قوله تعالى : { تنزع الناس } تقلعهم ثم ترمي بهم على رؤوسهم فتدق رقابهم . وروي أنها كانت تنزع الناس من قبورهم ، { كأنهم أعجاز نخل } قال ابن عباس : أصولها ، وقال الضحاك : أوراك نخل . { منقعر } منقلع من مكانه ، ساقط على الأرض . وواحد الأعجاز عجز ، مثل عضد وأعضاد وإنما قال : ( أعجاز نخل ) وهي أصولها التي قطعت فرعها ، لأن الريح كانت تبين رؤوسهم من أجسادهم بلا رؤوس .
{ تَنْزِعُ النَّاسَ } من شدتها ، فترفعهم إلى جو السماء ، ثم تدفعهم بالأرض فتهلكهم ، فيصبحون { كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ } أي : كأن جثثهم بعد هلاكهم مثل جذوع النخل الخاوي الذي أصابته{[933]} الريح فسقط على الأرض ، فما أهون الخلق على الله إذا عصوا أمره
كان كما يصفه ذلك الوصف الخاطف الرعيب :
( إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر . تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر ) . . والريح الصرصر : الباردة العنيفة . وجرس اللفظ يصور نوع الريح . والنحس : الشؤم . وأي نحس يصيب قوما أشد مما أصاب عاد . والريح تنزعهم وتجذبهم وتحطمهم . فتدعهم كأنهم أعجاز نخل مهشمة مقلوعة من قعورها ? !
والمشهد مفزع مخيف ، وعاصف عنيف . والريح التي أرسلت على عاد " هي من جند الله " وهي قوة من قوى هذا الكون ، من خلق الله ، تسير وفق الناموس الكوني الذي اختاره ؛ وهو يسلطها على من يشاء ، بينما هي ماضية في طريقها مع ذلك الناموس ، بلا تعارض بين خط سيرها الكوني ، وأدائها لما تؤمر به وفق مشيئة الله . صاحب الأمر وصاحب الناموس :
وقوله : { تَنزعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ } وذلك أن الريح كانت تأتي أحدهم فترفعه حتى تغيبه عن الأبصار ، ثم تنكسه على أم رأسه ، فيسقط إلى الأرض ، فتثلغ رأسه فيبقى جثة بلا رأس ، ولهذا قال : { كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ . فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ . وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ } .
وقوله : تَنْزِعُ النّاسَ كأنّهُمْ أعجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ يقول : تقتلع الناس ثم ترمي بهم على رؤوسهم ، فتندقّ رقابهم ، وتبين من أجسامهم . كما :
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : لما هاجت الريح قام نفر من عاد سبعة شمَاليّا ، منهم ستة من أشدّ عاد وأجسمها ، منهم عمرو بن الحُلَيّ والحارث بن شداد والهلقام وابنا تيقن وخَلَجان بن أسعد ، فأدلجوا العيال في شعب بين جبلين ، ثم اصطفوا على باب الشعب ليردّوا الريح عمن بالشّعب من العِيال ، فجعلت الريح تخفِقُهم رجلاً رجلاً ، فقالت امرأة من عاد :
ذَهَبَ الدّهْرُ بَعَمْرِو بْ *** نِ حُلَيَ والهَنِيّاتِ
ثُمّ بالحارِثِ والهِلْ *** قامِ طَلاّعِ الثّنِيّاتِ
وَالّذِي سَدّ عَلَيْنا الرّي *** حَ أيّامَ البَلِيّاتِ
حدثنا العباس بن الوليد البيروتيّ ، قال : أخبرني أبي ، قال : ثني إسماعيل بن عياش ، عن محمد بن إسحاق قال : لما هبّت الريح قام سبعة من عاد ، فقالوا : نردّ الريح ، فأتوا فم الشعب الذي يأتي منه الريح ، فوقفوا عليه ، فجعلت الريح تهبّ ، فتدخل تحت واحد واحد ، فتقتلعه من الأرض فترمي به على رأسه ، فتندقّ رقبته ، ففعلت ذلك بستة منهم ، وتركتهم كما قال الله : أعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ وبقي الخَلَجان فأتى هودا فقال : يا هود ما هذا الذي أرى في السحاب كهيئة البخاتيّ ؟ قال : تلك ملائكة ربي ، قال : مالي إن أسلمت ؟ قال : تَسْلَم ، قال : أيُقيدني ربك إن أسلمت من هؤلاء ؟ فقال : ويلك أرأيت مَلكا يقيد جنوده ؟ فقال : وعزّته لو فعل ما رضيت . قال : ثم مال إلى جانب الجبل ، فأخذ بركن منه فهزّه ، فاهتزّ في يده ، ثم جعل يقول :
لَمْ يَبْقَ إلاّ الخَلَجانُ نَفْسُهُ *** يا لَكَ مِنْ يَوْمٍ دَهانِي أمْسُهُ
بِثابِتِ الوَطْءِ شَدِيدٍ وَطْسُهُ *** لَوْ لَمْ يَجِئْنِي جِئْتُهُ أحُسّهُ
قال : ثم هبت الريح فألحقته بأصحابه .
حدثني محمد بن إبراهيم ، قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم ، قال : حدثنا نوح بن قيس ، قال : حدثنا محمد بن سيف ، عن الحسن ، قال : لما أقبلت الريح قام إليها قوم عاد ، فأخذ بعضهم بأيدي بعض كما تفعل الأعاجم ، وغمزوا أقدامهم في الأرض وقالوا : يا هود من يزيل أقدامنا عن الأرض إن كنت صادقا ، فأرسل الله عليهم الريح فصيرتهم كأنهم أعجاز نخل مُنْقَعِر .
حدثني محمد بن إبراهيم ، قال : حدثنا مسلم ، قال : حدثنا نوح بن قيس ، قال : حدثنا أشعث بن جابر ، عن شهر بن حوشب ، عن أبي هريرة ، قال : إن كان الرجل من قوم عاد ليتخذ المصراعين من حجارة ، لو اجتمع عليها خمس مئة من هذه الأمة لم يستطيعوا أن يحملوها ، وإن كان الرجل منهم ليغمز قدمه في الأرض ، فتدخل في الأرض ، وقال : كأنهم أعجاز نخل ومعنى الكلام : فيتركهم كأنهم أعجاز نخل منقعر ، فترك ذكر فيتركهم استغناء بدلالة الكلام عليه . وقيل : إنما شبههم بأعجاز نخل منقعر ، لأن رؤوسهم كانت تبين من أجسامهم ، فتذهب لذلك رِقابهم ، وتبقى أجسادهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن عرفة ، قال : حدثنا خلف بن خليفة ، عن هلال بن خباب ، عن مجاهد ، في قوله : كأنّهُمْ أعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ قال : سقطت رؤوسهم كأمثال الأخبية ، وتفرّدت ، أو وتَفَرّقت أعناقهم «قال أبو جعفر : أنا أشك » ، فشبهها بأعجاز نخلٍ منقعر .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : تَنْزِعُ النّاسَ كأنّهُم أعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ قال : هم قوم عاد حين صرعتهم الريح ، فكأنهم فِلَق نخل منقعر فَكَيْفَ كانَ عَذَابي وَنُذُرِ يقول تعالى ذكره : فانظروا يا معشر كفار قريش ، كيف كان عذابي قوم عاد ، إذ كفروا بربهم ، وكذّبوا رسوله ، فإن ذلك سنة الله في أمثالهم ، وكيف كان إنذاري بهم مَنْ أنذرت .
{ تنزع الناس } تقلعهم ، روي أنهم دخلوا في الشعاب والحفر وتمسك بعضهم ببعض فنزعتهم الريح منها وصرعتهم موتى . { كأنهم أعجاز نخل منقعر } أصول نخل منقلع عن مغارسه ساقط على الأرض . وقيل شبهوا بالإعجاز لأن الريح طيرت رؤوسهم وطرحت أجسادهم ، وتذكير { منقعر } للحمل على اللفظ ، والتأنيث في قوله { أعجاز نخل خاوية } للمعنى .
وقوله : { تنزع الناس } معناه : تنقلهم من مواضعهم نزعاً فتطرحهم . وروي عن مجاهد : أنها كانت تلقي الرجل على رأسه فيتفتت رأسه وعنقه وما يلي ذلك من بدنه فلذلك حسن التشبيه ب «أعجاز » النخل وذلك أن المنقعر هو الذي ينقلب من قعره . فذلك التشعث والشعب التي لأعجاز النخل ، كان يشبهها ما تقطع وتشعث من شخص الإنسان ، وقال قوم : إنما شبههم ب «أعجاز النخل » لأنهم كانوا يحفرون حفراً ليمتنعوا فيها من الريح ، فكأنه شبه تلك الحفر بعد النزع بحفر أعجاز النخل ، والنخل يذكّر ويؤنث فلذلك قال هنا : { منقعر } وفي غير هذه السورة :
{ خاوية }{[10776]} [ الحاقة : 7 ] والكاف في قوله : { كأنهم أعجاز } في موضع الحال ، قاله الزجاج ، وما روي من خبر الخلجان وغيره وقوتهم ضعيف كله ، وفائدة تكرار قوله : { فكيف كان عذابي ونذر } .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{تنزع} الريح أرواح {الناس} من أجسادهم فتصرعهم، ثم شبههم، فقال: {كأنهم أعجاز نخل} يعني أصول النخل، {منقعر} يقول: انعقرت النخلة من أصلها فوقعت، وهو المنقطع. فشبههم حين وقعوا من شدة العذاب بالنخيل الساقطة التي ليست لها رءوس وشبههم بالنخيل لطولهم...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"تَنْزِعُ النّاسَ كأنّهُمْ أعجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ "يقول: تقتلع الناس ثم ترمي بهم على رؤوسهم، فتندقّ رقابهم، وتبين من أجسامهم...
وقال: "كأنهم أعجاز نخل" ومعنى الكلام: فيتركهم كأنهم أعجاز نخل منقعر، فترك ذكر فيتركهم استغناء بدلالة الكلام عليه. وقيل: إنما شبههم بأعجاز نخل منقعر، لأن رؤوسهم كانت تبين من أجسامهم، فتذهب لذلك رِقابهم، وتبقى أجسادهم...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل مُنقعِر} من الناس من قال: لمّا اشتد بهم الريح تنادوا في ما بينهم. البيوت [البيوت] فدخلوها، فدخلت الريح عليهم، فأخرجتهم من بيوتهم، وألقتهم في فنائهم، فذلك النّزع. ومنهم من قال: تنزع مفاصلهم، فتُلقيهم كأعجاز {نخل منقعِر} لأنهم كانوا أطول الخلق... فجائز التشبيه بأعجاز {نخل منقعر} بعد انقعار مفاصلهم، والانقعار هو الانقلاع. قال أبو عوسجة: {منقعر} أي منقطع ساقط.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
أعجاز النخل: أسافله... والمنقعر: المنقلع من أصله...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{تَنزِعُ الناس} تقلعهم عن أماكنهم، وكانوا يصطفون آخذين أيديهم بأيدي بعض. ويتدخلون في الشعاب، ويحفرون الحفر فيندسون فيها فتنزعهم وتكبهم وتدق رقابهم {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ} يعني أنهم كانوا يتساقطون على الأرض أمواتاً وهم جثث طوال عظام، كأنهم أعجاز نخل وهي أصولها بلا فروع، منقعر: منقلع: عن مغارسه.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقال قوم: إنما شبههم ب «أعجاز النخل» لأنهم كانوا يحفرون حفراً ليمتنعوا فيها من الريح، فكأنه شبه تلك الحفر بعد النزع بحفر أعجاز النخل وقوله: {تنزع الناس} معناه: تنقلهم من مواضعهم نزعاً فتطرحهم.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والنزع: الإِزالة بعُنف لئلا يبقى اتصال بين المزال وبين ما كان متصلاً به، ومنه نزع الثياب. والأعجاز جمع عَجُز: وهو أسفل الشيء، وشاع إطلاق العَجُز على آخر الشيء لأنهم يعتبرون الأجسام منتصبة على الأرض فأولاها ما كان إلى السماء وآخرها ما يلي الأرض. وأطلقت الأعجاز هنا على أصول النخل لأن أصل الشجرة هو في آخرها مما يلي الأرض. وشبه الناس المطروحون على الأرض بأصول النخيل المقطوعة التي تقلع من منابتها لموتها إذ تزول فروعها ويتحاتّ ورقها فلا تبقى إلا الجذوع الأصلية فلذلك سميت أعجازاً. و {منقعر}: اسم فاعل انقعر مطاوع قَعره، أي بلغ قَعْره بالحفر يقال: قَعَرَ البئرَ إذا انتهى إلى عمقها، أي كأنهم أعجاز نخل قعرت دواخله وذلك يحصل لعُود النخل إذا طال مكثه مطروحاً. ومنقعر: وصف النخل، روعي في إفراده وتذكيره صورة لفظ نخل دون عدد مدلوله خلافاً لما في قوله تعالى: {كأنهم أعجاز نخل خاوية} [الحاقة: 7] وقوله: {والنخل ذات الأكمام} [الرحمن: 11] وجملة {كأنهم أعجاز نخل منقعر} في موضع الحال من {الناس} ووجه الوصف ب {منقعر} الإِشارة إلى أن الريح صرعتهم صرعاً تفلقت منه بطونهم وتطايرت أمعاؤهم وأفئدتهم فصاروا جثثاً فُرغا. وهذا تفظيع لحالهم ومثلة لهم لتخويف من يراهم.