ثم قال تعالى : { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين } هذا استفهام إنكاري ، أي : لا تظنوا ، ولا يخطر ببالكم أن تدخلوا الجنة من دون مشقة واحتمال المكاره في سبيل الله وابتغاء مرضاته ، فإن الجنة أعلى المطالب ، وأفضل ما به يتنافس المتنافسون ، وكلما عظم المطلوب عظمت وسيلته ، والعمل الموصل إليه ، فلا يوصل إلى الراحة إلا بترك الراحة ، ولا يدرك النعيم إلا بترك النعيم ، ولكن مكاره الدنيا التي تصيب العبد في سبيل الله عند توطين النفس لها ، وتمرينها عليها ومعرفة ما تئول إليه ، تنقلب عند أرباب البصائر منحا يسرون بها ، ولا يبالون بها ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء .
وفي سؤال استنكاري يصحح القرآن تصورات المسلمين عن سنة الله في الدعوات ، وفي النصر والهزيمة ، وفي العمل والجزاء . ويبين لهم أن طريق الجنة محفوف بالمكاره ، وزاده الصبر على مشاق الطريق ، وليس زاده التمني والأماني الطائرة التي لا تثبت على المعاناة والتمحيص :
( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ، ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين . ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه . فقد رأيتموه وأنتم تنظرون ) . .
إن صيغة السؤال الاستنكارية يقصد بها إلى التنبيه بشدة إلى خطأ هذا التصور : تصور أنه يكفي الإنسان أن يقولها كلمة باللسان : أسلمت وأنا على استعداد للموت . فيبلغ بهذه الكلمة أن يؤدي تكاليف الإيمان ، وأن ينتهي إلى الجنة والرضوان !
إنما هي التجربة الواقعية ، والامتحان العملي . وإنما هو الجهاد وملاقاة البلاء ، ثم الصبر على تكاليف الجهاد ، وعلى معاناة البلاء .
وفي النص القرآني لفتة ذات مغزى :
( ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ) . . ( ويعلم الصابرين ) . .
فلا يكفي أن يجاهد المؤمنون . إنما هو الصبر على تكاليف هذه الدعوة أيضا . التكاليف المستمرة المتنوعة التي لا تقف عند الجهاد في الميدان . فربما كان الجهاد في الميدان أخف تكاليف هذه الدعوة التي يطلب لها الصبر ، ويختبر بها الإيمان . إنما هنالك المعاناة اليومية التي لا تنتهي : معاناة الاستقامة على أفق الإيمان . والاستقرار على مقتضياته في الشعور والسلوك ، والصبر في أثناء ذلك على الضعف الإنساني : في النفس وفي الغير ، ممن يتعامل معهم المؤمن في حياته اليومية . والصبر على الفترات التي يستعلي فيها الباطل وينتفش ويبدو كالمنتصر ! والصبر على طول الطريق وبعد الشقة وكثرة العقبات . والصبر على وسوسة الراحة وهفوة النفس لها في زحمة الجهد والكرب والنضال . . والصبر على أشياء كثيرة ليس الجهاد في الميدان إلا واحدا منها ، في الطريق المحفوف بالمكاره . طريق الجنة التي لا تنال بالأماني وبكلمات اللسان !
ثم قال : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ } أي : أحسبتم أن تدخلوا الجنة ولم تُبْتَلوا بالقتال والشدائد ، كما قال تعالى في سورة البقرة : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ " [ البقرة : 214 ] وقال تعالى : { الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } [ العنكبوت : 1 - 3 ] ؛ ولهذا قال هاهنا : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ } أي : لا يحصل لكم دخول الجنة حتى تُبْتَلَوا ويرى الله منكم المجاهدين في سبيله والصابرين على مقارنة الأعداء .
{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنّةَ وَلَمّا يَعْلَمِ اللّهُ الّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصّابِرِينَ }
يعني بذلك جلّ ثناؤه : أم حسبتم يا معشر أصحاب محمد ، وظننتم أن تدخلوا الجنة ، وتنالوا كرامة ربكم ، وشرف المنازل عنده¹ { وَلمّا يَعلَمِ اللّهُ الّذِينَ جاهَدُوا مِنَكُمْ } يقول : ولما يتبين لعبادي المؤمنين ، المجاهد منكم في سبيل الله ، على ما أمره به . وقد بينت معنى قوله : { وَلمّا يَعلَمِ اللّهُ } : وليعلم الله ، وما أشبه ذلك بأدلته فيما مضى بما أغنى عن إعادته وقوله : { وَيَعْلَمَ الصّابِرِينَ } يعني : الصابرين عند البأس على ما ينالهم في ذات الله من جرح وألم ومكروه . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { أمْ حَسِبْتُمْ أنْ تَدْخُلُوا الجَنّةَ } وتصيبوا من ثوابي الكرامة ، ولم أختبركم بالشدّة ، وأبتليكم بالمكاره ، حتى أعلم صدق ذلك منكم الإيمان بي ، والصبر على ما أصابكم فيّ .
ونصب { وَيَعْلَمَ الصّابِرِينَ } على الصرف ، والصرف أن يجتمع فعلان ببعض حروف النسق ، وفي أوله ما لا يحسن إعادته مع حرف النسق ، فينصب الذي بعد حرف العطف على الصرف ، لأنه مصروف عن معنى الأوّل ، ولكن يكون مع جحد أو استفهام أو نهي في أول الكلام ، وذلك كقولهم : لا يسعني شيء ويضيق عنك ، لأن «لا » التي مع «يسعني » لا يحسن إعادتها مع قوله : «ويضيق عنك » ، فلذلك نصب . والقراء في هذا الحرف على النصب¹ وقد روى عن الحسن أنه كان يقرأ : «وَيَعْلَمِ الصّابِرِينَ » فيكسر الميم من «يعلم » ، لأنه كان ينوي جزمها على العطف به على قوله : { وَلمّا يَعْلَمِ اللّهُ } .
{ أم } : هي بمعنى الإضراب عن الكلام الأول والترك له ، وفيها لازم معنى الاستفهام ، فلذلك قدرها سيبويه ببل وألف الاستفهام ، و { حسبتم } معناه ظننتم . وهذه الآية وما بعدها تقريع وعتب لطوائف المؤمنين الذين وقعت منهم الهفوات المشهورة في يوم واحد ، وقوله : { ولما يعلم } نفي مؤكد وهو معادل لقول القائل : قد كان كذا ، فلما أكد هذا الخبر الموجب ، بقد ، أكد النفي المعادل له ب ( لما ) ، وإذا قال القائل : كان كذا ، فمعادله لم يكن دون تأكيد في الوجهين ، قاله سيبويه : وقرأ جمهور الناس : بكسر الميم للالتقاء في قوله : { ولما يعلم } وقرأ يحيى بن وثاب وإبراهيم النخعي : «ولما يعلم » بفتح الميم إتباعاً لفتحة اللام ، وقرأ الجمهور «ويعلمَ » على النصب بإضمار - أن- عند البصريين ، وبواو الصرف عند الكوفيين وروي عن أبي عمرو بن العلاء أنه قرأ : «ويعلمُ » بالرفع على استئناف الفعل ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن ويحيى بن يعمر وأبو حيوة وعمرو بن عبيد : «ويعلمِ » بكسر الميم جزماً معطوفاً على قوله { ولما يعلم } .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني بذلك جلّ ثناؤه: أم حسبتم يا معشر أصحاب محمد، وظننتم أن تدخلوا الجنة، وتنالوا كرامة ربكم، وشرف المنازل عنده {وَلمّا يَعلَمِ اللّهُ الّذِينَ جاهَدُوا مِنَكُمْ} يقول: ولما يتبين لعبادي المؤمنين، المجاهد منكم في سبيل الله، على ما أمره به...
وقوله: {وَيَعْلَمَ الصّابِرِينَ} يعني: الصابرين عند البأس على ما ينالهم في ذات الله من جرح وألم ومكروه...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة} قيل: بل {حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم} قيل فيه بوجهين: أحدهما: أي لم يجاهدوا. والثاني {لما يعلم} بمعنى إلا أن يعلم: يعني لا تدخلوا الجنة إلا أن يعلم الله الذين جاهدوا منكم...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
من ظنَّ أنه يصل إلى محل عظيم من دون مقاساة الشدائد، ألقته أمانيه في مهواة الهلاك، وإنَّ من عرف قَدْر مطلوبه، سَهُلَ عليه بَذْلُ مجهوده...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَلَمَّا يَعْلَمِ الله}: بمعنى ولما تجاهدوا، لأنّ العلم متعلق بالمعلوم، فنزل نفي العلم منزلة نفي متعلقه، لأنه منتف بانتفائه. يقول الرجل: ما علم الله في فلان خيراً، يريد: ما فيه خير حتى يعلمه. ولما بمعنى لم، إلا أن فيها ضرباً من التوقع فدلّ على نفي الجهاد فيما مضى وعلى توقعه فيما يستقبل. وتقول: وعدني أن يفعل كذا، ولما تريد، ولم يفعل، وأنا أتوقع فعله... {وَيَعْلَمَ الصابرين}، نصب بإضمار أن والواو بمعنى الجمع... وقرأ الحسن بالجزم على العطف. وروى عبد الوارث عن أبي عمرو «ويعلم» بالرفع على أنّ الواو للحال، كأنه قيل: ولما تجاهدوا وأنتم صابرون.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{أم}: هي بمعنى الإضراب عن الكلام الأول والترك له، وفيها لازم معنى الاستفهام، فلذلك قدرها سيبويه ب"بل" وألف الاستفهام، و {حسبتم} معناه ظننتم. وهذه الآية وما بعدها تقريع وعتب لطوائف المؤمنين الذين وقعت منهم الهفوات المشهورة في يوم أحد، وقوله: {ولما يعلم} نفي مؤكد وهو معادل لقول القائل: قد كان كذا، فلما أكد هذا الخبر الموجب، بقد، أكد النفي المعادل له ب (لما)...
اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى الوجوه التي هي الموجبات والمؤثرات في مداولة الأيام ذكر في هذه الآية ما هو السبب الأصلي لذلك، فقال {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة} بدون تحمل المشاق... قال أبو مسلم: في {أم حسبتم} إنه نهي وقع بحرف الاستفهام الذي يأتي للتبكيت، وتلخيصه: لا تحسبوا أن تدخلوا الجنة ولم يقع منكم الجهاد، وهو كقوله: {الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون}... قال: وعادة العرب يأتون بهذا الجنس من الاستفهام توكيدا، فلما قال: {ولا تهنوا ولا تحزنوا} كأنه قال: أفتعلمون أن ذلك كما تؤمرون به، أم تحسبون أن تدخلوا الجنة من غير مجاهدة وصبر، وإنما استبعد هذا لأن الله تعالى أوجب الجهاد قبل هذه الواقعة، وأوجب الصبر على تحمل متاعبها، وبين وجوه المصالح فيها في الدين وفي الدنيا، فلما كان كذلك، فمن البعيد أن يصل الإنسان إلى السعادة والجنة مع إهمال هذه الطاعة... أما قوله: {ويعلم الصابرين}... المراد أن دخول الجنة وترك المصابرة على الجهاد مما لا يجتمعان...
واعلم أن حاصل الكلام: أن حب الدنيا لا يجتمع مع سعادة الآخرة، فبقدر ما يزداد أحدهما ينتقص الآخر، وذلك لأن سعادة الدنيا لا تحصل إلا باشتغال القلب بطلب الدنيا، والسعادة في الآخرة لا تحصل إلا بفراغ القلب من كل ما سوى الله وامتلائه من حب الله، وهذان الأمران مما لا يجتمعان، فلهذا السر وقع الاستبعاد الشديد في هذه الآية من اجتماعهما، وأيضا حب الله وحب الآخرة لا يتم بالدعوى، فليس كل من أقر بدين الله كان صادقا، ولكن الفصل فيه تسليط المكروهات والمحبوبات، فإن الحب هو الذي لا ينقص بالجفاء ولا يزداد بالوفاء، فإن بقي الحب عند تسليط أسباب البلاء ظهر أن ذلك الحب كان حقيقيا، فلهذه الحكمة قال: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة} بمجرد تصديقكم الرسول قبل أن يبتليكم الله بالجهاد وتشديد المحنة، والله أعلم.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
وفي إنكار الله تعالى على من ظنّ أنّ دخول الجنة يكون مع انتفاء الجهاد، والصبر عند لقاء العدوّ دليل على فرضية الجهاد...
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
{وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جاهدوا مِنكُمْ}... في ذلك رمز... إلى ترك الرياء، وأن المقصود علم الله تعالى لا الناس... وإيثار الصابرين على الذين صبروا للإيذان بأن المعتبر هو الاستمرار على الصبر...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
الكلام متصل بما قبله، والخطاب فيه لمن شهد وقعة "أحد "من المؤمنين فإنه تعالى أرشدهم في الآيات السابقة إلى أنه لا ينبغي لهم أن يضعفوا أو يحزنوا، وبين لهم حكمة ما أصابهم وأنه منطبق على سننه في مداولة الأيام بين الناس وفي تمحيص أهل الحق بالشدائد، وفي ذلك من الهداية و الإرشاد والتسلية ما يربي المؤمن على الصفات التي ينال بها الغلب والسيادة بالحق؛ ثم بين لهم بعد هذا أن سعادة الآخرة لا تنال أيضا إلا بالجهاد والصبر فهي كسعادة الدنيا بإقامة الحق والسيادة في الأرض سنة الله فيهما واحدة فقال: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين}: وهذه الآية كالآية (214) من سورة البقرة، والمعنى على الطريقة التي اختارها الأستاذ الإمام هناك من أن "أم "للاستفهام المجرد أو للمعادلة أنه تعالى يقول للمؤمنين بعد ذلك التنبيه والإرشاد لسننه وحكمه فيما حصل المتضمن للوم والعتاب في مثل "إن كنتم مؤمنين" وقوله "إن يمسسكم قرح" الخ: هل جريتم على تلك السنن؟ هل تدبرتم تلك الحكم؟ أم حسبتم كما يحسب أهل الغرور أن تدخلوا الجنة وأنتم إلى الآن لم تقوموا بالجهاد في سبيله حق القيام، ولم تتمكن صفة الصبر من نفوسكم تمام التمكن، والجنة إنما تنال بهما، ولا سبيل إلى دخولها بدونهما، لو قمتم بذلك لعلمه تعالى منكم وجازاكم عليه بالنصر والظفر في غزوتكم هذه وكان ذلك آية على أنه سيجازيكم بالجنة في الآخرة...
وقد جرينا في هذا على أن نفي العلم هنا بمعنى نفي المعلوم... [و] النكتة في إيثار ذكر العلم وإرادة المعلوم هي الإشعار بأن العلم إنما يكون علما صحيحا بظهور متعلقه بالفعل. وههنا نكتة أخرى خطرت في البال: وهي أن التعبير عن نفي ذلك بنفي علم الله به عبارة عن دعوى مقرونة بالدليل والبرهان، كأنه قال إن كلا من الجهاد والصبر اللذين هما وسيلة إلى دخول الجنة لما يقع منكم أي لم يقع إلى الآن من مجموعكم أو أكثركم بحيث صار يعد في شأن الأمة، فلا ينافي ذلك وقوعه من بعض الأفراد الذين ثبتوا مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يخالفوا ولم ينهزموا، إذ لو وقع لعلمه الله تعالى الذي لا يخفى عليه شيء ولكنه لما يعلمه فهو لم يتحقق قطعا. ويؤيد تفسير الآية على هذا الوجه قوله تعالى في آية البقرة: {أم حسب تم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء) [البقرة: 214] أي وإلى الآن لم تصلوا إلى حالهم ولم يصبكم مثل ما أصابهم وقد كانت حالهم تلك مثلا في الشدة. ووجه التأييد أن المنفي هناك هو العمل والحال التي يستحقون بها الجنة. ثم إن هذا يوافق أحد الوجوه التي تقدمت في تفسير قوله "وليعلم الله الذين آمنوا" من حيث إن المراد بالذوات وصفها فالمعنى هناك وليعلم الله إيمان الذين آمنوا "من حيث إن المراد بالذوات وصفها. فالمعنى هناك وليعلم الله إيمان الذين آمنوا –وهنا- ولما يعلم الله جهاد الذين جاهدوا وصبر الصابرين أي واقعين ثابتين.
ويصح أيضا أن يكون العلم هنا بمعنى التمييز كما تقدم هناك في وجه آخر ويكون المعنى: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة جميعا ولما يميز الله المجاهدين منكم والصابرين من غيرهم. والجهاد هنا أعم من الحرب للدفاع عن الدين وأهله وإعلاء كلمته. قال الأستاذ الإمام: ربما قائل يقول إن الآية تفيد أن من لم يجاهد ويصبر لا يدخل الجنة مع أن الجهاد فرض كفاية. ونقول: نعم إنه لا يدخل الجنة من لم يجاهد في سبيل الحق ولكن الجهاد في الكتاب والسنة يستعملان بمعناهما اللغوي وهو احتمال المشقة في مكافحة الشدائد، ومنه جهاد النفس الذي روي عن السلف التعبير عنه بالجهاد الأكبر، وذكر من أمثلة ذلك مجاهدة الإنسان لشهواته لا سيما في سن الشباب، وجهاده بماله وما يبتلى به المؤمن من مدافعة الباطل ونصرة الحق. وقال: إن لله في كل نعمة عليك حقا وللناس عليك حقا، وأداء هذه الحقوق يشق على النفس فلا بد من جهادها ليسهل عليها أداؤها، وربما يفضل بعض جهاد النفس جهاد الأعداء في الحرب؛ فإن الإنسان إذا أراد أن يبث فكرة صالحة في الناس أو يدعوهم إلى خيرهم من إقامة سنة أو مقاومة بدعة أو النهوض بمصلحة فإنه يجد أمامه من الناس من يقاومه ويؤذيه إيذاء قلما يصبر عليه أحد. وناهيك بالتصدي لإصلاح عقائد العامة وعاداتهم وما الخاصة في ضلالهم إلا أصعب مراسا من العامة...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
هذا استفهام إنكاري، أي: لا تظنوا، ولا يخطر ببالكم أن تدخلوا الجنة من دون مشقة واحتمال المكاره في سبيل الله وابتغاء مرضاته، فإن الجنة أعلى المطالب، وأفضل ما به يتنافس المتنافسون، وكلما عظم المطلوب عظمت وسيلته، والعمل الموصل إليه، فلا يوصل إلى الراحة إلا بترك الراحة، ولا يدرك النعيم إلا بترك النعيم، ولكن مكاره الدنيا التي تصيب العبد في سبيل الله عند توطين النفس لها، وتمرينها عليها ومعرفة ما تئول إليه، تنقلب عند أرباب البصائر منحا يسرون بها، ولا يبالون بها، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وفي سؤال استنكاري يصحح القرآن تصورات المسلمين عن سنة الله في الدعوات، وفي النصر والهزيمة، وفي العمل والجزاء. ويبين لهم أن طريق الجنة محفوف بالمكاره، وزاده الصبر على مشاق الطريق، وليس زاده التمني والأماني الطائرة التي لا تثبت على المعاناة والتمحيص: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة، ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين. ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه. فقد رأيتموه وأنتم تنظرون).. إن صيغة السؤال الاستنكارية يقصد بها إلى التنبيه بشدة إلى خطأ هذا التصور: تصور أنه يكفي الإنسان أن يقولها كلمة باللسان: أسلمت وأنا على استعداد للموت. فيبلغ بهذه الكلمة أن يؤدي تكاليف الإيمان، وأن ينتهي إلى الجنة والرضوان! إنما هي التجربة الواقعية، والامتحان العملي. وإنما هو الجهاد وملاقاة البلاء، ثم الصبر على تكاليف الجهاد، وعلى معاناة البلاء. وفي النص القرآني لفتة ذات مغزى: (ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم).. (ويعلم الصابرين).. فلا يكفي أن يجاهد المؤمنون. إنما هو الصبر على تكاليف هذه الدعوة أيضا. التكاليف المستمرة المتنوعة التي لا تقف عند الجهاد في الميدان. فربما كان الجهاد في الميدان أخف تكاليف هذه الدعوة التي يطلب لها الصبر، ويختبر بها الإيمان. إنما هنالك المعاناة اليومية التي لا تنتهي: معاناة الاستقامة على أفق الإيمان. والاستقرار على مقتضياته في الشعور والسلوك، والصبر في أثناء ذلك على الضعف الإنساني: في النفس وفي الغير، ممن يتعامل معهم المؤمن في حياته اليومية. والصبر على الفترات التي يستعلي فيها الباطل وينتفش ويبدو كالمنتصر! والصبر على طول الطريق وبعد الشقة وكثرة العقبات. والصبر على وسوسة الراحة وهفوة النفس لها في زحمة الجهد والكرب والنضال.. والصبر على أشياء كثيرة ليس الجهاد في الميدان إلا واحدا منها، في الطريق المحفوف بالمكاره. طريق الجنة التي لا تنال بالأماني وبكلمات اللسان!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{أم} هنا منقطعة، هي بمعنى (بل) الانتقالية، لأنّ هذا الكلام انتقال من غرض إلى آخر، وهي إذا استعملت منقطعة تؤذن بأنّ ما بعدها استفهام، لملازمتها للاستفهام، حتَّى قال الزمخشري والمحقّقون: إنَّها لا تفارق الدلالة على الاستفهام بعدها، وقال غيره: ذلك هو الغالب وقد تفارقه، واستشهدوا على مفارقتها للاستفهام بشواهد تقبل التَّأويل.
فقوله: {أم حسبتم} عطف على جملة {ولا تهنوا} [آل عمران: 139] وذلك أنَّهم لمّا مسّهم القرح فحزنوا واعتراهم الوهن حيث لم يشاهدوا مثل النَّصر الَّذي شاهدوه يوم بدر، بيّن الله أنّ لا وجه للوهن للعلل الَّتي تقدّمت، ثُمّ بيّن لهم هنا: أن دخول الجنَّة الَّذي هو مرغوبهم لا يحصل إذا لم يبذلوا نفوسهم في نصر الدّين فإذا حسبوا دخول الجنَّة يحصل دون ذلك، فقد أخطأوا.
والاستفهام المقدّر بعد (أم) مستعمل في التَّغليط والنَّهي، ولذلك جاء ب (أم) للدلالة على التغليط: أي لا تحسبوا أن تدخلوا الجنَّة دون أن تجاهدوا وتصبروا على عواقب الجهاد.
ومن المفسّرين من قدّر لِ (أمْ) هنا معادِلاً محذوفاً، وجعلها متَّصلة، فنقل الفخر عن أبي مسلم الأصفهاني أنَّه قال: عادة العرب يأتون بهذا الجنس من الاستفهام توكيداً لأنَّه لمّا قال: {ولا تهنوا ولا تحزنوا} [آل عمران: 139] كأنَّه قال: أفتعلمون أنّ ذلك كما تؤمرون أم حسبتم أن تدخلوا الجنَّة.
وأريد بحالة نفي علم الله بالَّذين جاهدوا والصَّابرين الكناية عن حالة نفي الجهاد والصّبر عنهم، لأنّ الله إذا علم شيئاً فذلك المعلوم محقّق الوقوع فكما كنّى بعلم الله عن التّحقق في قوله: {وليعلم الله الذين آمنوا} [آل عمران: 140] كنّى بنفي العلم عن نفي الوقوع...
وعقّب هذا النفي بقوله: {ويعلم الصابرين} معطوفاً بواو المعية فهو في معنى المفعول معه، لتنتظم القيود بعضها مع بعض، فيصير المعنى: أتحسبون أن تدخلوا الجنَّة في حال انتفاء علم الله بجهادكم مع انتفاء علمه بصبركم، أي أحسبتم أن تدخلوا الجنّة ولمّا يجتمع العلمان. والجهاد يستدعي الصّبر، لأنّ الصّبر هو سبب النَّجاح في الجهاد، وجالب الانتصار، وقد سئل عليّ عن الشَّجاعة، فقال: صبر ساعة.
وقد تسبّب في هزيمة المسلمين يومَ أُحُد ضعفُ صبر الرماة، وخفّتهم إلى الغنيمة، وفي الجهاد يُتطلّب صبر المغلوب على الغلب حتَّى لا يهن ولا يستسلم.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
قد تكلموا في الحكمة في أن الله تعالى عبر في نفي المعلوم الواقع بنفي العلم الثابت، فقال: {ولما يعلم الله} ولم يقل: ولما يقع معلوم الله، ونقول: إن حكمة ذلك هو تعليمنا بألا نحكم إلا بما يظهر ويقوم عليه الدليل المحسوس، ولا يحكم أحد بما يتوقع، فالله العليم بكل شيء يرشد إلى أنه يترك الحكم في الأمر حتى يقع ما حكم به محسوسا ملموسا...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
يفيدنا القرآن درساً من واقعة «أُحد» في تصحيح خطأ فكري وقع فيه المسلمون، فيقول: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين) أي هل تظنون أنكم تنالون أوج السعادة المعنوية بمجرد اختياركم لاسم المسلم، أو بمجرد أنكم حملتم العقيدة الإسلامية في الفكر دون أن تطبقوا ما يتبعها من التعاليم؟
لو كان الأمر كذلك لكان هيناً جداً، ولكن ليس كذلك حتماً، فإنه ما لم تطبق التعاليم التي تتبع تلك المعتقدات في واقع الحياة العملية، لم ينل أحد من تلك السعادة العظمى شيئاً.
وهنا بالذات يجب أن تتميز الصفوف، ويُعرف المجاهدون الصابرون عن غيرهم.