البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{قَالَ سَلَٰمٌ عَلَيۡكَۖ سَأَسۡتَغۡفِرُ لَكَ رَبِّيٓۖ إِنَّهُۥ كَانَ بِي حَفِيّٗا} (47)

{ قال سلام عليك } .

قرأ أبو البرهثيم : سلاماً بالنصب .

قال الجمهور : هذا بمعنى المسالمة لا بمعنى التحية ، أي أمنة مني لك وهؤلاء لا يرون ابتداء الكافر بالسلام .

وقال النقاش حليم : خاطب سفيهاً كقوله { وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً } وقيل : هي تحية مفارق ، وجوز قائل هذا تحية الكافر وأن يبدأ بالسلام المشروع وهو مذهب سفيان بن عيينة مستدلاً بقوله تعالى { لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم } الآية وبقوله { قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم } الآية .

و { قال } إبراهيم لأبيه { سلام عليك } وما استدل به متأول ، ومذهبهم محجوج بما ثبت في صحيح مسلم : «لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام » ورفع { سلام } على الابتداء ونصبه على المصدر ، أي سلمت سلاماً دعاء له بالسلامة على سبيل الاستمالة ، ثم وعده بالاستغفار وذلك يكون بشرط حصول ما يمكن معه الاستغفار وهو الإيمان بالله وإفراده بالعبادة ، وهذا كما يرد الأمر والنهي على الكافر ولا يصح الامتثال إلاّ بشرط الإيمان .

ومعنى { سأستغفر لك } أدعو الله في هدايتك فيغفر لك بالإيمان ولا يتأول على إبراهيم عليه السلام أنه لم يعلم أن الله لا يغفر لكافر .

قال ابن عطية : ويجوز أن يكون إبراهيم عليه السلام أول نبيّ أوحي إليه أن الله لا يغفر لكافر لأن هذه الطريقة إنما طريقها السمع ، وكانت هذه المقالة منه لأبيه قبل أن يوحى إليه ، وذلك أنه إنما تبين له في أبيه أنه عدو لله بأحد وجهين : إما بموته على الكفر كما روي ، وإما أن يوحي إليه الحتم عليه .

وقال الزمخشري : ولقائل أن يقول الذي يمنع من الاستغفار للكافر إنما هو السمع ، فأما القضية العقلية فلا تأباه ، فيجوز أن يكون الوعد بالاستغفار والوفاء به قبل ورود السمع بناء على قضية العقل ، والذي يدل على صحته قوله تعالى { إلاّ قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك } فلو كان شارطاً للإيمان لم يكن مستنكراً ومستثنى عما وجب فيه .

وقول من قال إنما استغفر له لأنه وعده أن يؤمن مستدلاً بقوله { إلاّ عن موعدة وعدها إياه } فجعل الواعد آزر والموعود إبراهيم عليه السلام ليس بجيد لاعتقابه في هذه الآية الوعد بالاستغفار بعد ذلك القول الجافي من قوله { لئن لم تنته } الآية .

فكيف يكون وعده بالإيمان ؟ ولأن الواعد هو إبراهيم ويدل عليه قراءة حماد الراوية وعدها إياه .

والحفي المكرم المحتفل الكثير البر والألطاف ، وتقدم شرحه لغة في قوله { كأنك حفي عنها } وقال ابن عباس : رحيماً .

وقال الكلبي : حليماً .

وقال القتبي : باراً .

وقال السدي : حفيك من يهمه أمرك ، ولما كان في قوله { لأرجمنك } فظاظة وقساوة قلب قابله بالدعاء له بالسلام والأمن ووعده بالاستغفار قضاء لحق الأبوة ، وإن كان قد صدر منه إغلاظ .