{ فسقى لهما ثم تولى إلى الظل } ظل شجرة ، فجلس في ظلها من شدة الحر وهو جائع ، { فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير } من طعام ، { فقير } قال أهل اللغة اللام بمعنى إلى ، يقال : هو فقير له ، وفقير إليه ، يقول : إني لما أنزلت إلي من خير ، أي : طعام ، فقير محتاج ، كان يطلب الطعام لجوعه . قال ابن عباس : سأل الله تعالى فلقة خبز يقيم بها صلبه . قال محمد الباقر : لقد قالها وإنه لمحتاج إلى شق تمرة . وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس : لقد قال موسى : { رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير } وهو أكرم خلقه عليه ، ولقد افتقر إلى شق تمرة . وقال مجاهد : ما سأله إلا الخبز . قالوا : فلما رجعتا إلى أبيهما سريعاً قبل الناس وأغنامهما حفل بطان ، قال لهما : ما أعجلكما ؟ قالتا : وجدنا رجلاً صالحاً رحمنا فسقى لنا أغنامنا ، فقال لإحداهما : اذهبي فادعيه لي .
فرق لهما موسى عليه السلام ورحمهما { فَسَقَى لَهُمَا } غير طالب منهما الأجرة ، ولا له قصد غير وجه اللّه تعالى ، فلما سقى لهما ، وكان ذلك وقت شدة حر ، وسط النهار ، بدليل قوله : { ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ } مستريحا لذلك الظلال بعد التعب .
{ فَقَالَ } في تلك الحالة ، مسترزقا ربه { رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } أي : إني مفتقر للخير الذي تسوقه إليَّ وتيسره لي . وهذا سؤال منه بحاله ، والسؤال بالحال أبلغ من السؤال بلسان المقال ، فلم يزل في هذه الحالة داعيا ربه متملقا . وأما المرأتان ، فذهبتا إلى أبيهما ، وأخبرتاه بما جرى .
وثارت نخوة موسى - عليه السلام - وفطرته السليمة . فتقدم لإقرار الأمر في نصابه . تقدم ليسقي للمرأتين أولا ، كما ينبغي أن يفعل الرجال ذوو الشهامة . وهو غريب في أرض لا يعرفها ، ولا سند له فيها ولا ظهير . وهو مكدود قادم من سفر طويل بلا زاد ولا استعداد . وهو مطارد ، من خلفه اعداء لا يرحمون . ولكن هذا كله لا يقعد به عن تلبية دواعي المروءة و النجدة والمعروف ، وإقرار الحق الطبيعي الذي تعرفه النفوس :
مما يشهد بنبل هذه النفس التي صنعت على عين الله . كما يشي بقوته التي ترهب حتى وهو في إعياء السفر الطويل . ولعلها قوة نفسه التي أوقعت في قلوب الرعاة رهبته أكثر من قوة جسمه . فإنما يتأثر الناس أكثر بقوة الأرواح والقلوب .
مما يشير إلى أن الأوان كان أوان قيظ وحر ، وأن السفرة كانت في ذلك القيظ والحر .
( فقال : رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير ) . .
إنه يأوي إلى الظل المادي البليل بجسمه ، ويأوى إلى الظل العريض الممدود . ظل الله الكريم المنان . بروحه وقلبه : ( رب . إني لما أنزلت إلي من خير فقير ) . رب إني في الهاجرة . رب إني فقير . رب إني وحيد . رب إني ضعيف . رب إني إلى فضلك ومنك وكرمك فقير محووج .
ونسمع من خلال التعبير رفرفة هذا القلب والتجاءه إلى الحمى الآمن ، والركن الركين ، والظل والظليل . نسمع المناجاة القريبة والهمس الموحي ، والانعطاف الرفيق ، والاتصال العميق : ( رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير ) . .
قال الله تعالى : { فَسَقَى لَهُمَا } قال أبو بكر بن أبي شيبة : حدثنا عبد الله ، أنبأنا إسرائيل ، عن أبى إسحاق ، عن عَمْرو{[22239]}
بن ميمون الأوْدي ، عن عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، أن موسى ، عليه السلام ، لما ورد ماء مدين ، وجد عليه أمة من الناس يسقون ، قال : فلما فرغوا أعادوا الصخرة على البئر ، ولا يطيق رفعها إلا عشرة رجال ، فإذا هو بامرأتين تذودان ، قال : ما خطبكما ؟ فحدثتاه ، فأتى الحجر فرفعه ، ثم لم يستق إلا ذنوبا واحدا حتى رويت الغنم . إسناد صحيح{[22240]} .
وقوله : { ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } قال ابن عباس : سار موسى من مصر إلى مدين ، ليس له طعام إلا البقل وورق الشجر ، وكان حافيًا فما وصل مَدْيَن حتى سقطت نعل قدمه . وجلس{[22241]} في الظل وهو صفوة الله من خلقه ، وإن بطنه لاصق بظهره من الجوع ، وإن خضرة البقل لترى من داخل جوفه وإنه لمحتاج إلى شق تمرة .
وقوله : { إِلَى الظِّلِّ } قال ابن عباس ، وابن مسعود ، والسدي : جلس تحت شجرة .
وقال ابن جرير : حدثني الحسين بن عمرو العَنْقَزِيّ{[22242]} ، حدثنا أبي ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ميمون ، عن عبد الله - هو ابن مسعود - قال : حَثثتُ{[22243]} على جمل ليلتين ، حتى صَبَّحت مدين ، فسألت عن الشجرة التي أوى إليها موسى ، فإذا شجرة خضراء ترف ، فأهوى إليها جملي - وكان جائعا - فأخذها جملي فعالجها ساعة ، ثم لفظها ، فدعوت الله لموسى ، عليه السلام ، ثم انصرفت{[22244]} .
وفي رواية عن ابن مسعود : أنه ذهب إلى الشجرة التي كلم الله منها لموسى ، كما سيأتي والله{[22245]} أعلم .
وقال السدي : كانت من شجر السَّمُر .
وقال عطاء بن السائب : لما قال موسى { رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } ، أسمعَ المرأة .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَسَقَىَ لَهُمَا ثُمّ تَوَلّىَ إِلَى الظّلّ فَقَالَ رَبّ إِنّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } .
يقول تعالى ذكره : فسقى موسى للمرأتين ماشيتهما ، ثم تولى إلى ظلّ شجرة ذُكِر أنها سَمُرة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ثُمّ تَوّلى موسى إلى ظلّ شجرة سَمُرة ، فقال : رَبّ إنّي لِمَا أنْزَلْتَ إليّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ .
حدثني العباس ، قال : حدثنا يزيد ، قال : أخبرنا الأصبغ ، قال : حدثنا القاسم ، قال : ثني سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس ، قال : انصرف موسى إلى شجرة ، فاستظلّ بظلّها ، فقالَ : رَبّ إنّي لِمَا أنْزَلّتَ إليّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ .
حدثني الحسين بن عمرو العنقزي ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ميمون ، عن عبد الله ، قال : حثثت على جَمَلَ لي ليلتين حتى صبحت مدين ، فسألت عن الشجرة التي أوى إليها موسى ، فإذا شجرة خضراء تَرِفّ ، فأهوى إليها جملي وكان جائعا ، فأخذها جملي ، فعالجها ساعة ، ثم لفظها ، فدعوت الله لموسى عليه السلام ، ثم انصرفت . وقوله : فقالَ رَبّ إنّي لِمَا أنْزَلْتَ إليّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ محتاج . وذُكر أن نبيّ الله موسى عليه السلام قال هذا القول ، وهو بجهد شديد ، وعَرّض ذلك للمرأتين تعريضا لهما ، لعلهما أن تُطعماه مما به من شدّة الجوع .
وقيل : إن الخير الذي قال نبيّ الله إنّي لِما أنْزَلْتَ إليّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ محتاج ، إنّمَا عنى به : شَبْعَةً من طعام . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد ، عن ابن عباس ، قال : لما هرب موسى من فرعون أصابه جوع شديد ، حتى كانت تُرَى أمعاؤه من ظاهر الصّفاق فلما سقى للمرأتين ، وأوى إلى الظلّ ، قال : رَبّ إنّي لِمَا أنْزَلْتَ إليّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، قال : حدثنا عنبسة ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، في قوله : وَلمّا وَرَد ماءَ مَدْيَنَ قال : ورد الماء وإنه ليتراءَى خُضرةُ البقل في بطنه من الهُزال ، فقال رَبّ إنّي لِمَا أنْزَلْتَ إليّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ قال : شَبْعة .
حدثني نصر بن عبد الرحمن الأَوْدِيّ ، قال : حدثنا حَكّام بن سلم ، عن عنبسة ، عن أبي حُصَين ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس ، في قوله : وَلمّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ قال : ورد الماء ، وإنّ خُضرة البقل لُترى في بطنه من الهُزال .
حدثني نصر بن عبد الرحمن ، قال : حدثنا حكام بن سَلْم ، عن عنبسة ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جُبَير إنّي لِمَا أنْزَلْتَ إلى مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ قال : شَبْعَة يومئذٍ .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان عن منصور ، عن إبراهيم ، في قوله ، فقال : رَبّ إنّي لِمَا أنْزَلْتَ إليّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ قال : قال هذا وما معه درهم ولا دينار .
قال : ثنا سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد إنّي لِمَا أنْزَلْتَ إليّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ قال : ما سأل إلا الطّعام .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سَلَمة بن الفضل ، عن سفيان الثوريّ ، عن ليث ، عن مجاهد ، في قوله فقال : رَبّ إنّي لِمَا أنْزَلْتَ إليّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ قال : ما سأل ربه إلا الطعام .
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ قالَ رَبّ إنيّ لِمَا أنْزَلْتَ إليّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ قال : قال ابن عباس : لقد قال موسى : ولو شاء إنسان أن ينظر إلى خُضرة أمعائه من شدة الجوع ، وما يسأل الله إلا أَكْلة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، قال : رَبّ إنّي لِمَا أنْزَلْتَ إليّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ قال : كان نبيّ الله بجهد .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، عن عطاء بن السائب في قوله : إنّي لِمَا أنْزَلْتَ إليّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ قال : بلغني أن موسى قالها وأسمع المرأة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثني أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ قال : طعام .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ قال : طعام .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : إنّي لِمَا أنْزَلْتَ إليّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ قال : الطعامَ يَسْتَطْعِم ، لم يكن معه طعام ، وإنما سأل الطعام .
{ فسقى لهما } مواشيهما رحمة عليهما . قيل كانت الرعاة يضعون على رأس البئر حجرا لا يقله إلا سبعة رجال أو أكثر فأقله وحده مع ما كان به من الوصب والجوع وجراحة القدم ، وقيل كانت بئرا أخرى عليها صخرة فرفعها واستقى منها . { ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إلي } لأي شيء أنزلت إلي . { من خير } قليل أو كثير وحمله الأكثرون على الطعام . { فقير } محتاج سائل ولذلك عدي باللام ، وقيل معناه أني لما أنزلت إلى من خير الدين صرت فقيرا في الدنيا ، لأنه كان في سعة عند فرعون والغرض منه إظهار التبجح والشكر على ذلك .
ومعنى { فسقى لهما } أنه سقى ما جئن ليسقينه لأجلهما ، فاللام للأجل ، أي لا يدفعه لذلك إلا هما ، أي رأفة بهما وغوثاً لهما . وذلك من قوة مروءته أن اقتحم ذلك العمل الشاق على ما هو عليه من الإعياء عند الوصول .
والتولي : الرجوع على طريقه ، وذلك يفيد أنه كان جالساً من قبل في ظل فرجع إليه . ويظهر أن { تولى } مرادف ( ولى ) ولكن زيادة المبنى من شأنها أن تقتضي زيادة المعنى فكيون { تولى } أشد من ( ولى ) ، وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى { ولى مدبراً } في سورة [ النمل : 10 ] .
وقد أعقب إيواءه إلى الظل بمناجاته ربه إذ قال { رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير } . لما استراح من مشقة المتح والسقي لماشية المرأتين والاقتحام بها في عدد الرعاء العديد ، ووجد برد الظل تذكر بهذه النعمة نعماً سابقة أسداها الله إليه من نجاته من القتل وإيتائه الحكمة والعلم ، وتخليصه من تبعة قتل القبطي ، وإيصاله إلى أرض معمورة بأمة عظيمة بعد أن قطع فيافي ومفازات ، تذكر جميع ذلك وهو في نعمة برد الظل والراحة من التعب فجاء بجملة جامعة للشكر والثناء والدعاء وهي { إني لما أنزلت إلي من خير فقير } . والفقير : المحتاج فقوله { إني لما أنزلت إلي من خير } شكر على نعم سلفت .
وقوله { إني لما أنزلت إلي من خير } ثناء على الله بأنه معطي الخير .
والخير : ما فيه نفع وملاءمة لمن يتعلق هو به فمنه خير الدنيا ومنه خير الآخرة الذي قد يرى في صورة مشقة فإن العبرة بالعواقب ، قال تعالى { ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون } [ التوبة : 85 ] .
وقد أراد النوعين كما يرمز إلى ذلك التعبير عن إيتائه الخير بفعل { أنزلت } المشعر برفعة المعطَى . فأول ذلك إيتاء الحكمة والعلم .
ومن الخير إنجاؤه من القتل ، وتربيته الكاملة في بذخة الملك وعزته ، وحفظه من أن تتسرب إليه عقائد العائلة التي ربي فيها فكان منتفعاً بمنافعها مجنباً رذائلها وأضرارها . ومن الخير أن جعل نصر قومه على يده ، وأن أنجاه من القتل الثاني ظلماً ، وأن هداه إلى منجى من الأرض ، ويسر له التعرف ببيت نبوءة ، وأن آواه إلى ظل .
و ( ما ) من قوله { لما أنزلت إلي } موصولة كما يقتضيه فعل المضي في قوله { أنزلت } لأن الشيء الذي أنزل فيما مضى صار معروفاً غير نكرة ، فقوله ( ما أنزلت إلي ) بمنزلة المعرف بلام الجنس لتلائم قوله { فقير } أي فقير لذلك النوع من الخير ، أي لأمثاله .
وأحسن خير للغريب وجود مأوى له يطعم فيه ويبيت وزوجة يأنس إليها ويسكن .
فكان استجابة الله له بأن ألهم شعيباً أن يرسل وراءه لينزله عنده ويزوجه بنته ، كما أشعرت بذلك فاء التعقيب في قوله { فجاءته إحداهما } [ القصص : 25 ] .