{ 47-48 } { اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ * فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ }
يأمر تعالى عباده بالاستجابة له ، بامتثال ما أمر به ، واجتناب ما نهى عنه ، وبالمبادرة بذلك وعدم التسويف ، مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْم القيامة الذي إذا جاء لا يمكن رده واستدراك الفائت ، وليس للعبد في ذلك اليوم ملجأ يلجأ إليه ، فيفوت ربه ، ويهرب منه .
بل قد أحاطت الملائكة بالخليقة من خلفهم ، ونودوا { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ } وليس للعبد في ذلك اليوم نكير لما اقترفه وأجرمه ، بل لو أنكر لشهدت عليه جوارحه .
وهذه الآية ونحوها ، فيها ذم الأمل ، والأمر بانتهاز الفرصة في كل عمل يعرض للعبد ، فإن للتأخير آفات .
وفي ظل هذا المشهد يوجه الخطاب إلى المعاندين المكابرين ، ليستجيبوا لربهم قبل أن يفجأهم مثل هذا المصير فلا يجدوا لهم ملجأ يقيهم ، ولا نصيراً ينكر مصيرهم الأليم ، ويوجه الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] إلى التخلي عنهم إذا هم أعرضوا فلم يستجيبوا لهذا النذير ؛ فما عليه إلا البلاغ ، وما هو مكلف بهم ولا كفيل :
( استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله ، ما لكم من ملجأ يومئذ وما لكم من نكير . فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا إن عليك إلا البلاغ ) . .
لما ذكر تعالى ما يكون في يوم القيامة من الأهوال والأمور العظام الهائلة حَذَّر منه وأمر بالاستعداد له ، فقال : { اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ } أي : إذا أمر بكونه فإنه كلمح البصر يكون ، وليس له دافع ولا مانع .
وقوله : { مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ } أي : ليس لكم حصن تتحصنون فيه ، ولا مكان يستركم وتتنكرون فيه ، فتغيبون عن بصره ، تبارك وتعالى ، بل هو محيط بكم بعلمه وبصره وقدرته ، فلا ملجأ منه إلا إليه ، { يَقُولُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ . كَلا لا وَزَرَ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ } [ القيامة : 10 - 12 ] .
وقوله : اسْتَجِيبُوا لِرَبّكُمْ يقول تعالى ذكره للكافرين به : أجيبوا أيها الناس داعيَ الله وآمنوا به واتبعوه على ما جاءكم به من عند ربكم ، مِنْ قَبْلِ أَنْ يأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدّ لَهُ مِنَ اللّهِ : يقول : لا شيء يردّ مجيئه إذا جاء الله به ، وذلك يوم القيامة ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ يقول جلّ ثناؤه : مالكم أيها الناس من معقل تحترزون فيه ، وتلجأون إليه ، فتعتصمون به من النازل بكم من عذاب الله على كفركم به ، كان في الدنيا وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ يقول : ولا أنتم تقدرون لما يحلّ بكم من عقابه يومئذٍ على تغييره ، ولا على انتصار منه إذا عاقبكم بما عاقبكم به . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ قال : من مَحْرَز . وقوله : مِنْ نَكِيرِ قال : ناصر ينصركم .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ تلجأون إليه وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ يقول : من عزّ تعتزون .
ثم أمر تعالى نبيه أن يأمرهم بالاستجابة لدعوة الله وشريعته ، وحذرهم إتيان يوم القيامة الذي لا يرد أحد بعده إلى عمل ، والذي لا ملجأ ولا منجى لأحد فيه إلا إلى العلم بالله تعالى والعمل الصالح في الدنيا ، فأخبرهم أنه لا ملجأ لهم ولا نكير . والنكير مصدر بمعنى الإنكار وهو بمنزلة عديدة الحي{[10169]} ونحوه من المصادر ، ويحتمل أن يكون من أبنية اسم الفاعل من نكر ، وإن كان المعنى يبعد به ، لأن نكر إنما معناه لم يميز وظن الأمر غير ما عهده .
بعد أن قُطع خطابهم عقب قوله : { فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا } [ الشورى : 36 ] بما تخلّص به إلى الثناء على فِرَق المؤمنين ، وما استتبع ذلك من التسجيل على المشركين بالضلالة والعذاب ، ووصفِ حالهم الفظيع ، عاد الكلام إلى خطابهم بالدعوة الجامعة لما تقدم طلباً لتدارك أمرهم قبل الفوات ، فاستؤنف الكلام استئنافاً فيه معنى النتيجة للمواعظ المتقدمة لأن ما تقدم من الزواجر يهيّىء بعض النفوس لقبول دعوة الإسلام .
والاستجابة : إجابة الداعي ، والسين والتاء للتوكيد . وأطلقت الاستجابة على امتثال ما يطالبهم به النبي صلى الله عليه وسلم تبليغاً عن الله تعالى على طريقة المجاز لأن استجابة النداء تستلزم الامتثال للمنادي فقد كثر إطلاقها على إجابة المستنجد . والمعنى : أطيعوا ربكم وامتثلوا أمره من قبل أن يأتي يوم العذاب وهو يوم القيامة لأن الحديث جارٍ عليه .
واللام في { لربكم } لِتأكيد تعدية الفعل إلى المفعول مثل : حمِدتُ له وشكرتُ له . وتسمى لام التبليغ ولام التبيين . وأصله استجابهُ ، قال كعب الغَنَوي :
وداعٍ دعَا يَا مَن يجيب إلى النِّدا *** فلم يستجبْه عند ذاك مجيب
ولعل أصله استجاب دعاءه له ، أي لأجله له كما في قوله تعالى : { ألم نشرح لك صدرك } [ الشرح : 1 ] فاختصر لكثرة الاستعمال فقالوا : استجاب له وشكر له ، وتقدم في قوله : { فليستجيبوا لي } في سورة البقرة ( 186 ) .
والمردّ : مصدر بمعنى الرد ، وتقدم آنفاً في قوله : { هل إلى مَردّ من سبيل } [ الشورى : 44 ] . { وَلا مَرد له } صفة { يوم } . والمعنى : لا مرد لإثباته بل هو واقع ، و { لَه } خبرُ { لا } النافية ، أي لا مرد كائناً له ، ولام { له } للاختصاص .
و { مِن } : في قوله : { من الله } ابتدائية وهو ابتداء مجازي ، ومعناه : حكمُ الله به فكأنَّ اليوم جاء من لدنه .
ويجوز تعليق المجرور بفعل { يأتي } . ويجوز أن يتعلق بالكون الذي في خبر { لا } . والتقدير على هذا : لا مرد كائناً من الله له وليس متعلقاً ب { مرد } على أنه متمم معناه ، إذ لو كان كذلك كان اسم { لا } شبيهاً بالمضاف فكان منوّناً ولم يكن مبنياً على الفتح ، وما وقع في « الكشاف » مما يوهم هذا مؤوّل بما سمعتَ ، ولذلك سمّاه صلة ، ولم يسمه متعلقاً .
وجملة { ما لكم من ملجإٍ يومئذٍ } مستأنفة . والملجأ : مكان اللجأ ، واللجأ : المصير والانحياز إلى الشيء ، فالملجأ : المكان الذي يصير إليه المرء للتوقّي فيه ، ويطلق مجازاً على الناصر ، وهو المراد هنا ، أي ما لكم من شيء يقيكم من العذاب .
والنكير : اسم مصدر أنكر ، أي ما لكم إنكار لما جُوزيتم به ، أي لا يسعكم إلاّ الاعتراف دون تنصل .