السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلٗا وَنَسِيَ خَلۡقَهُۥۖ قَالَ مَن يُحۡيِ ٱلۡعِظَٰمَ وَهِيَ رَمِيمٞ} (78)

{ وضرب } أي : هذا الإنسان { لنا } أي : على ما يعلم من عظمتنا { مثلاً } أي : أمراً عجيباً وهو نفي القدرة على إحياء الموتى ، روي : «أن أبي بن خلف الجمحي وهو الذي قتله النبي صلى الله عليه وسلم بأحد مبارزة ، أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعظم بال يفتته بيده فقال : أترى الله يحيي هذا بعدما رم ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : نعم ويبعثك ويدخلك النار » فنزلت . وقيل : هو العاصي بن وائل قاله الجلال المحلي وأكثر المفسرين على الأول{ ونسي } أي : هذا الذي تصدى على مهانة أصله لمخاصمة الجبار { خلقه } أي : بدء أمره من المني وهو أغرب من مثله ، والنسيان هنا يحتمل أن يكون بمعنى الذهول وأن يكون بمعنى الترك ، ثم استأنف الإخبار عن هذا المثل بأن { قال } أي : على طريق الإنكار { من يحيي العظام وهي رميم } أي : صارت تراباً تمرّ مع الرياح ورميم قال البيضاوي : بمعنى فاعل من رم الشيء صار اسماً بالغلبة ولذلك لم يؤنث ، أو اسم مفعول من رممته ، وفيه دليل على أن العظم ذو حياة فيؤثر فيه الموت كسائر الأعضاء ا . ه . قال البغوي : ولم يقل : رميمة ؛ لأنه معدول عن فاعله فكل ما كان معدولاً عن وجهه ووزنه كان مصروفاً عن إعرابه كقوله تعالى { وما كانت أمك بغيًّا } ( مريم : 28 ) أسقط الهاء ؛ لأنها مصروفة عن باغية .

تنبيه : هذه الآية وما بعدها إشارة إلى بيان الحشر ؛ لأن المنكرين للحشر منهم من لم يذكر فيه دليلاً ولا شبهة بل اكتفى بمجرد الاستبعاد وهم الأكثرون { أءِذا ضللنا في الأرض أئنا لفي خلق جديد } ( السجدة : 10 ) { أءذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمبعوثون } ( المؤمنون : 82 ) { من يحيي العظام وهي رميم } قالوا : ذلك على طريق الاستبعاد فأبطل الله تعلى استبعادهم بقوله تعالى : { ونسي خلقه } أي : نسي أنا خلقناه من تراب ومن نطفة متشابهة الأجزاء ثم جعلنا لهم من النواصي إلى الأقدام أعضاء مختلفة الصورة ، وما اكتفينا بذلك حتى أودعناهم ما ليس من قبيل هذه الأجرام وهو النطق والعقل اللذان بهما استحقوا الإكرام ، فإن كانوا يقنعون بمجرد الاستبعاد فهلا يستبعدون خلق الناطق العاقل من نطفة مذرة لم تكن محلاً للحياة أصلاً ، ويستبعدون إعادة النطق والعقل إلى محل كانا فيه واختاروا العظم بالذكر ؛ لأنه أبعد عن الحياة لعدم الإحساس فيه ووصفوه بما يقوى جانب الاستبعاد من البلاء والتفتت .

والله تعالى دفع استبعادهم من جهة ما في العبد من القدرة والعلم فقال : { وضرب لنا مثلاً } أي : جعل قدرتنا كقدرتهم ونسي خلقه العجيب وبدأه الغريب ، ومنهم من ذكر شبهة وإن كان في آخرها يعود إلى مجرد الاستبعاد وهي على وجهين :

الأول : أنه بعد العدم لم يبق شيئاً فكيف الحكم على العدم بالوجود ؟