تأمله بفكر قلبه، وتدبر حاله.
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
الجعل -هاهنا- الحكم بالشيء والقول، كما تقول: جعلت زيداً أفضل الناس، أي وصفته وحكمت به...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{إن الإنسان لكفور} أي بلفظ الجنس العام، والمراد بعض الإنسان، وهو هؤلاء الجاعلون ومن أشبههم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما علم بهذا الاعتراف منه وما تبعه من التقريب، أن العالم كله متزاوج بتسخير بعضه لبعض، فثبت أن خالقه مباين له لا يصح أصلاً أن يكون محتاجاً بوجه؛ لأنه لا مثل له أصلاً، كان موضع التعجيب من نسبتهم الولد إليه سبحانه: فقال لافتاً القول عن خطابهم للإعراض المؤذن بالغضب: {وجعلوا} أي ولئن سألتهم ليقولن كذا اللازم منه قطعاً؛ لأنه لا مثل {له} والحال أنهم نسبوا له وصيروا بقولهم قبل سؤالك إياهم نسبة هم حاكمون بها حكماً لا يتمارون فيه، كأنهم متمكنون من ذلك تمكن الجاعل فيه يجعله {من عباده} الذين أبدعهم كما أبدع غيرهم.
{جزءاً} أي ولداً هو لحصرهم إياه في الأنثى أحد قسمي الأولاد، وكل ولد فهو جزء من والده، ومن كان له جزء كان محتاجاً فلم يكن إلهاً.
ولما كان هذا في غاية الغلظة من الكفر، قال مؤكداً لإنكارهم أن يكون عندهم كفر: {إن الإنسان} أي هذا النوع الذي هم بعضه.
{لكفور مبين} أي مبين الكفر في نفسه مناد عليها بالكفر بياناً لذلك لكل أحد، هذا ما يقتضيه طبعه بما هو عليه من النقص بالشهوات والحظوظ؛ ليبين فضل من حفظه الله بالعقل على من سواه من جميع المخلوقات، بمجاهدته لعدو وهو بين جنبيه مع ظهور قدرة الله الباهرة بذلك...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
بعد ذلك يعالج أسطورة الملائكة واتخاذهم آلهة بزعم أنهم بنات الله، وهم عباد الله:... إن هذا القرآن يحاصر هذه الأسطورة ويواجهها في نفوسهم من كل جانب، ولا يبقي ثغرة مفتوحة حتى يأخذها عليهم، ويواجههم في هذا كله بمنطقهم ومسلماتهم وواقع حياتهم، كما يواجههم بمصير الذين وقفوا مثل وقفتهم، وقالوا مثل قولتهم من الغابرين. ويبدأ بتصوير سخف هذه الأسطورة وتهافتها، ومقدار ما في القول بها من كفر صريح: (وجعلوا له من عباده جزءاً إن الإنسان لكفور مبين). فالملائكة عباد الله، ونسبة بنوتهم له معناها عزلهم من صفة العبودية، وتخصيصهم بقرابة خاصة بالله؛ وهم عباد كسائر العباد، لا مقتضى لتخصيصهم بصفة غير صفة العبودية في علاقتهم بربهم وخالقهم. وكل خلق الله عباد له خالصو العبودية. وادعاء الإنسان هذا الادعاء يدمغه بالكفر الذي لا شبهة فيه: (إن الإنسان لكفور مبين)...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
فالمشركون مقرّون بأن الله خالق الأشياء كلّها ومع ذلك جعلوا له شركاء في الإلَهية، وكيف يستقيم أن يكون المخلوق إلها، وجعلوا لله بنات، والبنوة تقتضي المماثلة في الماهية، وكيف يستقيم أن يكون لخالق الأشياء كلّها بنات فهنّ لا محالة مخلوقات له فإنْ لم يكنّ مخلوقات لزم أن يكنّ موجودات بوجوده فكيف تكنّ بناته. وإلى هذا التناقض الإشارة بقوله: {من عباده} أي من مخلوقاته، أو ليست العبودية الحقة إلاّ عبودية المخلوق.