قوله : { إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً } الصَّرْصَرُ الشَّديدة الصَّوْت من صَرْصَرَ البابُ أو القَلَمُ إِذَا صَوَّت .
وقيل : الشديدة البرد من الصَّرِّ وهو البرد وهو كله أصول عند الجمهور .
وقال مكي : أصله «صَرَّراً » من صَرَّ الشيءُ إِذا صوت ، لكن أبدلوا من الراء المشددة{[54026]} صاداً ، وهذه أقوال الكُوفِيِّين . ومثله : كَبْكَبَ وكَفْكَفَ . وتقدم هذا في فُصِّلَتْ{[54027]} وغيرها .
وقال ابن الخطيب : الصرصر هو الدائمة الهبوب من أَصَرَّ عَلَى الشَّيْءِ إِذا دَامَ وَثَبَت .
{ يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ } شديد دائم الشُّؤم استمر عليهم بنُحُوسِهِ ، ولم يُبْقِ منهم أحداً إِلا أهلكه . قيل : ذلك يوم الأربعاء في آخر الشهر .
فإن قيل : إذا كان يوم الأربعاء يَوْمَ نَحْسٍ مستمر فكيف يستجاب فيه الدعاء ؟ ! وقد جاء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استجيب له فيه فيما بين الظهر والعصر .
فالجواب : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : «أتاني جبريل فقال : «إنَّ اللَّهَ يأمرك أَنْ تَقْضِي مع الشاهد » وقال : يَوْمُ الأربعاء يَوْمُ نَحْسٍ مُسْتَمِرّ . ومعلوم أنه لم يرد أنه نحس على المصلحين بل على المفسدين ، كما كانت الأيام النحسات على الكُفار ، لا على نبيهم والمؤمنين .
واعلم أنه تعالى قال ههنا : إِنا أرسلنا عليهم ريحاً صرصراً وقال في الذاريات : { إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الريح العقيم } [ الذاريات : 41 ] فعرَّف الريح هناك ، ونكَّرَها ههنا ؛ لأن العقم في الريح أظهر من البَرْد الذي يضرّ النبات أو الشدة التي تَعْصِفُ الأشجار ، لأن الريح العقيم هي التي لا تُنْشِئ سحاباً ، ولا تُلَقِّح شجراً وهي كثيرة الوقوع ، وأما الريح المهلكة الباردة فقلما تُوجَد فقال : الريح العقيم أي هذا الجنس المعروف{[54028]} .
ثم زاده بياناً بقوله : { مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كالرميم } فتميزت عن الريح العقيم ، وأما الصرصر فقليلة الوقوع فلا تكون مشهورة فنكَّرها{[54029]} .
قوله : { فِي يَوْمِ نَحْسٍ } العامة على إضافة يَوْم إلى نَحْسٍ - بسكون الحاء - وفيه وجهان :
أحدهما : أنه من إضافة الموصوف إلى صفته .
والثاني - وهو قول البصريين{[54030]} - أنه صفة لموصوف محذوف أي يوم عذاب نحس .
وقرأ الحسن - ( رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ) {[54031]} بتَنْوِينه ووصفه بنَحْسٍ{[54032]} ولم يقيِّده الزمخشري بكسر الحاء{[54033]} . وقيده أبو حيان{[54034]} . وقد قرئ قوله : { في أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ } [ فصلت : 16 ] بسكون الحاء وكسرها ، وتنوين «أيام » عند الجميع ما تقدم تقريره ، و«مُسْتَمِرٍّ » صفة «ليوم » أو «نحس » . ومعناه كما تقدم أي عليهم حتى أهلكهم ، أو من المرارة . قال الضحاك : كان مراً عليهم وكذا حكى الكسائي أن قوماً قالوا هو من المرارة يقال : مَرَّ الشَّيْءُ ، وأَمَرَّ أي كان كالشيء المر تكرهه النفوس ، وقد قال : { فَذُوقُواْ } [ آل عمران : 106 ] والذي يُذَاقُ قَدْ يكونُ مُرًّا{[54035]} .
قوله : ( تَنْزِعُ النَّاسَ ) في موضع نصب إما نعتاً ل «رِيحاً » وإما حالاً منها لتخصصها بالصفة ؛ ويجوز أن تكون مستأنفة{[54036]} . وقال : «الناس » ليعم ذَكَرَهُمْ وأنثاهم ، فأوقع الظاهر موقع المضمر لذلك فالأصل تَنْزِعُهُمْ{[54037]} .
قال تعالى هنا : { فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ } وقال في السجدة{[54038]} : { فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ } وقال في الحاقة : { سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً } [ الحاقة : 7 ] . والمراد من اليوم هنا الوقت والزمان كما في قوله : { يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً } [ مريم : 33 ] . وقوله «مُسْتَمِرّ » يفيد ما يفيده الأيام ؛ لأن الاستمرار ينبئ عن امتداد الزمان كما تنبئ عَنْهُ الأيام . والحكاية هنا مذكورة على سبيل الاختصار فذكر الزمان ولم يذكر مقداره على سبيل الإيجاز{[54039]} .
قوله : «كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ » حال من الناس مقدرةً{[54040]} ، و«مُنْقَعِرٍ » صفة للنَّخل باعتبار الجنس ، ولو أنث لاعتبر معنى الجماعة كقوله : { نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } [ الحاقة : 7 ] . وقد مضى تحقيق{[54041]} اللغتين فيه .
وإنما ذكر هنا وأنث في الحاقة مراعاةً للفواصل في الموضعين . وقرأ أبو نُهَيْكٍ : «أَعْجُزُ » على وزن أفْعُلٍ نحو : ضَبُع وأَضْبُع{[54042]} .
وقيل : الكاف في موضع نصب بفعل مقدر تقديره : تَتْرُكُهْم كَأَنَّهم أَعْجَازٌ . قاله مَكِّي{[54043]} .
ولو جعل مفعولاً ثانياً على التضمين أي تصيرهم بالنزع كأنهم لَكَان أقرب .
والأعجاز جمع عَجُز{[54044]} وهو مؤخر الشيء ، ومنه العَجْز ، لأنه يؤدي إلى تأخر الأمور . والمُنْقَعِرُ : المنقلع من أصله ( يقال ) قَعَرْتُ النَّخْلَةَ قَلَعْتُهَا من أصلها فانْقَعَرَتْ . وقَعَرْتُ البئْرَ : وَصلتُ إِلى قَعْرِهَا وقَعَرْتُ الإِناء شَرِبْتُ ما فيه حتى وصلت إِلى قَعْرِهِ ، وأَقْعَرْتُ البِئْرَ أي جَعَلْتُ له قَعْراً{[54045]} .
تنزع الناس تَقْلَعُهُمْ ثُمَّ تَرْمِي بهم على رؤوسهم فتدق رِقَابَهُمْ . وروي : أنها كانت تنزع الناس من قبورهم كأنهم أعجاز نخل . قال ابن عباس ( رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ) أصولها . وقال الضحاك : أوراك نخل منقعر منقلع من مكانه ساقطٍ على الأرض{[54046]} وقال : أعجاز نخل وهي أصولها التي قلعت فروعها ، لأن الكفّار تبين رؤوسهم من أجسادهم فتبقى أجسادهم بلا رؤوس . قال ابن الخطيب : تَنْزِعُهُمْ نزعا بعُنْف كأنهم أعجاز نخل منقعر{[54047]} فينقعروا .
وهذا إشارة إلى قوتهم وثباتهم على الأرض ، ويكون ذلك إشارةً إلى عظم أجسادهم أو إلى ثباتهم في الأرض فكأنهم كانوا يجعلون أرجُلهمْ في الأرض ويقصدون المنع به على الرِّيح{[54048]} .
قال ابن إسحاق : لما هاجت الريح قام سبعة نَفَر من عاد من أقواهُم وأحْسَمِهمْ منهم عمرو بنُ الحُلِيّ ، والحارث بن شدّاد والهِلْقَامُ وابنا تِقْن وخَلْجَانُ بن سعد فألجأوا{[54049]} العِيَالَ في شِعْب بينٍ جَبَلَيْن ثم اصطفّوا على جانبي الشِّعْب ليردُّوا الريح عمن في الشِّعْب من العِيال فجعلت الريح تَجْعفُهُمْ{[54050]} رجلاً بعد رجلٍ ، فقالت امرأة عاد :
ذَهَبَ الدَّهْرُ بِعَمْرِو بْ *** نِ حُلِيٍّ والهَنِيَّاتِ
ثُمَّ بالحَارِثِ والهِلْ *** لقَام طلاَّعِ الثَّنِيَّاتِ
والَّذِي سَدَّ مَهَبَّ الرْ *** رِيحِ أَيَّامَ البَلِيَّاتِ{[54051]}
أو يكون إشارة إلى يُبْسِهِمْ وجفافهم بالريح ، فهي كانت تقتلهم وتحرقهم ببردها المفرط فيقعون كأنهم أخشاب يابسة .
( قال ) المفسرون : ذكر النخل هنا ، وقال : «منقعر » وأنثه في الحاقّة ، وقال : أعجاز نخل خاوية لأجل الفواصل كقوله : مُسْتَمِرّ ، ومُنْهَمِر ، ومُنْتَشِر .
وقيل : إِن النَّخْل لفظه لفظ واحد ، ومعناه الجمع ، فيقال : نَخْلٌ مُنْقَعِرٌ ، ومُنْقَعِرَةٌ ومُنْقَعِرَاتٌ ، ونَخْلٌ خاوٍ وخَاوِيةٌ وخَاوِيَاتٌ ونَخْلٌ بَاسِقٌ وبَاسِقَةٌ وبَاسِقَاتٌ .
فإِذا قيل : «منقعر أو خاو أو باسق » فبالنظر إلى اللفظ ، وإذا قيل : مُنْقَعِرَاتٌ أو خاويات أو باسقاتٌ فلأجل المعنى{[54052]} .
قال أبو بكر بن الأنباري : سُئِلَ المُبَرِّدُ بحضرة القَاضي إسرفيل{[54053]} عن ألف مسألة هذه من جُمْلَتِهَا فقال : ما الفرق بين قوله تعالى : { وَلِسُلَيْمَانَ الريح عَاصِفَةً } [ الأنبياء : 81 ] وقال : { جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ } [ يونس : 22 ] ، وقوله : { كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } [ الحاقة : 7 ] و{ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ } ؟ فقال : كلّ ما ورد عليك من هذا القرآن ، فإن شئت رددته إلى اللفظ تذكيراً أو إلى المعنى تأنيثاً{[54054]} .
قال ابن الخطيب : ذكر الله لفظ النخل في مواضع ثلاثة ووصفها على الأوجه الثلاثة ، قال : { والنخل بَاسِقَاتٍ } [ ق : 10 ] وذلك حال عنها وهي كالوصف وقال : «نَخْلٍ خَاوِيَةٍ » و«نَخْلٍ مُنْقَعرٍ » فحيث قال : «مُنْقَعِرٍ » كان المختار ذلك ، لأن المنقعر في حقيقة الأمر كالمَفْعُول ؛ لأنه ورد عليه القَعْر ، فهو مَقْعُورٌ ، و«الخَاوِي والباسق » فاعل وإخلاء المفعول من علامة التأنيث أولى ، تقول : امْرَأَةٌ قَتِيلٌ{[54055]} . وأما الباسقاتُ فهي فاعلاتٌ حقيقة ، لأن البُسُوقَ اسم قام بها ، وأما الخاويةُ فهو من باب «حَسَنِ الوَجْهِ » ؛ لأن الخاوي موضعها فكأنه قال : نَخْلٍ خَاوِيَةِ المَوَاضع ، وهذا غاية الإعجاز حيث أتى بلفظ مناسب للألفاظ السابقة واللاحقة من حيث اللفظ{[54056]} .