{ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا } لا ينبغي لأحد أن يضربه ، وهو قياس قدرة الخالق بقدرة المخلوق ، وأن الأمر المستبعد على قدرة المخلوق مستبعد على قدرة الخالق . فسر هذا المثل [ بقوله ] : { قَالَ } ذلك الإنسان { مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ } أي : هل أحد يحييها ؟ استفهام إنكار ، أي : لا أحد يحييها بعد ما بليت وتلاشت .
هذا وجه الشبهة والمثل ، وهو أن هذا أمر في غاية البعد على ما يعهد من قدرة البشر ، وهذا القول الذي صدر من هذا الإنسان غفلة منه ، ونسيان لابتداء خلقه ، فلو فطن لخلقه بعد أن لم يكن شيئا مذكورا فوجد عيانا ، لم يضرب هذا المثل .
( وضرب لنا مثلاً - ونسي خلقه - قال : من يحيي العظام وهي رميم . قل : يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم ) . .
يا للبساطة ! ويا لمنطق الفطرة ! ومنطق الواقع القريب المنظور !
وهل تزيد النطفة حيوية أو قدرة أو قيمة على العظم الرميم المفتوت ? أو ليس من تلك النطفة كان الإنسان ? أو ليست هذه هي النشأة الأولى ? أو ليس الذي حول تلك النطفة إنساناً ، وجعله خصيماً مبيناً بقادر على أن يحول العظم الرميم مخلوقاً حياً جديداً ?
أي : استبعد إعادة الله تعالى - ذي القدرة العظيمة التي خلقت{[24879]} السموات والأرض - للأجساد والعظام الرميمة ، ونسي نفسه ، وأن الله خلقه من العدم ، فعلم من نفسه ما هو أعظم مما استبعده وأنكره وجحده .
وقوله : وَضَرَبَ لنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ يقول : ومثّل لنا شبها بقوله : مَنْ يُحْيِي العِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ إذ كان لا يقدر على إحياء ذلك أحد ، يقول : فجعلنا كمن لا يقدر على إحياء ذلك من الخلق وَنَسِيَ خَلْقَهُ يقول : ونسي خلْقنَا إياه كيف خلقناه ، وأنه لم يكن إلا نطفة ، فجعلناها خلقا سَوِيّا ناطقا ، يقول : فلم يفكر في خلقناه ، فيعلم أن من خلقه من نطفه حتى صار بشرا سويا ناطقا متصرّفا ، لا يعْجِز أن يعيد الأموات أحياء ، والعظام الرّميم بشَرا كهيئتهم التي كانوا بها قبل الفناء يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قُلْ لهذا المشرك القائل لك : من يُحيي العظام وهي رميم يُحْيِيها الّذِي أنشأَها أوّلَ مَرّةٍ يقول : يحييها الذي ابتدع خلْقها أوّل مرّة ولم تكن شيئا وَهُوَ بِكُلّ خَلْقٍ عَلِيمٌ يقول : وهو بجميع خلقه ذو علم كيف يميت ، وكيف يحيي ، وكيف يبدىء ، وكيف يعيد ، لا يخفى عليه شيء من أمر خلقه .
وضرب المثل : إيجاده ، كما يقال : ضَرب خيمة ، وضَرب ديناراً ، وتقدم بيانه عند قوله تعالى : { إن اللَّه لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما } في سورة البقرة } ( 26 ) .
والمَثل : تمثيل الحالة ، فالمعنى : وأظهر للناس وأتى لهم بتشبيه حال قدرتنا بحال عجز الناس إذ أحال إحياءنا العظام بعد أن أرَمَّت فهو كقوله تعالى : { فلا تضربوا للَّه الأمثال } [ النحل : 74 ] ، أي لا تُشَبِّهوه بخلقه فتجعلوا له شركاء لوقوعه بعد { ويعبدون من دون اللَّه ما لا يملك لهم رزقاً من السماوات والأرض شيئا } [ النحل : 73 ] .
والاستفهام في قوله : { من يحي العظام } إنكاري . و { من } عامة في كل من يسند إليه الخبر . فالمعنى : لا أحد يحيي العظام وهي رميم . فشمل عمومه إنكارهم أن يكون الله تعالى محيياً للعظام وهي رميم ، أي في حال كونها رميماً .
وجملة { قال مَن يُحي العِظامَ } بيان لجملة { ضرب لنا مثلاً } كقوله تعالى : { فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم } [ طه : 120 ] الآية ، فجملة { قال يا آدم بيان لجملة وسوس .
والنسيان في قوله : { ونَسِيَ خلقه } مستعار لانتفاء العلم من أصله ، أي لعدم الاهتداء إلى كيفية الخلق الأول ، أي نسي أننا خلقناه من نطفة ، أي لم يهتد إلى أن ذلك أعجب من إعادة عظمه كقوله تعالى : { أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لَبْس من خلق جديد } [ ق : 15 ] .
وذكر النطفة هنا تمهيد للمفاجأة بكونه خصيماً مبيناً عقب خلقه ، أي ذلك الهيِّنُ المنشأ قد أصبح خصيماً عنيداً ، وليبني عليه قوله بعد : { ونَسِيَ خَلْقَهُ } أي نسي خلقه الضعيف فتطاول وجاوز ، ولأن خلقه من النطفة أعجب من إحيائه وهو عَظْم مجاراة لزعمه في مقدار الإِمكان ، وإن كان الله يحيي ما هو أضعف من العظام فيحيي الإِنسان من رَماده ، ومن ترابه ، ومن عَجْب ذَنَبه ، ومن لا شيء باقياً منه .
والرميم : البالي ، يقال : رَمَّ العظمُ وأَرَمَّ ، إذا بَلِي فهو فعيل بمعنى المصدر ، يقال : رمّ العظمُ رميماً ، فهو خبر بالمصدر ، ولذلك لم يطابق المخبر عنه في الجمعية وهي بِلىً .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.