الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{قَالَ سَلَٰمٌ عَلَيۡكَۖ سَأَسۡتَغۡفِرُ لَكَ رَبِّيٓۖ إِنَّهُۥ كَانَ بِي حَفِيّٗا} (47)

قوله تعالى : " قال سلام عليك " لم يعارضه إبراهيم عليه السلام بسوء الرد ؛ لأنه لم يؤمر بقتاله على كفره . والجمهور على أن المراد بسلامه المسالمة التي هي المتاركة لا التحية ، قال الطبري : معناه أمنة مني لك . وعلى هذا لا يبدأ الكافر بالسلام . وقال النقاش : حليم خاطب سفيها ، كما قال : " وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا{[10857]} سلاما " [ الفرقان : 63 ] . وقال بعضهم في معنى تسليمه : هو تحية مفارق ، وجوز تحية الكافر وأن يبدأ بها . قيل لابن عيينة : هل يجوز السلام على الكافر ؟ قال : نعم ، قال الله تعالى : " لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين{[10858]} ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم أن الله يحب المقسطين " {[10859]} [ الممتحنة : 8 ] . وقال " قد كانت " لكم أسوة حسنة في إبراهيم " {[10860]} [ الممتحنة :4 ] الآية ، وقال إبراهيم لأبيه " سلام عليك " .

قلت : الأظهر من الآية ما قاله سفيان بن عيينة ، وفي الباب حديثان صحيحان : روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام فإذا لقيتم أحدهم في الطريق فاضطروه إلى أضيقه ) خرجه البخار ومسلم . وفي الصحيحين عن أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم ركب حمارا عليه إكاف ، تحته قطيفة فدكية ، وأردف وراءه أسامة بن زيد ، وهو يعود سعد بن عبادة{[10861]} في بني الحرث بن الخزرج ، وذلك قبل وقعة بدر ، حتى مر في مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود ، وفيهم عبد الله بن أبي بن سلول ، وفي المجلس عبد الله بن رواحة ، فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة ، خمر عبد الله بن أبي أنفه بردائه ، ثم قال : لا تغبروا علينا ، فسلم عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ، الحديث . فالأول يفيد ترك السلام عليهم ابتداء لأن ذلك إكرام ، والكافر ليس أهله . والحديث الثاني يجوز ذلك . قال الطبري : ولا يعارض ما رواه أسامة بحديث أبي هريرة فإنه ليس في أحدهما خلاف للآخر وذلك أن حديث أبي هريرة مخرجه العموم ، وخبر أسامة يبين أن معناه الخصوص . وقال النخعي : إذا كانت لك حاجة عند يهودي أو نصراني فابدأه بالسلام ، فبان بهذا أن حديث أبى هريرة ( لا تبدؤوهم بالسلام ) إذا كان لغير سبب يدعوكم إلى أن تبدؤوهم بالسلام ، من قضاء ذمام أو حاجة تعرض لكم قبلهم ، أو حق صحبة أو جوار أو سفر . قال الطبري : وقد روي عن السلف أنهم كانوا يسلمون على أهل الكتاب . وفعله ابن مسعود بدهقان صحبه في طريقه ، قال علقمة : فقلت له يا أبا عبد الرحمن أليس يكره أن يبدؤوا بالسلام ؟ قال نعم ، ولكن حق الصحبة . وكان أبو أسامة إذا انصرف إلى بيته لا يمر بمسلم ولا نصراني ولا صغير ولا كبير إلا سلم عليه ، قيل له في ذلك فقال : أمرنا أن نفشي السلام . وسئل الأوزاعي عن مسلم مر بكافر فسلم عليه ، فقال : إن سلمت فقد سلم الصالحون قبلك ، وإن تركت فقد ترك الصالحون قبلك . وروي عن الحسن البصري أنه قال : إذا مررت بمجلس فيه مسلمون وكفار فسلم عليهم .

قلت : وقد احتج أهل المقالة الأولى بأن السلام الذي معناه التحية إنما خص به هذه الأمة ؛ لحديث أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن الله تعالى أعطى أمتي ثلاثا لم تعط أحدا قبلهم السلام وهي تحية أهل الجنة ) الحديث ، ذكره الترمذي الحكيم ، وقد مضى في الفاتحة{[10862]} بسنده . وقد مضى الكلام في معنى قوله : " سأستغفر لك ربي " وارتفع السلام بالابتداء ، وجاز ذلك مع نكرته لأنه نكرة مخصصة فقرنت المعرفة . " إنه كان بي حفيا " الحفي المبالغ في البر والإلطاف ، يقال : حفي به وتحفى إذا بره . وقال الكسائي يقال : حفي بي حفاوة وحفوة . وقال الفراء : " إنه كان بي حفيا " أي عالما لطيفا يجيبني إذا دعوته .


[10857]:راجع جـ 13 ص 67 فما بعد.
[10858]:راجع جـ 18 ص 58 فما بعد.
[10859]:راجع جـ 18 ص 58 فما بعد، وص 55 فما بعد.
[10860]:راجع جـ 18 ص 58 فما بعد، وص 55 فما بعد.
[10861]:في جـ وك: معاذ.
[10862]:راجع جـ 1 ص 130.