اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قَالَ سَلَٰمٌ عَلَيۡكَۖ سَأَسۡتَغۡفِرُ لَكَ رَبِّيٓۖ إِنَّهُۥ كَانَ بِي حَفِيّٗا} (47)

فلما سمع إبراهيمُ- صلوات الله وسلامه عليه- كلام أبيه ، أجاب بأمرين :

أحدهما : أنه وعدُه بالتَّباعُد منه ؛ موافقة وانقياداً لأمْرِ أبيه . والثاني : قوله : { سَلاَمٌ عَلَيْكَ } توديعٌ ، ومتاركةٌ ، أي : سلمتَ منِّي لا أصيبُك بمكروهٍ ؛ وذلك لأنَّه لم يؤمر بقتاله على كفره ؛ كقوله تعالى : { لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الجاهلين } [ القصص : 55 ] ، { وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً } [ الفرقان : 63 ] .

وهذا يدلُّ على جواز متاركة المنصُوح ، إذا ظهر منه اللَّجاج ، وعلى أنَّه تحسُن مقابلةُ الإساءةِ بالإحسان ، ويجوزُ أن يكون دعا لهُ بالسَّلامة ؛ استمالة له .

ألا ترى أنَّه وعدُه بالاستغفار ؛ فيكون سلام برٍّ ولطفٍ ، وهو جوابُ الحليمِ للسَّفيه ؟ !

كقوله سبحانه : { وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً } [ الفرقان : 63 ] .

وقرأ أبو البرهسم{[21654]} " سلاماً " بالنصب ، [ وتوجيهها ]{[21655]} واضحٌ ممَّا تقدَّم .

قوله : { سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ ربي } ، أي : لمَّا أعياه أمرُه ، وعدهُ أن يراجع الله فيه ، فيسألهُ أن يرزقه التَّوحيد ، ويغفر له ، والمعنى : سأسأل الله لك توبةٌ تنالُ بها المغفرة : { إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً } برَّا لطيفاً .

واحتجَّ بهذه الآية من طعن في عصمة الأنبياءِ- صلوات الله عليهم- وذلك أنَّ إبراهيم- صلوات الله عليه وسلامه- استغفر لأبيه ، وأبُوه كان كافراً ، والاستغفارُ للكُفَّار غيرُ جائزٍ ؛ فثبت أنَّ إبراهيم- صلوات الله عليه- فعل ما لا يجوزُ .

أما استغفارهُ أبيه ؛ فلقوله : { سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ ربي } وقوله : { واغفر لأبي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضآلين } [ الشعراء : 86 ]

وأما كون أبيه كافراً ؛ فبالإجماع ، ونصِّ القرآن .

وأمَّا أن الاستغفار [ للكافر ] لا يجوزُ ؛ فلقوله تعالى : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانوا أُوْلِي قربى } [ التوبة : 113 ] ولقوله- عزَّ و جلَّ- في سورة الممتحنة { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ في إِبْرَاهِيمَ } إلى قوله : { إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ } [ الممتحنة : 4 ] .

والجوابُ : أن الآية تدلُّ على أنَّه لا يجوزُ لنا التأَّسِّي به في ذلك ؛ لكنَّ المنع من التَّأسِّي به في ذلك لا يدلُّ على أنَّ ذلك كان معصيةٌ ؛ فإن كثيراً من الأشياء هي من خواصِّ رسُول الله- صلوات الله عليه وسلامه- ولا يجُوزُ لنا التَّأسِّي به فيها ، مع أنَّها كانت مباحةٌ له .

وأيضاً : لعلَّ هذا الاستغفار كان من باب ترك الأولى ، وحسناتُ الأبْرارِ سيِّئاتُ المقرَّبينَ .


[21654]:ينظر: البحر 6/184، والدر المصون 4/510.
[21655]:في ب: وهو.