قوله تعالى : { قال } إبراهيم { سلام عليك } ، أي : سلمت مني لا أصيبك بمكروه ، وذلك أنه لم يؤمر بقتاله على كفره . وقيل : هذا سلام هجران ومفارقة . وقيل : سلام بر ولطف ، وهو جواب الحليم للسفيه . قال الله تعالى : { وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً } [ الفرقان : 63 ] . قوله تعالى : سأستغفر لك ربي ] ، قيل : إنه لما أعياه أمره ووعده أن يراجع الله فيه ، فيسأله أن يرزقه التوحيد ويغفر له . معناه : سأسأل الله تعالى لك توبة تنال بها المغفرة . { إنه كان بي حفياً } ، براً لطيفاً . قال الكلبي : عالماً يستجيب لي إذا دعوته . قال مجاهد : عودني الإجابة لدعائي .
فأجابه الخليل جواب عباد الرحمن عند خطاب الجاهلين ، ولم يشتمه ، بل صبر ، ولم يقابل أباه بما يكره ، وقال : { سَلَامٌ عَلَيْكَ ْ } أي : ستسلم من خطابي إياك بالشتم والسب وبما تكره ، { سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا ْ } أي : لا أزال أدعو الله لك بالهداية والمغفرة ، بأن يهديك للإسلام ، الذي تحصل به المغفرة ، ف { إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا ْ } أي : رحيما رءوفا بحالي ، معتنيا بي ، فلم يزل يستغفر الله له رجاء أن يهديه الله ، فلما تبين له أنه عدو لله ، وأنه لا يفيد فيه شيئا ، ترك الاستغفار له ، وتبرأ منه .
وقد أمرنا الله باتباع ملة إبراهيم ، فمن اتباع ملته ، سلوك طريقه في الدعوة إلى الله ، بطريق العلم والحكمة واللين والسهولة ، والانتقال من مرتبة إلى مرتبة{[506]} والصبر على ذلك ، وعدم السآمة منه ، والصبر على ما ينال الداعي من أذى الخلق بالقول والفعل ، ومقابلة ذلك بالصفح والعفو ، بل بالإحسان القولي والفعلي .
ولم يغضب إبراهيم الحليم . ولم يفقد بره وعطفه وأدبه مع أبيه :
قال : سلام عليك . سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا . وأعتز لكم وما تدعون من دون الله ، وأدعو ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا .
سلام عليك . . فلا جدال ولا أذى ولا رد للتهديد والوعيد . سأدعو الله أن يغفر لك فلا يعاقبك بالاستمرار في الضلال وتولي الشيطان ، بل يرحمك فيرزقك الهدى . وقد عودني ربي أن يكرمني فيجيب دعائي .
فعندها قال إبراهيم لأبيه : { سَلامٌ عَلَيْكَ } كما قال تعالى في صفة المؤمنين : { وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا } [ الفرقان : 63 ] وقال تعالى : { وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ } [ القصص : 55 ] .
ومعنى قول إبراهيم لأبيه : { سَلامٌ عَلَيْكَ } يعني : أما أنا فلا ينالك مني مكروه ولا أذى ، وذلك لحرمة الأبوة ، { سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي } أي : ولكن سأسال الله تعالى فيك أن يهديك ويغفر ذنبك ، { إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا } قال ابن عباس وغيره : لطيفًا ، أي : في أن هداني لعبادته والإخلاص له . وقال مجاهد وقتادة ، وغيرهما : { إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا } قال{[18864]} : [ و ]{[18865]} عَوّدَه الإجابة .
وقال السدي : " الحفي " : الذي يَهْتَم بأمره .
وقد استغفر إبراهيم لأبيه مدة طويلة ، وبعد أن هاجر إلى الشام وبنى المسجد الحرام ، وبعد أن ولد له إسماعيل وإسحاق ، عليهما السلام ، في قوله : { رَبَّنَا{[18866]} اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ } [ إبراهيم : 41 ] .
وقد استغفر المسلمون لقراباتهم وأهليهم من المشركين في ابتداء الإسلام ، وذلك اقتداء بإبراهيم الخليل في ذلك حتى أنزل الله تعالى : { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ لأسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ } الآية [ الممتحنة : 4 ] ، يعني إلا في هذا القول ، فلا{[18867]} تتأسوا به . ثم بين تعالى أن إبراهيم أقلع عن ذلك ، ورجع عنه ، فقال{[18868]} تعالى : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } [ التوبة : 113 ، 114 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبّيَ إِنّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ وَأَدْعُو رَبّي عَسَىَ أَلاّ أَكُونَ بِدُعَآءِ رَبّي شَقِيّاً } .
يقول تعالى ذكره : قال إبراهيم لأبيه حين توعّده على نصيحته إياه ودعائه إلى الله بالقول السيىء والعقوبة : سلام عليك يا أبت ، يقول : أمنة مني لك أن أعاودك فيما كرهت ، ولدعائك إليّ ما توعدتني عليه بالعقوبة ، ولكني سأسْتَغْفِرُ لَكَ رَبّي يقول : ولكني سأسأل ربي أن يستر عليك ذنوبك بعفوه إياك عن عقوبتك عليها إنّهُ كانَ بِي حَفِيّا يقول : إن ربي عهدته بي لطيفا يجيب دعائي إذا دعوته يقال منه : تحفى بي فلان . وقد بيّنت ذلك بشواهده فيما مضى ، بما أغنى عن إعادته هاهنا . وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : إنّهُ كانَ بِي حَفيّا يقول : لطيفا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : إنّهُ كانَ بِي حَفِيّا قال : إنه كان بي لطيفا ، فإن الحفيّ : اللطيف .
قرأ أبو البرهسم «سلاماً عليك » بالنصب ، واختلف أهل العلم في معنى تسلميه عليه ، فقال بعضهم هي تحية مفارق وجوزوا تحية الكافر وأن يبدأ بها . وقال الجمهور : ذلك التسليم بمعنى المسالمة لا بمعنى التحية ، قال الطبري معناه أمنة مني لك ، وهذا قول الجمهور وهم لا يرون ابتداء الكافر بالسلام ، وقال النقاش : حليم خاطب سفيهاً كما قال ، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً{[7974]} ، ورفع السلام بالابتداء ، وجاز ذلك مع نكرته لأنها نكرة مخصصة فقربت من المعرفة ولأنه في موضع المنصوب الذي هو سلمت سلاماً وهذا كما يجوز ذلك في ما هو في معنى الفاعل كقولهم : «شر ما أهرّ ذا ناب »{[7975]} ، هذا مقال سيبويه ، وقوله تعالى { سأستغفر } معناه سأدعو الله تعالى في أن يهديك فيغفر لك بإيمانك وهذا أظهر من أن يتأول على إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم أنه لم يعلم أن الله لا يغفر لكافر ، وقد يجوز أن يكون إبراهيم عليه السلام أول نبي أوحي إليه أن لا يغفر لكافر ، لأن هذه العقيدة إنما طريقها السمع ، فكانت هذه المقالة منه لأبيه قبل أن يوحى إليه ذلك ، وإبراهيم عليه السلام إنما تبين له في أبيه أنه عدو لله بأحد وجهبن إما بموته على الكفر كما روي وإما بأن أوحي إليه تعسف الحتم عليه ، وقال مكي عن السدي : أخره بالاستغفار الى السحر ، وهذا تعسف ، وإنما ذكر ذلك في أمر يعقوب وبنيه وأما هذا فوعد باستغفار كثير مؤتنف فالسين متمكنة . و «الحفي » المبتهل المتلطف وهذا شكر من إبراهيم لنعم الله تعالى عليه .
سلام عليك سلام توديع ومتاركة . وبادرهُ به قبل الكلام الذي أعقبه به إشارة إلى أنه لا يسوءه ذلك الهجر في ذات الله تعالى ومرضاته .
ومن حلم إبراهيم أن كانت متكارته أباه مثوبة بالإحسان في معاملته في آخر لحظة .
والسلام : السلامة . و ( على ) للاستعلاء المجازي وهو التمكن . وهذه كلمة تحية وإكرام ، وتقدمت آنفاً عند قوله { وسلام عليه يوم ولد } [ مريم : 15 ] .
وأظهر حرصه على هداه فقال { سأستغفر لك ربي ، أي أطلب منه لك المغفرة من هذا الكفر ، بأن يهديه الله إلى التوحيد فيغفر له الشرك الماضي ، إذ لم يكن إبراهيم تلقى نهياً من الله عن الاستغفار للمشرك . وهذا ظاهر ما في قوله تعالى : { وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه } [ التوبة : 114 ] . واستغفاره له هو المحكي في قوله تعالى : { واغفر لأبي إنه كان من الضالين } [ الشعراء : 86 ] .
وجملة { سأستغفر لك ربي } مستأنفة ، وعلامة الاستقبال والفعل المضارع مؤذنان بأنه يكرر الاستغفار في المستقبل .
وجملة إنه كان بي حفيا تعليل لما يتضمنه الوعد بالاستغفار من رجاء المغفرة استجابة لدعوة إبراهيم بأن يوفق الله أبا إبراهيم للتوحيد ونبذِ الإشراك .
والحَفيّ : الشديد البِر والإلطاف . وتقدم في سورة الأعراف ( 187 ) عند قوله : { يسألونك كأنك حفي عنها }
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: قال إبراهيم لأبيه حين توعّده على نصيحته إياه ودعائه إلى الله بالقول السيئ والعقوبة: سلام عليك يا أبت، يقول: أمنة مني لك أن أعاودك فيما كرهت، ولدعائك إليّ ما توعدتني عليه بالعقوبة، ولكني "سأسْتَغْفِرُ لَكَ رَبّي "يقول: ولكني سأسأل ربي أن يستر عليك ذنوبك بعفوه إياك عن عقوبتك عليها "إنّهُ كانَ بِي حَفِيّا" يقول: إن ربي عهدته بي لطيفا يجيب دعائي إذا دعوته...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يحتمل أنه ليس على أن سلم عليه، ولكن كلمه بكلام السداد كقوله: {وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما} [الفرقان: 63] هو أن يقولوا لهم كلام السداد، ليس على أن يسلموا عليهم. ويحتمل {سلام عليك} على حقيقة السلام المعروف، لكنه يخرج على الإضمار، أي سلام عليك إذا أسلمت.
{سأستغفر لك ربي} إذا أسلمت على نحو ما قلنا. ويحتمل قوله: {سأستغفر لك ربي} ليُوفِّقَكَ على السبب الذي تستوجب به الاستغفار، وتكون أهلا للاستغفار. {إنه كان بي حفيا} قال بعضهم: أي برا لطيفا، وقال بعضهم: {حفيا} أي عالما، وقال بعضهم: إنه كان عوَّدَني الإجابة إذا دعوته...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
فقال له إبراهيم "سلام عليك "أي سلامة عليك، أي إكرام وبر بحق الأبوة وشكر التربية. وقال ذلك على وضع التواضع له ولين الجانب لموضعه "سأستغفر لك ربي" قال قوم: إنما وعده بالاستغفار على مقتضى العقل، ولم يكن قد استقر بعد قبح الاستغفار للمشركين. وقال قوم: معناه سأستغفر لك إذا تركت عبادة الأوثان وأخلصت العبادة لله تعالى. ومعنى قوله "إنه كان بي حفيا" إن الله كان عالما بي لطيفا، والحفي: اللطيف بعموم النعمة، يقال: تحفني فلان إذا أكرمني وألطفني، وحفي فلان بفلان حفاوة إذا أبره وألطفه...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
وهذا قبل أن ييأسَ من إيمانه، إذا كانت لديه بعدُ بقيةٌ من الرجاء في شأنه، فلمَّا تحقق أنه مختومٌ له بالشقاوة.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: كيف جاز له أن يستغفر للكافر وأن يعده ذلك؟ قلت: قالوا أراد اشتراط التوبة عن الكفر، كما ترد الأوامر والنواهي الشرعية على الكفار والمراد اشتراط الإيمان، وكما يؤمر المحدث والفقير بالصلاة والزكاة ويراد اشتراط الوضوء والنصاب. وقالوا: إنما استغفر له بقوله: {واغفر لأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضالين} [الشعراء: 86] لأنه وعده أن يؤمن. واستشهدوا عليه بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ استغفار إبراهيم لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} [التوبة: 114] ولقائل أن يقول: إنّ الذي منع من الاستغفار للكافر إنما هو السمع، فأمّا القضية العقلية فلا تأباه، فيجوز أن يكون الوعد بالاستغفار والوفاء به قبل ورود السمع، بناء على قضية العقل، والذي يدل على صحته قوله تعالى: {إِلاَّ قَوْلَ إبراهيم لأَبيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [الممتحنة: 4] فلو كان شارطاً للإيمان لم يكن مستنكراً ومستثنى عما وجبت فيه الأسوة. وأمّا (عن موعدة وعدها إياه) فالواعد هو إبراهيم لا آزر، أي: ما قال: (واغفر لأبي) إلا عن قوله: (لأستغفرنّ لك) وتشهد له قراءة حماد الراوية: وعدها أباه. والله أعلم..
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقوله تعالى {سأستغفر} معناه سأدعو الله تعالى في أن يهديك فيغفر لك بإيمانك وهذا أظهر من أن يتأول على إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم أنه لم يعلم أن الله لا يغفر لكافر، وقد يجوز أن يكون إبراهيم عليه السلام أول نبي أوحي إليه أن لا يغفر لكافر، لأن هذه العقيدة إنما طريقها السمع، فكانت هذه المقالة منه لأبيه قبل أن يوحى إليه ذلك، وإبراهيم عليه السلام إنما تبين له في أبيه أنه عدو لله بأحد وجهبن إما بموته على الكفر كما روي، وإما بأن أوحي إليه تعسف الحتم عليه.
{سلام عليك} توادع ومتاركة كقوله تعالى: {لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين}، {وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما} وهذا دليل على جواز متاركة المنصوح إذا ظهر منه اللجاج، وعلى أنه تحسن مقابلة الإساءة بالإحسان، ويجوز أن يكون قد دعا له بالسلامة استمالة له، ألا ترى أنه وعده بالاستغفار، ثم إنه لما ودع أباه بقوله: {سلام عليك} ضم إلى ذلك ما دل به على أنه وإن بعد عنه فإشفاقه باق عليه كما كان وهو قوله: {سأستغفر لك ربي}...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{قال} أي إبراهيم عليه السلام مقابلاً لما كان من طيش الجهل بما يحق لمثله من رزانة العلم: {سلام عليك} أي أنت سالم مني ما لم أومر فيك بشيء؛ ثم استأنف قوله: {سأستغفر} بوعد لا خلف فيه {لك ربي} أي المحسن إليّ بأن أطلب لك منه غفران ذنوبك بأن يوفقك للإسلام الجابّ لما قبله، لأن هذا كان قبل أن يعلم أنه عدو لله محتوم بشقاوته بدليل عدم جزمه بعذابه في قوله: {إني أخاف أن يمسك}. ثم علل إقدامه على ذلك إشارة إلى أنه مقام خطر بما له من الإذلال لما له من مزيد القرب فقال: {إنه كان بي} أي في جميع أحوالي {حفيّاً} أي مبالغاً في إكرامي مرة بعد مرة وكرة إثر كرة.
تفسير الجلالين للمحلي والسيوطي 911 هـ :
[قال سلام عليك] مني أي لا أصيبك بمكروه [سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا] من حفي أي بارا فيجيب دعائي وقد وفى بوعده المذكور في الشعراء واغفر لأبي وهذا قبل أن يتبين له أنه عدو لله كما ذكره في براءة...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
فأجابه الخليل جواب عباد الرحمن عند خطاب الجاهلين، ولم يشتمه، بل صبر، ولم يقابل أباه بما يكره، وقال: {سَلَامٌ عَلَيْكَ ْ} أي: ستسلم من خطابي إياك بالشتم والسب وبما تكره، {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا ْ} أي: لا أزال أدعو الله لك بالهداية والمغفرة، بأن يهديك للإسلام، الذي تحصل به المغفرة، ف {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا ْ} أي: رحيما رءوفا بحالي، معتنيا بي، فلم يزل يستغفر الله له رجاء أن يهديه الله، فلما تبين له أنه عدو لله، وأنه لا يفيد فيه شيئا، ترك الاستغفار له، وتبرأ منه. وقد أمرنا الله باتباع ملة إبراهيم، فمن اتباع ملته، سلوك طريقه في الدعوة إلى الله، بطريق العلم والحكمة واللين والسهولة، والانتقال من مرتبة إلى مرتبة والصبر على ذلك، وعدم السآمة منه، والصبر على ما ينال الداعي من أذى الخلق بالقول والفعل، ومقابلة ذلك بالصفح والعفو، بل بالإحسان القولي والفعلي...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ولم يغضب إبراهيم الحليم. ولم يفقد بره وعطفه وأدبه مع أبيه: سلام عليك.. فلا جدال ولا أذى ولا رد للتهديد والوعيد. سأدعو الله أن يغفر لك فلا يعاقبك بالاستمرار في الضلال وتولي الشيطان، بل يرحمك فيرزقك الهدى. وقد عودني ربي أن يكرمني فيجيب دعائي.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
سلام عليك سلام توديع ومتاركة. وبادرهُ به قبل الكلام الذي أعقبه به إشارة إلى أنه لا يسوءه ذلك الهجر في ذات الله تعالى ومرضاته. ومن حلم إبراهيم أن كانت متكارته أباه مثوبة بالإحسان في معاملته في آخر لحظة. والسلام: السلامة. و (على) للاستعلاء المجازي وهو التمكن. وهذه كلمة تحية وإكرام، وتقدمت آنفاً عند قوله {وسلام عليه يوم ولد} [مريم: 15]. وأظهر حرصه على هداه فقال {سأستغفر لك ربي، أي أطلب منه لك المغفرة من هذا الكفر، بأن يهديه الله إلى التوحيد فيغفر له الشرك الماضي، إذ لم يكن إبراهيم تلقى نهياً من الله عن الاستغفار للمشرك. وهذا ظاهر ما في قوله تعالى: {وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه} [التوبة: 114]. واستغفاره له هو المحكي في قوله تعالى: {واغفر لأبي إنه كان من الضالين} [الشعراء: 86]. وجملة {سأستغفر لك ربي} مستأنفة، وعلامة الاستقبال والفعل المضارع مؤذنان بأنه يكرر الاستغفار في المستقبل.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وإنه إذ يعلن هذا النفور الجافي يعلن الابن البار الذي هو مثل سام كريم للأبناء يقول كما قال الله تعالى عنه: {سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا 47}. هو يقابل الإساءة الحسنة، ويعذر أباه في إساءته، لأنه في ضلال بعيد وإفك أثيم قد استغرق نفسه وأعمى بصيرته، وأصابه بغشاوة على قلبه {سلام عليك}، معناه أمن يفيض عليك وهو تحية له وهو يفارقه ويريد له السلامة في غيبته، وأن يكون في أمن، فهو يفارقه على مودة، وإن كان يقول مقالة القطيعة، وقد قال بعض المفسرين أن ذلك من قبيل قوله تعالى: {...وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما 63} (الفرقان). وربما نرى نحن أن سياق الآية لا يدل على الابتعاد عنه، وليس كقوله تعالى: {وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين 55} (القصص)، لا نرى ذلك لأن لا ينسجم مع وعده باستغفار الله تعالى له، كما قال: {سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا}. وقوله تعالى: {سأستغفر} السين لتأكيد الاستغفار في المستقبل، {إنه كان بي حفيا} الضمير يعود إلى {ربي} الذي يكون في موضع عناية واستجابة لي، فمعنى {إنه كان بي حفيا}، أي كنت موضع رحمته وبره، وأنه لهذا يظن أنه سيجيب دعائي، ولكن تبين له من بعد أنه عدو لله فتبرّأ منه.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
وعندما يسمع إبراهيم رد والده المطبوع بطابع التعسف والعنف، يجيبه بجواب كله أدب ولطف {قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفياً} أي عودني اللطف بي وإجابة دعائي...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{قَالَ سَلامٌ عَلَيْك} فلن أستخدم الأسلوب الذي استخدمته معي، ولن أهددك كما هددتني، فإذا كنت قد أعلنت الحرب عليّ، فإني أرد عليك بالسلام الذي يعيشه المؤمن تجاه الآخرين، فيعفو عنهم ويصفح إذا أساؤوا إليه، وأجرموا في حقه، ليدفع السيئة بالحسنة، ويفسح لهم المجال للتراجع عن موقفهم السيئ، ولو بعد حين.
{سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبّي} فلعله يستجيب لي فيفتح قلبك على الإيمان، ويهديك سواء السبيل، فإن لم أستطع أن أصل إلى هدايتك بطريقتي الخاصة، فإني أطمع أن تهتدي بلطف الله وعنايته، فسأدعوه وأبتهل إليه {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً} فلا بد أن يسمع دعائي، وهو الذي يعرف صلاح الأمر كله، ولا أزال أطمع في أن تكون لك فرصة للخير في حياتك.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
لكن، ورغم كل ذلك، فقد سيطر إِبراهيم على أعصابه، كبقية الأنبياء والقادة الإِلهيين، ومقابل هذه الغلظة والحدّة وقف بكل سمو وعظمة، و (قال سلام عليك).