الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{فَسَقَىٰ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّىٰٓ إِلَى ٱلظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلۡتَ إِلَيَّ مِنۡ خَيۡرٖ فَقِيرٞ} (24)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: فسقى موسى للمرأتين ماشيتهما، ثم تولى إلى ظلّ شجرة... وقوله:"فقالَ رَبّ إنّي لِمَا أنْزَلْتَ إليّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ": محتاج. وذُكر أن نبيّ الله موسى عليه السلام قال هذا القول، وهو بجهد شديد، وعَرّض ذلك للمرأتين تعريضا لهما، لعلهما أن تُطعماه مما به من شدّة الجوع.

وقيل: إن الخير الذي قال نبيّ الله "إنّي لِما أنْزَلْتَ إليّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ "محتاج، إنّمَا عنى به: شَبْعَةً من طعام.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

ذكر موسى حاله التي هو فيها من الجوع الذي أصابه. وكذلك ما قال في آية أخرى: {لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا} [الكهف: 62] وذلك يرد قول من يقول: إن مثل هذا يخرج مخرج الشكاية إلى الله. ولو كانت شكاية لكان موسى لا يقول ذلك، ولا يذكره.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{إِنّي} لأي شيء {أَنزَلْتَ إِلَىَّ} قليل أو كثير، غث أو سمين ل {فَقِيرٌ} وإنما عُدي فقير باللام؛ لأنه ضمن معنى سائل وطالب.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

{ثم تولى إلى الظل} وفيه دلالة على أنه سقى لهما في شمس وحر، وفيه دلالة أيضا على كمال قوة موسى عليه السلام...

وأما قوله: {قال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير}...

واعلم أن هذا الكلام يدل على الحاجة، إما إلى الطعام أو إلى غيره، إلا أن المفسرين حملوه على الطعام... وروي أن موسى عليه السلام لما قال ذلك رفع صوته ليسمع المرأتين ذلك، فإن قيل إنه عليه السلام لما بقي معه من القوة ما قدر بها على حمل ذلك الدلو العظيم، فكيف يليق بهمته العالية أن يطلب الطعام، أليس أنه عليه السلام قال: «لا تحل الصدقة لغني ولا لذي قوة سوي»؟ قلنا أما رفع الصوت بذلك لإسماع المرأتين وطلب الطعام فذاك لا يليق بموسى عليه السلام البتة فلا تقبل تلك الرواية ولكن لعله عليه السلام قال ذلك في نفسه مع ربه تعالى، وفي الآية وجه آخر كأنه قال رب إني بسبب ما أنزلت إلي من خير الدين صرت فقيرا في الدنيا لأنه كان عند فرعون في ملك وثروة، فقال ذلك رضى بهذا البدل وفرحا به وشكرا له، وهذا التأويل أليق بحال موسى عليه السلام.

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

{فَسَقَى لَهُمَا} قال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا عبد الله، أنبأنا إسرائيل، عن أبى إسحاق، عن عَمْرو بن ميمون الأوْدي، عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أن موسى، عليه السلام، لما ورد ماء مدين، وجد عليه أمة من الناس يسقون، قال: فلما فرغوا أعادوا الصخرة على البئر، ولا يطيق رفعها إلا عشرة رجال، فإذا هو بامرأتين تذودان، قال: ما خطبكما؟ فحدثتاه، فأتى الحجر فرفعه، ثم لم يستق إلا ذنوبا واحدا حتى رويت الغنم. إسناد صحيح.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{فسقى} أي موسى عليه الصلاة والسلام {لهما} لما علم ضرورتهما، انتهازاً لفرصة الأجر وكرم الخلق في مساعدة الضعيف، مع ما به من النصب والجوع {ثم تولى} أي انصرف موسى عليه الصلاة والسلام جاعلاً ظهره يلي ما كان يليه وجهه {إلى الظل} أي ليقيل تحته ويستريح، مقبلاً على الخالق بعد ما قضى من نصيحة الخلائق، وعرفه لوقوع العلم بأن بقعة لا تكاد تخلو من شيء له ظل ولا سيما أماكن المياه {فقال} لأنه ليس في الشكوى إلى المولى العلي الغني المطلق نقص {رب}.

ولما كان حاله في عظيم صبره حاله من لا يطلب، أكد سؤاله إعلاماً بشديد تشوقه لما سأل فيه وزيادة في التضرع والرقة، فقال: {إني} ولأكد الافتقار بالإلصاق باللام دون "إلى "فقال: {لما} أي لأي شيء. ولما كان الرزق الآتي إلى الإنسان مسبباً عن القضاء الآتي عن العلي الكبير، عبر بالإنزال وعبر بالماضي تعميماً لحالة الافتقار، وتحققاً لإنجاز الوعد بالرزق فقال: {أنزلت} ولعله حذف العائد اختصاراً لما به من الإعياء {إليّ من خير} أي ولو قل {فقير} أي مضرور... فانظر إلى هذين النبيين عليهما الصلاة والسلام في حالهما في ذات يدهما، وهما خلاصة ذلك الزمان، ليكون لك في ذلك أسوة، وتجعله إماماً وقدوة، وتقول: يا بأبي وأمي! ما لقي الأنبياء والصالحون من الضيق والأهوال في سجن الدنيا، صوناً لهم منها وإكراماً من ربهم عنها، رفعة لدرجاتهم عنده، واستهانة لها، وإن ظنه الجاهل المغرور على غير ذلك، وفي القصة ترغيب في الخير، وحث على المعاونة على البر، وبعث على بذل المعروف مع الجهد.

محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :

والخير أعم من المال أو القوة أو الطعام. وعلى الأخير حمله الأكثرون بمعونة المقام.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

وثارت نخوة موسى -عليه السلام- وفطرته السليمة. فتقدم لإقرار الأمر في نصابه. تقدم ليسقي للمرأتين أولا، كما ينبغي أن يفعل الرجال ذوو الشهامة. وهو غريب في أرض لا يعرفها، ولا سند له فيها ولا ظهير. وهو مكدود قادم من سفر طويل بلا زاد ولا استعداد. وهو مطارد، من خلفه اعداء لا يرحمون. ولكن هذا كله لا يقعد به عن تلبية دواعي المروءة و النجدة والمعروف، وإقرار الحق الطبيعي الذي تعرفه النفوس:

(فسقى لهما)..

مما يشهد بنبل هذه النفس التي صنعت على عين الله. كما يشي بقوته التي ترهب حتى وهو في إعياء السفر الطويل. ولعلها قوة نفسه التي أوقعت في قلوب الرعاة رهبته أكثر من قوة جسمه. فإنما يتأثر الناس أكثر بقوة الأرواح والقلوب.

(ثم تولى إلى الظل)..

مما يشير إلى أن الأوان كان أوان قيظ وحر، وأن السفرة كانت في ذلك القيظ والحر.

(فقال: رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير)..

إنه يأوي إلى الظل المادي البليل بجسمه، ويأوي إلى الظل العريض الممدود. ظل الله الكريم المنان. بروحه وقلبه: (رب. إني لما أنزلت إلي من خير فقير). رب إني في الهاجرة. رب إني فقير. رب إني وحيد. رب إني ضعيف. رب إني إلى فضلك ومنك وكرمك فقير محووج.

ونسمع من خلال التعبير رفرفة هذا القلب والتجاءه إلى الحمى الآمن، والركن الركين، والظل والظليل. نسمع المناجاة القريبة والهمس الموحي، والانعطاف الرفيق، والاتصال العميق: (رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير)..

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

ومعنى {فسقى لهما} أنه سقى ما جئن ليسقينه لأجلهما، فاللام للأجل، أي لا يدفعه لذلك إلا هما، أي رأفة بهما وغوثاً لهما. وذلك من قوة مروءته أن اقتحم ذلك العمل الشاق على ما هو عليه من الإعياء عند الوصول.

والتولي: الرجوع على طريقه، وذلك يفيد أنه كان جالساً من قبل في ظل فرجع إليه. ويظهر أن {تولى} مرادف (ولى) ولكن زيادة المبنى من شأنها أن تقتضي زيادة المعنى فكيون {تولى} أشد من (ولى)، وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى {ولى مدبراً} في سورة [النمل: 10].

وقد أعقب إيواءه إلى الظل بمناجاته ربه إذ قال {رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير}. لما استراح من مشقة المتح والسقي لماشية المرأتين والاقتحام بها في عدد الرعاء العديد، ووجد برد الظل تذكر بهذه النعمة نعماً سابقة أسداها الله إليه من نجاته من القتل وإيتائه الحكمة والعلم، وتخليصه من تبعة قتل القبطي، وإيصاله إلى أرض معمورة بأمة عظيمة بعد أن قطع فيافي ومفازات، تذكر جميع ذلك وهو في نعمة برد الظل والراحة من التعب فجاء بجملة جامعة للشكر والثناء والدعاء وهي {إني لما أنزلت إلي من خير فقير}. والفقير: المحتاج فقوله {إني لما أنزلت إلي من خير} شكر على نعم سلفت.

وقوله {إني لما أنزلت إلي من خير} ثناء على الله بأنه معطي الخير.

والخير: ما فيه نفع وملاءمة لمن يتعلق هو به فمنه خير الدنيا ومنه خير الآخرة الذي قد يرى في صورة مشقة فإن العبرة بالعواقب، قال تعالى {ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون} [التوبة: 85].

وقد أراد النوعين كما يرمز إلى ذلك التعبير عن إيتائه الخير بفعل {أنزلت} المشعر برفعة المعطَى. فأول ذلك إيتاء الحكمة والعلم.

ومن الخير إنجاؤه من القتل، وتربيته الكاملة في بذخة الملك وعزته، وحفظه من أن تتسرب إليه عقائد العائلة التي ربي فيها فكان منتفعاً بمنافعها مجنباً رذائلها وأضرارها. ومن الخير أن جعل نصر قومه على يده، وأن أنجاه من القتل الثاني ظلماً، وأن هداه إلى منجى من الأرض، ويسر له التعرف ببيت نبوءة، وأن آواه إلى ظل.

و (ما) من قوله {لما أنزلت إلي} موصولة كما يقتضيه فعل المضي في قوله {أنزلت} لأن الشيء الذي أنزل فيما مضى صار معروفاً غير نكرة، فقوله (ما أنزلت إلي) بمنزلة المعرف بلام الجنس لتلائم قوله {فقير} أي فقير لذلك النوع من الخير، أي لأمثاله.

وأحسن خير للغريب وجود مأوى له يطعم فيه ويبيت وزوجة يأنس إليها ويسكن.

فكان استجابة الله له بأن ألهم شعيباً أن يرسل وراءه لينزله عنده ويزوجه بنته، كما أشعرت بذلك فاء التعقيب في قوله {فجاءته إحداهما} [القصص: 25].

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

(ثمّ تولّى إلى الظل وقال ربّ إنّي لما أنزلت إلى من خير فقير).

أجل.. إنّه متعب وجائع، ولا أحد يعرفه في هذه المدينة، فهو غريب، وفي الوقت ذاته كان مؤدباً وإذا دعا الله فلا يقول: ربّ إنّي أريد كذا وكذا، بل يقول: (ربّ إنّي لما أنزلت إلي من خير فقير) أي إنّه يكشف عن حاجته فحسب، ويترك الباقي إلى لطف الله سبحانه.

لكن هلمّ إلى العمل الصالح، فكم له من أثر محمود! وكم له من بركات عجيبة! خطوة نحو الله ملءُ دلو من أجل إنصاف المظلومين، فتح لموسى فصلا جديداً، وهيأ له من عالم عجيب من البركات المادية والمعنوية.. ووجد ضالته التي ينبغي أن يبحث عنها سنين طوالا.