المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ عِندَ ٱللَّهِ ٱثۡنَا عَشَرَ شَهۡرٗا فِي كِتَٰبِ ٱللَّهِ يَوۡمَ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ مِنۡهَآ أَرۡبَعَةٌ حُرُمٞۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُۚ فَلَا تَظۡلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمۡۚ وَقَٰتِلُواْ ٱلۡمُشۡرِكِينَ كَآفَّةٗ كَمَا يُقَٰتِلُونَكُمۡ كَآفَّةٗۚ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلۡمُتَّقِينَ} (36)

36- إن عدة شهور السنة القمرية اثنا عشر شهراً ، في حكم الله وتقديره ، وفيما بَيَّنه في كتبه منذ بدء العالم . ومن هذه الاثني عشر شهراً أربعة أشهر يحرم القتال فيها ، وهي : رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم . وهذا التحريم للأشهر الأربعة المذكورة هو دين الله المستقيم ، الذي لا تبديل فيه ولا تغيير . فلا تظلموا في هذه الأشهر أنفسكم باستحلال القتال أو امتناعكم عنه إذا أغار عليكم الأعداء فيها ، وقاتلوا - أيها المؤمنون - جماعة المشركين دون استثناء أحد منهم ، كما يقاتلونكم معادين لكم جميعاً ، وكونوا على يقين من أن الله ناصر للذين يخافون ، فيلتزمون أوامره ويجتنبون نواهيه .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ عِندَ ٱللَّهِ ٱثۡنَا عَشَرَ شَهۡرٗا فِي كِتَٰبِ ٱللَّهِ يَوۡمَ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ مِنۡهَآ أَرۡبَعَةٌ حُرُمٞۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُۚ فَلَا تَظۡلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمۡۚ وَقَٰتِلُواْ ٱلۡمُشۡرِكِينَ كَآفَّةٗ كَمَا يُقَٰتِلُونَكُمۡ كَآفَّةٗۚ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلۡمُتَّقِينَ} (36)

قوله تعالى : { إن عدة الشهور } ، أي : عدد الشهور ، { عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله } ، وهي المحرم وصفر وربيع الأول وشهر ربيع الثاني وجمادى الأول وجمادى الآخرة ورجب وشعبان وشهر رمضان وشوال وذو القعدة وذو الحجة .

وقوله تعالى : { في كتاب الله } أي : في حكم الله . وقيل : في اللوح المحفوظ . قرأ أبو جعفر : اثنا عشر ، وتسعة عشر ، وأحد عشر ، بسكون الشين ، وقرأ العامة بفتحها ، { يوم خلق السماوات والأرض } ، والمراد منه : الشهور الهلالية ، وهي الشهور التي يعتد بها المسلمون في صيامهم وحجهم وأعيادهم وسائر أمورهم ، وبالشهور الشمسية تكون السنة ثلاث مائة وخمسة وستين يوما وربع يوم ، والهلالية تنقص عن ثلاث مائة وستين يوما بنقصان الأهلية . والغالب أنها تكون ثلاثمائة وأربعا وخمسين يوما ، { منها أربعة حرم } ، من الشهور أربعة حرم وهي : رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، واحد فرد وثلاثة سرد ، { ذلك الدين القيم } ، أي : الحساب المستقيم . { فلا تظلموا فيهن أنفسكم } ، قيل : قوله { فيهن } ينصرف إلى جميع شهور السنة ، أي : فلا تظلموا فيهن أنفسكم بفعل المعاصي وترك الطاعة . وقيل : { فيهن } أي : في الأشهر الحرم . قال قتادة : العمل الصالح أعظم أجرا في الأشهر الحرم ، والظلم فيهن أعظم من الظلم فيما سواهن ، وإن كان الظلم على كل حال عظيما . وقال ابن عباس : فلا تظلموا فيهن أنفسكم يريد استحلال الحرام والغارة فيهن . قال محمد بن إسحاق بن يسار : لا تجعلوا حلالها حراما ، ولا حرامها حلالا ، كفعل أهل الشرك وهو النسيء . وقوله تعالى : { وقاتلوا المشركين كافة } ، جميعا عامة ، { كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين } ، واختلف العلماء في تحريم القتال في الأشهر الحرم . فقال قوم : كان كبيرا ثم نسخ بقوله : { وقاتلوا المشركين كافة } كأنه يقول فيهن وفي غيرهن . وهو قول قتادة ، وعطاء الخرساني ، والزهري وسفيان الثوري ، وقالوا : إن النبي صلى الله عليه وسلم غزا هوازن بحنين ، وثقيفا بالطائف ، وحاصرهم في شوال وبعض ذي القعدة . وقال آخرون : إنه غير منسوخ : قال ابن جريج : حلف بالله عطاء بن أبي رباح : ما يحل للناس أن يغزوا في الحرم ، ولا في الأشهر الحرم ، إلا أن يقاتلوا فيها وما نسخت .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ عِندَ ٱللَّهِ ٱثۡنَا عَشَرَ شَهۡرٗا فِي كِتَٰبِ ٱللَّهِ يَوۡمَ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ مِنۡهَآ أَرۡبَعَةٌ حُرُمٞۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُۚ فَلَا تَظۡلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمۡۚ وَقَٰتِلُواْ ٱلۡمُشۡرِكِينَ كَآفَّةٗ كَمَا يُقَٰتِلُونَكُمۡ كَآفَّةٗۚ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلۡمُتَّقِينَ} (36)

{ 36 } وقوله : { إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ }

يقول تعالى { إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ } أي : في قضائه وقدره . { اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا } وهي هذه الشهور المعروفة { فِي كِتَابِ اللَّهِ } أي في حكمه القدري ، { يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ } وأجرى ليلها ونهارها ، وقدر أوقاتها فقسمها على هذه الشهور الاثني عشر [ شهرا ] .

{ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ } وهي : رجب الفرد ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، وسميت حرما لزيادة حرمتها ، وتحريم القتال فيها .

{ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } يحتمل أن الضمير يعود إلى الاثنى عشر شهرا ، وأن اللّه تعالى بين أنه جعلها مقادير للعباد ، وأن تعمر بطاعته ، ويشكر اللّه تعالى على مِنَّتِهِ بها ، وتقييضها لمصالح العباد ، فلتحذروا من ظلم أنفسكم فيها .

ويحتمل أن الضمير يعود إلى الأربعة الحرم ، وأن هذا نهي لهم عن الظلم فيها ، خصوصا مع النهي عن الظلم كل وقت ، لزيادة تحريمها ، وكون الظلم فيها أشد منه في غيرها .

ومن ذلك النهي عن القتال فيها ، على قول من قال : إن القتال في الأشهر الحرام{[369]}  لم ينسخ تحريمه عملا بالنصوص العامة في تحريم القتال فيها .

ومنهم من قال : إن تحريم القتال فيها منسوخ ، أخذا بعموم نحو قوله تعالى : { وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً } أي : قاتلوا جميع أنواع المشركين والكافرين برب العالمين .

ولا تخصوا أحدا منهم بالقتال دون أحد ، بل اجعلوهم كلهم لكم أعداء كما كانوا هم معكم كذلك ، قد اتخذوا أهل الإيمان أعداء لهم ، لا يألونهم من الشر شيئا .

ويحتمل أن { كَافَّةً } حال من الواو فيكون معنى هذا : وقاتلوا جميعكم المشركين ، فيكون فيها وجوب النفير على جميع المؤمنين .

وقد نسخت على هذا الاحتمال بقوله : { وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً } الآية . { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } بعونه ونصره وتأييده ، فلتحرصوا على استعمال تقوى اللّه في سركم وعلنكم والقيام بطاعته ، خصوصا عند قتال الكفار ، فإنه في هذه الحال ، ربما ترك المؤمن العمل بالتقوى في معاملة الكفار الأعداء المحاربين .


[369]:- في ب: الحرم.
 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ عِندَ ٱللَّهِ ٱثۡنَا عَشَرَ شَهۡرٗا فِي كِتَٰبِ ٱللَّهِ يَوۡمَ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ مِنۡهَآ أَرۡبَعَةٌ حُرُمٞۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُۚ فَلَا تَظۡلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمۡۚ وَقَٰتِلُواْ ٱلۡمُشۡرِكِينَ كَآفَّةٗ كَمَا يُقَٰتِلُونَكُمۡ كَآفَّةٗۚ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلۡمُتَّقِينَ} (36)

36

( إن عدة الشهور عند اللّه اثنا عشر شهراً في كتاب اللّه يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم . ذلك الدين القيم ) . .

إن هذا النص القرآني يرد معيار الزمن ، وتحديد دورانه إلى طبيعة الكون التي فطره اللّه عليها . وإلى أصل الخلقة . خلقة السماوات والأرض . ويشير إلى أن هناك دورة زمنية ثابتة ، مقسمة إلى اثني عشر شهراً . يستدل على ثباتها بثبات عدة الأشهر ؛ فلا تزيد في دورة وتنقص في دورة . وأن ذلك في كتاب اللّه - أي في ناموسه الذي أقام عليه نظام هذا الكون . فهي ثابتة على نظامها ، لا تتخلف ولا تتعرض للنقص والزيادة . لأنها تتم

وفق قانون ثابت ، هو ذلك الناموس الكوني الذي أراده اللّه يوم خلق السماوات والأرض :

هذه الإشارة إلى ثبات الناموس يقدم بها السياق لتحريم الأشهر الحرم وتحديدها ، ليقول : إن هذا التحديد والتحريم جزء من نواميس اللّه ثابت كثباتها ، لا يجوز تحريفه بالهوى ، ولا يجوز تحريكه تقديماً وتأخيراً ، لأنه يشبه دورة الزمن التي تتم بتقدير ثابت ، وفق ناموس لا يتخلف :

( ذلك الدين القيم ) . .

فهذا الدين مطابق للناموس الأصيل ، الذي تقوم به السماوات والأرض ، منذ أن خلق اللّه السماوات والأرض .

وهكذا يتضمن ذلك النص القصير سلسلة طويلة من المدلولات العجيبة . . يتبع بعضها بعضاً ، ويمهد بعضها لبعض ، ويقوي بعضها بعضاً . ويشتمل على حقائق كونية يحاول العلم الحديث جاهداً أن يصل إليها بطريقته ومحاولاته وتجاربه . ويربط بين نواميس الفطرة في خلق الكون وأصول هذا الدين وفرائضه ، ليقر في الضمائر والأفكار عمق جذوره ، وثبات أسسه ، وقدم أصوله . . كل أولئك في إحدى وعشرين كلمة تبدو في ظاهرها عادية بسيطة قريبة مألوفة .

( ذلك الدين القيم . فلا تظلموا فيهن أنفسكم ) . .

لا تظلموا أنفسكم في هذه الأشهر الحرم التي يتصل تحريمها بناموس كوني تقوم عليه السماوات والأرض . ذلك الناموس هو أن اللّه هو المشرع للناس كما أنه هو المشرع للكون . . لا تظلموا أنفسكم بإحلال حرمتها التي أرادها اللّه لتكون فترة أمان وواحة سلام ؛ فتخالفوا عن إرادة اللّه . وفي هذه المخالفة ظلم للأنفس بتعريضها لعذاب اللّه في الآخرة ، وتعريضها للخوف والقلق في الأرض ، حين تستحيل كلها جحيماً حربية ، لا هدنة فيها ولا سلام .

( وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة ) . .

ذلك في غير الأشهر الحرم ، ما لم يبدأ المشركون بالقتال فيتعين رد الاعتداء في تلك الأشهر ، لأن الكف عن القتال من جانب واحد يضعف القوة الخيرة ، المنوط بها حفظ الحرمات ، ووقف القوة الشريرة المعتدية ؛ ويشيع الفساد في الأرض ؛ والفوضى في النواميس . فرد الاعتداء في هذه الحالة وسيلة لحفظ الأشهر الحرم ، فلا يعتدى عليها ولا تهان .

( وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة ) . .

قاتلوهم جميعاً بلا استثناء أحد منهم ولا جماعة ، فهم يقاتلونكم جميعاً لا يستثنون منكم أحداً ، ولا يبقون منكم على جماعة . والمعركة في حقيقتها إنما هي معركة بين الشرك والتوحيد . وبين الكفر والإيمان وبين الهدى والضلال . معركة بين معسكرين متميزين لا يمكن أن يقوم بينهما سلام دائم ، ولا أن يتم بينهما اتفاق كامل . لأن الخلاف بينهما ليس عرضياً ولا جزئياً . ليس خلافاً على مصالح يمكن التوفيق بينها ، ولا على حدود يمكن أن يعاد تخطيطها . وإن الأمة المسلمة لتخدع عن حقيقة المعركة بينها وبين المشركين - وثنيين وأهل كتاب - إذا هي فهمت أو أفهمت أنها معركة اقتصادية أو معركة قومية ، أو معركة وطنية ، أو معركة استراتيجية . . كلا . إنها قبل كل شيء معركة العقيدة . والمنهج الذي ينبثق من هذه العقيدة . . أي الدين . . وهذه لا تجدي فيها أنصاف الحلول . ولا تعالجها الاتفاقات والمناورات . ولا علاج لها إلا بالجهاد والكفاح الجهاد الشامل والكفاح الكامل . سنة اللّه التي لا تتخلف ، وناموسه الذي تقوم عليه السماوات والأرض ، وتقوم عليه العقائد والأديان ، وتقوم عليه الضمائر والقلوب . في كتاب اللّه يوم خلق اللّه السماوات والأرض .

( واعلموا أن اللّه مع المتقين ) . .

فالنصر للمتقين الذين يتقون أن ينتهكوا حرمات اللّه . وأن يحلوا ما حرم اللّه ، وأن يحرفوا نواميس اللّه . فلا يقعد المسلمون عن جهاد المشركين كافة ، ولا يتخوفوا من الجهاد الشامل . فهو جهاد في سبيل اللّه يقفون فيه عند حدوده وآدابه ؛ ويتوجهون به إلى اللّه يراقبونه في السر والعلانية . فلهم النصر ، لأن اللّه معهم ، ومن كان اللّه معه فهو المنصور بلا جدال .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ عِندَ ٱللَّهِ ٱثۡنَا عَشَرَ شَهۡرٗا فِي كِتَٰبِ ٱللَّهِ يَوۡمَ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ مِنۡهَآ أَرۡبَعَةٌ حُرُمٞۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُۚ فَلَا تَظۡلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمۡۚ وَقَٰتِلُواْ ٱلۡمُشۡرِكِينَ كَآفَّةٗ كَمَا يُقَٰتِلُونَكُمۡ كَآفَّةٗۚ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلۡمُتَّقِينَ} (36)

القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّ عِدّةَ الشّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السّمَاوَات وَالأرْضَ مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدّينُ الْقَيّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفّةً وَاعْلَمُوَاْ أَنّ اللّهَ مَعَ الْمُتّقِينَ } .

يقول تعالى ذكره : إنّ عِدّةَ الشّهُورِ اثْنا عَشَرَ شَهْرا فِي كِتَابِ اللّهِ الذي كتب فيه كلّ ما هو كائن في قضائه الذي قضى ، يَوْمَ خَلَقَ السّمَوَاتِ والأرْضِ مِنْها أرْبَعَةٌ حُرُمٌ يقول : هذه الشهور الاثنا عشر ، منها أربعة أشهر حرم كانت الجاهلية تعظمهن وتحرّمهن وتحرّم القتال فيهنّ ، حتى لو لقي الرجل منهم فيهنّ قاتل أبيه لم يهجه . وهن : رجب مضر وثلاثة متواليات : ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرّم . وبذلك تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

حدثنا موسى بن عبد الرحمن المسروقي ، قال : حدثنا زيد بن الحباب ، قال : حدثنا موسى بن عبيدة الربذي قال : ثني صدقة بن يسار ، عن ابن عمر ، قال : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بمنى في أوسط أيام التشريق ، فقال : «يا أيّها النّاسُ ، إنّ الزّمانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللّهُ السّمَوَاتِ والأرْضَ ، وإنّ عِدّةَ الشّهُورِ عِنْدَ اللّهِ اثُنَا عَشَرَ شَهْرا ، مِنْهَا أرْبَعَةٌ حُرُمٌ ، أوّلَهُنّ رَجَبُ مُضْرَ بينَ جُمادَى وشَعْبَانَ وَذُو القَعْدَةِ وَذُو الحِجّةِ وَالمُحَرّمُ » .

حدثنا محمد بن معمر ، قال : حدثنا روح ، قال : حدثنا أشعث ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّ الزّمانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللّهُ السّمَوَاتِ والأرْضَ ، وإنّ عِدّةَ الشّهُورِ عِنْدَ اللّهِ اثُنَا عَشَرَ شَهْرا في كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَق السّمَوَاتِ والأرْضَ ، مِنْهَا أرْبَعَةٌ حُرُمٌ ، ثَلاَثَةٌ مُتَوَالِياتٌ وَرَجَبُ مُضْرَ بينَ جُمادَى وشَعْبَانَ » .

حدثنا يعقوب ، قال : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، قال : حدثنا أيوب ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي بكرة : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم خطب في حجة الوداع ، فقال : «ألاَ إنّ الزّمانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللّهُ السّمَوَاتِ والأرْضَ ، السّنَةُ اثُنَا عَشَرَ شَهْرا ، مِنْهَا أرْبَعَةٌ حُرُمٌ ، ثَلاَثَةٌ مُتَوَالِياثٌ : ذُو القَعْدَةِ ، وَذُو الحِجّةِ ، وَالمُحَرّمُ ، وَرَجَبُ مُضْرَ الّذِي بينَ جُمادَى وشَعْبَانَ » .

حدثنا مجاهد بن موسى ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سليمان التيمي ، قال : ثني رجل بالبحرين ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته في حجة الوداع : «ألاَ إنّ الزّمانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللّهُ السّمَوَاتِ والأرْضَ ، وإنّ عِدّةَ الشّهُورِ عِنْدَ اللّهِ اثُنَا عَشَرَ شَهْرا ، مِنْهَا ثَلاثَةٌ مُتَوَالِياتٌ : ذُو القَعْدَةِ ، وَذُو الحِجّةِ ، وَالمُحَرّمُ ، وَرَجَبُ الّذِي بينَ جُمادَى وشَعْبَانَ » .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن ابن أبي نجيح ، قوله : إنّ عِدّةَ الشّهُورِ عِنْدَ اللّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْرا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السّمَوَاتِ والأرْضِ مِنْها أرْبَعَةٌ حُرُمٌ إن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : «ثَلاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ : ذُو القَعْدَةِ ، وَذُو الحِجّةِ ، والمُحَرّمُ ، وَرَجَبُ الّذِي بينَ جُمادى وَشَعْبَانَ » .

حدثنا قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم منى : «ألاَ إنّ الزّمانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللّهُ السّمَوَاتِ والأرْضَ ، وإنّ عِدّةَ الشّهُورِ عِنْدَ اللّهِ اثُنَا عَشَرَ شَهْرا ، مِنْهَا أرْبَعَةٌ حُرُمٌ ، ثَلاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو القَعْدَةِ ، وَذُو الحِجّةِ ، وَالمُحَرّمُ ، وَرَجَبُ مُضْرَ الّذِي بينَ جُمادَى وشَعْبَانَ » .

وهو قول عامة أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : إنّ عِدّةَ الشّهُورِ عِنْدَ اللّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْرا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السّمَوَاتِ والأرْضِ مِنْها أرْبَعَةٌ حُرُمٌ أما أربعة حرم : فذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرّم ، ورجب . وأما كتاب الله : فالذي عنده .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : إنّ عِدّةَ الشّهُورِ عِنْدَ اللّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْرا قال : يعرف بها شأن النسيء ما نقص من السنة .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد في قول الله : إنّ عِدّةَ الشّهُورِ عِنْدَ اللّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْرا فِي كِتَابِ اللّهِ قال : يذكر بها شأن النسيء .

وأما قوله : ذَلِكَ الدّينُ القَيّمُ . فإن معناه : هذا الذي أخبرتكم به ، من أن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله ، وأن منها أربعة حرما : هو الدين المستقيم ، كما :

حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : ذَلِكَ الدّينُ القَيّمُ يقول : المستقيم .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال ابن زيد في قوله : ذَلِكَ الدّينُ القَيّمُ قال : الأمر القيم يقول : قال تعالى : واعلموا أيها الناس أن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله الذي كتب فيه كل ما هو كائن ، وأن من هذه الاثني عشر شهرا أربعة أشهر حرما ذلك دين الله المستقيم ، لا ما يفعله النسيء من تحليله ما يحلل من شهور السنة وتحريمه ما يحرمه منها .

وأما قوله : فَلا تَظْلِمُوا فِيهنّ أنفُسَكُمْ فإن معناه : فلا تعصوا الله فيها ، ولا تحلوا فيهنّ ما حرّم الله عليكم ، فتكسبوا أنفسكم ما لا قبل لها به من سخط الله وعقابه . كما :

حدثني يونس ، قال : قال أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنّ أنْفُسَكُمْ قال : الظلم : العمل بمعاصي الله والترك لطاعته .

ثم اختلف أهل التأويل في الذي عادت عليه الهاء والنون في قوله : فيهنّ ، فقال بعضهم : عاد ذلك على الاثني عشر شهرا ، وقال : معناه : فلا تظلموا في الأشهر كلها أنفسكم . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : إنّ عِدّةَ الشّهُورِ عِنْدَ اللّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْرا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السّمَوَاتِ والأرْضِ مِنْها أرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلكَ الدّينُ القَيّمُ فلاَ تَظْلِمُوا فِيهنّ أنْفُسَكُمْ في كلهن . ثم خص من ذلك أربعة أشهر فجعلهن حرما وعظم حرماتهن وجعل الذنب فيهن أعظم والعمل الصالح والأجر أعظم .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا سويد بن عمرو ، عن حماد بن سلمة ، عن عليّ بن زيد ، عن يوسف بن مهران ، عن ابن عباس : فلاَ تَظْلِمُوا فِيهنّ أنْفُسَكُمْ قال : في الشهور كلها .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : فلا تظلموا في الأربعة الأشهر الحرم أنفسكم ، والهاء والنون عائدة على الأشهر الأربعة . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، أما قوله : فلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنّ أنْفُسَكُمْ فإن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزرا من الظلم فيما سواها ، وإن كان الظلم على كل حال عظيما ولكن الله يعظم من أمره ما شاء وقال : إن الله اصطفى صفايا من خلقه اصطفى من الملائكة رسلاً ومن الناس رسلاً ، واصطفى من الكلام ذكره ، واصطفى من الأرض المساجد ، واصطفى من الشهور رمضان والأشهر الحرم ، واصطفى من الأيام يوم الجمعة ، واصطفى من الليالي ليلة القدر ، فعظموا ما عظم الله ، فإنما تعظم الأمور بما عظمها الله عند أهل الفهم وأهل العقل .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : فلا تظلموا في تصييركم حرام الأشهر الأربعة حلالاً وحلاها حراما أنفسكم . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : إنّ عِدّةَ الشّهُورِ عِنْدَ اللّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْرا . . . إلى قوله : فلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنّ أنْفُسَكُمْ : أي لا تجعلوا حرامها حلالاً ، ولا حلالها حراما ، كما فعل أهل الشرك فإنما النسيء الذي كانوا يصنعون من ذلك زيادة في الكفر يضلّ به الذين كفروا . . . الآية .

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن قيس بن مسلم ، عن الحسن : فلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنّ أنْفُسَكُمْ قال : ظلم أنفسكم : أن لا تحرّموهن كحرمتهن .

حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز . قال : حدثنا سفيان ، عن قيس بن مسلم ، عن الحسن بن محمد بن عليّ : فلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنّ أنْفُسَكُمْ قال : ظلم أنفسكم أن لا تحرّموهن كحرمتهن .

حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن قيس بن مسلم ، عن الحسن بن محمد ، بنحوه .

قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب ، قول من قال : فلا تظلموا في الأشهر الأربعة أنفسكم باستحلال حرامها ، فإن الله عظمها وعظّم حرمتها .

وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب في تأويله لقوله : فلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنّ فأخرج الكناية عنه مخرج الكناية عن جمع ما بين الثلاثة إلى العشرة ، وذلك أن العرب تقول فيما بين الثلاثة إلى العشرة إذا كَنَتْ عنه : فعلنا ذلك لثلاث ليال خلون ، ولأربعة أيام بقين ، وإذا أخبرت عما فوق العشرة إلى العشرين ، قالت : فعلنا ذلك لثلاث عشرة خلت ، ولأربع عشرة مضت . فكان في قوله حلّ ثناؤه : فلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنّ أنْفُسَكُمْ وإخراجه كناية عدد الشهور التي نهى المؤمنين عن ظلم أنفسهم فِيهن مخرج عدد الجمع القليل من الثلاثة إلى العشرة الدليل الواضح على أن الهاء والنون من ذكر الأشهر الأربعة دون الاثني العشر لأن ذلك لو كان كناية عن الاثني عشر شهرا لكان : فلا تظلموا فيها أنفسكم .

فإن قال قائل : فما أنكرت أن يكون ذلك كناية عن الاثني عشر ، وإن كان الذي ذكرت هو المعروف في كلام العرب ، فقد علمت أن المعروف من كلامها إخراج كناية ما بين الثلاث إلى العشر بالهاء دون النون ، وقد قال الشاعر :

أصْبَحْنَ فِي قُرْحَ وفي دَارَاتِها *** سَبْعَ لَيالٍ غَيْرَ مَعْلُوفاتِها

ولم يقل : معلوفاتهن ، وذلك كناية عن السبع ؟ قيل : إن ذلك وإن كان جائزا فليس الأصح الأعرف في كلامها ، وتوجيه كلام الله إلى الأفصح الأعرف أولى من توجيهه إلى الأنكر .

فإن قال قائل : فإن كان الأمر على ما وصفت ، فقد يجب أن يكون مباحا لنا ظلم أنفسنا في غيرهنّ من سائر شهور السنة ؟ قيل : ليس ذلك كذلك ، بل ذلك حرام علينا في كل وقت وزمان ، ولكن الله عظم حرمة هؤلاء الأشهر وشرفهن على سائر شهور السنة ، فخصّ الذنب فيهنّ بالتعظيم كما خصهنّ بالتشريف ، وذلك نظير قوله : حافِظُوا على الصّلَوَاتِ والصّلاةِ الوُسْطَى ولا شكّ أن الله قد أمرنا بالمحافظة على الصلوات المفروضات كلها بقوله : حافِظُوا على الصّلَوَاتِ ولم يبح ترك المحافظة عليهن بأمره بالمحافظة على الصلاة الوسطى ، ولكنه تعالى ذكره زادها تعظيما وعلى المحافظة عليها توكيدا وفي تضييعها تشديدا ، فكذلك ذلك في قوله : مِنْها أرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلكَ الدّينُ القَيّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنّ أنْفُسَكُمْ .

وأما قوله : وَقاتِلُوا المُشْرِكينَ كافّةً كمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كافّةً فإنه يقول جلّ ثناؤه : وقاتلوا المشركين بالله أيها المؤمنون جميعا غير مختلفين ، مؤتلفين غير مفترقين ، كما يقاتلكم المشركون جميعا مجتمعين غير متفرقين . كما :

حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : وقَاتِلُوا المُشْرِكِينَ كافّةً كمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كافّةً أما كافة فجميع وأمركم مجتمع .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وقَاتِلُوا المُشْرِكينَ كافّةً يقول : جميعا .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وقَاتِلُوا المُشْرِكِينَ كافّةً : أي جميعا .

والكافّة في كلّ حال على صورة واحدة لا تذكر ولا تجمع ، لأنها وإن كانت بلفظ فاعلة فإنها في معنى المصدر كالعافية والعاقبة ، ولا تدخل العرب فيها الألف واللام لكونها آخر الكلام مع الذي فيها من معنى المصدر ، كما لم يدخلوها إذا قالوا : قاموا معا وقاموا جميعا .

وأما قوله : واعْلَمُوا أنّ اللّهَ مَعَ المُتّقِينَ فإن معناه : واعلموا أيها المؤمنون بالله أنكم إن قاتلتم المشركين كافّة ، واتقيتم الله فأطعتموه فيما أمركم ونهاكم ولم تخالفوا أمره فتعصوه ، كان الله معكم على عدوّكم وعدُوه من المشركين ومن كان الله معه لم يغلبه شيء ، لأن الله مع من اتقاه فخافه وأطاعه فيما كلفه من أمره ونهيه .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ عِندَ ٱللَّهِ ٱثۡنَا عَشَرَ شَهۡرٗا فِي كِتَٰبِ ٱللَّهِ يَوۡمَ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ مِنۡهَآ أَرۡبَعَةٌ حُرُمٞۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُۚ فَلَا تَظۡلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمۡۚ وَقَٰتِلُواْ ٱلۡمُشۡرِكِينَ كَآفَّةٗ كَمَا يُقَٰتِلُونَكُمۡ كَآفَّةٗۚ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلۡمُتَّقِينَ} (36)

{ إن عدة الشهور } أي مبلغ عددها . { عند الله } معمول عدة لأنها مصدر . { اثنا عشر شهرا في كتاب الله } في اللوح المحفوظ ، أو في حكمه وهو صفة لاثني عشر ، وقوله : { يوم خلق السماوات والأرض } متعلق بما فيه من معنى الثبوت أو بالكتاب إن جعل مصدرا والمعنى : أن هذا أمر ثابت في نفس الأمر مذ خلق الله الأجرام والأزمنة . { منها أربعة حُرمٌ } واحد فرد وهو رجب وثلاثة سرد ذو القعدة وذو الحجة والمحرم . { ذلك الدين القيّم } أي تحريم الأشهر الأربعة هو الدين القويم دين إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام والعرب ورثوه منهما . { فلا تظلموا فيهن أنفسكم } بهتك حرمتها وارتكاب حرامها والجمهور على أن حرمة المقاتلة فيها منسوخة ، وأولو الظلم بارتكاب المعاصي فيهن فإنه أعظم وزرا كارتكابها في الحرم وحال الإحرام ، وعن عطاء أنه لا يحل للناس أن يغزوا في الحرم وفي الأشهر الحرم إلا أن يقاتلوا ويؤيد الأول ما روي ( أنه عليه الصلاة والسلام حاصر الطائف وغزا هوازن بحنين في شوال وذي القعدة ) . { وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة } جميعا وهو مصدر كف عن الشيء فإن الجميع مكفوف عن الزيادة وقع موقع الحال . { واعلموا أن الله مع المتقين } بشارة وضمان لهم بالنصرة بسبب تقواهم .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ عِندَ ٱللَّهِ ٱثۡنَا عَشَرَ شَهۡرٗا فِي كِتَٰبِ ٱللَّهِ يَوۡمَ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ مِنۡهَآ أَرۡبَعَةٌ حُرُمٞۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُۚ فَلَا تَظۡلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمۡۚ وَقَٰتِلُواْ ٱلۡمُشۡرِكِينَ كَآفَّةٗ كَمَا يُقَٰتِلُونَكُمۡ كَآفَّةٗۚ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلۡمُتَّقِينَ} (36)

{ إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم }

استئناف ابتدائي لإقامة نظام التوقيت للأمّة على الوجه الحق الصالح لجميع البشر ، والمناسب لما وضع الله عليه نظام العالم الأرضي ، وما يتّصل به من نظام العوالم السماوية ، بوجه محكم لا مدخل لتحكّمات الناس فيه ، وليوضّح تعيين الأشهر الحُرم من قوله : { فإذا انسلخ الأشهر الحرم } [ التوبة : 5 ] بعدما عَقِبَ ذلك من التفاضيل في أحكام الأمن والحرب مع فرق الكفار من المشركين وغيرهم .

والمقصود : ضبط الأشهر الحرم وإبطال مَا أدخله المشركون فيها من النسيء الذي أفسدَ أوقاتها ، وأفضى إلى اختلاطها ، وأزال حُرمة مالَهُ حرمة منها ، وأكسب حرمة لما لا حرمة له منها .

وإن ضبط التوقيت من أصول إقامة نظام الأمة ودفع الفوضى عن أحوالها .

وافتتاح الكلام بحرف التوكيد للاهتمام بمضمونه لتتوجّه أسماع الناس وألبابهم إلى وعْيِهِ .

والمراد بالشهور : الشهور القمرية بقرينة المقام ، لأنّها المعروفة عند العرب وعند أغلب الأمم ، وهي أقدم أشهر التوقيت في البشر وأضبطها لأنّ اختلاف أحوال القمر مساعد على اتّخاذ تلك الأحوال مواقيت للمواعيد والآجال ، وتاريخِ الحوادث الماضية ، بمجرّد المشاهدة ، فإنّ القمر كرة تابعة لنظام الأرض . قال تعالى : { لتعلموا عدد السنين والحساب } [ يونس : 5 ] ولأنّ الاستناد إلى الأحوال السماوية أضبط وأبعد عن الخطأ ، لأنّها لا تتناولها أيدي الناس بالتغيير والتبديل ، وما حدثت الأشهر الشمسية وسَنتها إلاّ بعد ظهور علم الفلك والميقات ، فانتفع الناس بنظام سير الشمس في ضبط الفصول الأربعة ، وجعلوها حساباً لتوقيت الأعمال التي لا يصلح لها إلاّ بعض الفصول ، مثل الحرث والحصاد وأحوال الماشية ، وقد كان الحساب الشمسي معروفاً عند القبط والكلدانيين ، وجاءت التوراة بتعيين الأوقات القمرية للأشهر ، وتعيين الشمسية للأعياد ، ومعلوم أنّ الأعياد في الدرجة الثانية من أحوال البشر لأنّها راجعة إلى التحسين ، فأمّا ضبط الأشهر فيرجع إلى الحاجي . فألْهم الله البشر ، فيما ألهمهم من تأسيس أصول حضارتهم ، أن اتّخذوا نظاماً لتوقيت أعمالهم المحتاجة للتوقيت ، وأن جعلوه مستنداً إلى مشاهَدات بيّنة واضحة لسائر الناس ، لا تنحجب عنهم إلا قليلاً في قليل ، ثمّ لا تلبث أن تلوح لهم واضحة باهرة ، وألهمهم أن اهتدوا إلى ظواهر ممّا خلق الله له نظاماً مطرداً . وذلك كواكب السماء ومنازلها ، كما قال في بيان حكمة ذلك { هو الذي جعل الشمس ضياءً والقمر نوراً وقدّره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلاّ بالحق } [ يونس : 5 ] ، وإن جعلوا توقيتهم اليومي مستنداً إلى ظهور نور الشمس ومغيبه عنهم ، لأنّهم وجدوه على نظام لا يتغيّر ، ولاشتراك الناس في مشاهدة ذلك ، وبذلك تنظم اليومُ والليلة ، وجعلوا توقيتهم الشهري بابتداء ظهور أول أجزاء القمر وهو المسمّى هلالاً إلى انتهاء محاقه فإذا عاد إلى مثل الظهور الأول فذلك ابتداء شَهْر آخر ، وجعلوا مراتب أعداد أجزاء المدّة المسمّاةِ بالشهر مرتّبة بتزايد ضوء النصف المضيء من القمر كلّ ليلة ، وبإعانة منازل ظهور القمر كلّ ليلة حذوَ شكل من النجوم سَمَّوه بالمنازل .

وقد وجدوا ذلك على نظام مطّرد ، ثم ألهمهم فرقبوا المدّة التي عاد فيها الثمَر أو الكلأ الذي ابتدأوا في مثله العَدّ وهي أوقات الفصول الأربعة ، فوجدوها قد احتوت على اثني عشر شهراً فسمّوا تلك المدّة عاماً ، فكانت الأشهر لذلك اثني عشر شهراً ، لأنّ ما زاد على ذلك يعود إلى مثل الوقت الذي ابتدأوا فيه الحساب أوّل مرّة ، ودعوها بأسماء لتمييز بعضها عن بعض دفعاً للغلط ، وجعلوا لابتداء السنين بالحوادث على حسب اشتهارها عندهم ، إن أرادوا ذلك وذلك واسع عليهم ، فلمّا أراد الله أن يجعل للناس عبادات ومواسم وأعياداً دورية تكون مرّة في كلّ سنة ، أمرهم أن يجعلوا العبادة في الوقت المماثل لوقت أختها ففرض على إبراهيم وبَنِيه حجّ البيت كلّ سنة في الشهر الثاني عشر ، وجعل لهم زمناً محترماً بينهم يأمنون فيه على نفوسهم وأموالهم ويستطيعون فيه السفر البعيد وهي الأشهر الحرم ، فلمّا حصل ذلك كله بمجموع تكوين الله تعالى للكواكب ، وإيداعه الإلهام بالتفطّن لحكمتها ، والتمكّن من ضبط مطرد أحوالها ، وتعيينه ما عين من العبادات والأعمال بمواقيتها ، كان ذلك كلّه مراداً عنده فلذلك قال : { إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض } .

فمعنى قوله : { إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً } : أنّها كذلك في النظام الذي وضَع عليه هذه الأرض التي جعلها مقرَّ البشر باعتبار تمايز كلّ واحد فيها عن الآخر ، فإذا تجاوزت الاثني عشر صار ما زاد على الاثني عشر مماثلاً لنظير له في وقت حلوله فاعتبر شيئاً مكرّراً .

و { عند الله } معناه في حكمه وتقديره ، فالعندية مجاز في الاعتبار والاعتداد ، وهو ظرف معمول ل { عدّة } أو حال من { عدّة } و { في كتاب الله } صفة ل { اثنا عشر شهراً } .

ومعنى { في كتاب الله } في تقديره ، وهو التقدير الذي به وُجدت المقدورات ، أعني تعلقّ القدرة بها تعلّقاً تنجيزياً كقوله : { كتابا مؤجلا } [ آل عمران : 145 ] أي قدرا محدّداً ، فكتاب هنا مصدر .

بيان ذلك أنّه لمّا خلق القمر على ذلك النظام أراد من حكمته أن يكون طريقاً لحساب الزمان كما قال : { وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب } [ يونس : 5 ] ولذلك قال هنا { يوم خلق السماوات والأرض } ف { يومَ } ظرف ل { كتاب الله } بمعنى التقدير الخاصّ ، فإنّه لما خلق السماوات والأرض كان ممّا خلَق هذا النظامُ المنتسب بين القمر والأرض .

ولهذا الوجه ذُكرت الأرض مع السماوات دون الاقتصار على السماوات ، لأنّ تلك الظواهر التي للقمر ، وكان بها القمر مجزَّءاً أجزاء ، منذُ كونِه هلالاً ، إلى رُبعه الأول ، إلى البدر ، إلى الربُع الثالث ، إلى المحاق ، وهي مقادير الأسابيع ، إنّما هي مظاهر بحسب سمته من الأرض وانطباع ضوء الشمس على المقدار البادي منه للأرض .

ولأنّ المنازل التي يحلّ فيها بعدد ليالي الشهر هي منازل فرضية بمرأى العين على حسب مسامتته الأرض من ناحية إحدى تلك الكُتل من الكواكب ، التي تبدو للعين مجتمعة ، وهي في نفس الأمر لها أبعاد متفاوتة لا تآلف بينها ولا اجتماع ، ولأنّ طلوع الهلال في مثل الوقت الذي طلع فيه قبلَ أحد عشر طلوعاً من أي وقت ابتُدىءَ منه العد من أوقات الفصول ، إنّما هو باعتبار أحوال أرضية .

فلا جرم كان نظام الأشهر القمرية وسنَتُها حاصلاً من مجموع نظام خلق الأرض وخلق السماوات ، أي الأجرام السماوية وأحوالها في أفلاكها ، ولذلك ذكرت الأرض والسماوات معاً .

وهذه الأشهر معلومة بأسمائها عند العرب ، وقد اصطلحوا على أن جعلوا ابتداء حسابها بعد موسم الحجّ ، فمبدأ السنة عندهم هو ظهور الهلال الذي بعد انتهاء الحجّ وذلك هلال المحرّم ، فلذلك كان أول السنة العربية شهر المحرم بلا شكّ ، ألا ترى قول لبيد :

حتى إذا سَلَخَا جمادَى سِتةً *** جَزْءا فطَال صيامُه وصِيامها

أراد جمادى الثانية فوصفه بستّة لأنّه الشهر السادس من السنة العربية .

وقرأ الجمهور { اثنا عشر } بفتح شين { عشر } وقرأه أبو جعفر { اثنا عْشَرَ } بسكون عين { عشر } مع مدّ ألف اثنا مُشْبَعاً .

والأربعة الحرم هي المعروفة عندهم : ثلاثة منها متوالية لا اختلاف فيها بين العرب وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرّم ، والرابع فرد وهو رجب عند جمهور العرب ، إلاّ ربيعة فهم يجعلون الرابع رمضان ويسمّونه رَجَباً ، وأحسب أنّهم يصفونه بالثاني مثل ربيع وجمادى ، ولا اعتداد بهؤلاء لأنّهم شذّوا كما لم يعتدّ بالقبيلة التي كانت تُحلّ أشهر السنة كلَّها ، وهي قضاعة . وقد بيّن إجمال هذه الآية النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة حجّة الوداع بقوله : { منها أربعة حرم } « ذو القعدة وذو الحجّة والمحرم ورجب مُضر الذي بين جمادى وشعبان »

وتحريم هذه الأشهر الأربعة ممّا شرعه الله لإبراهيم عليه السلام لمصلحة الناس ، وإقامة الحجّ ، كما قال تعالى : { جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس والشهر الحرام } [ المائدة : 97 ] .

واعلم أنّ تفضيل الأوقات والبقاع يشبه تفضيل الناس ، فتفضيل الناس بما يصدر عنهم من الأعمال الصالحة ، والأخلاق الكريمة ، وتفضيل غيرهم ممّا لا إرادة له بما يقارنه من الفضائل ، الواقعة فيه ، أو المقارِنة له . فتفضيل الأوقات والبقاع إنّما يكون بجعل الله تعالى بخبر منه ، أو بإطْلاع على مراده ، لأنّ الله إذا فضلها جعلها مظانّ لتطلّب رضاه ، مثل كونها مظانّ إجابة الدعوات ، أو مضاعفةِ الحسنات ، كما قال تعالى : { ليلة القدر خير من ألف شهر } [ القدر : 3 ] أي من عبادة ألف شهر لمَنْ قبلَنا من الأمم ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم " صَلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلاّ المسجدَ الحَرام " والله العليم بالحكمة التي لأجلها فُضّل زمنٌ على زمَن ، وفُضّل مكانٌ على مكان والأمور المجعولة من الله تعالى هي شؤون وأحوال أرادها الله ، فقدَّرها ، فأشبهت الأمور الكونية ، فلا يُبطلها إلاّ إبطال من الله تعالى ، كما أبطل تقديسَ السبت بالجمعة ، وليس للناس أن يجعلوا تفضيلاً في أوقات دينية : لأنّ الأمور التي يجعلها الناس تشبه المصنوعات اليدوية ، ولا يكون لها اعتبار إلاّ إذا أريدت بها مقاصد صالحة فليس للناس أن يغيّروا ما جعله الله تعالى من الفضل لأزمنةٍ أو أمكنةٍ أو ناس .

{ ذلك الدين القيم } .

الإشارة بقوله : { ذلك } إلى المذكور : من عدّةِ الشهور الاثني عشر ، وعدّة الأشهر الحرم . أي ذلك التقسيم هو الدين الكامل ، وما عداه لا يخلو من أن اعتراه التبديل أو التحكّمُ فيه لاختصاص بعض الناس بمعرفته على تفاوتهم في صحّة المعرفة .

والدين : النظام المنسوب إلى الخالق الذي يُدان الناس به ، أي يعامَلون بقوانينه . وتقدّم عند قوله تعالى : { إن الدين عند الله الإسلام } في سورة آل عمران ( 19 ) ، كما وصف بذلك في قوله تعالى : { فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم } [ الروم : 30 ] .

فكون عدّة الشهور اثني عشر تحقّق بأصل الخلقة لقوله عقبه { في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض } .

وكون أربعةٍ من تلك الأشهر أشهراً حُرُما تحقّق بالجعل التشريعي للإشارة عقبه بقوله : { ذلك الدين القيم } ، فحصل من مجموع ذلك أنّ كون الشهور اثني عشر وأنّ منها أربعة حرماً اعتبر من دين الإسلام وبذلك نسخ ما كان في شريعة التوراة من ضبط مواقيت الأعياد الدينية بالتاريخ الشمسي ، وأبطل ما كان عليه أهل الجاهلية .

وجملة : { ذلك الدين القيم } معترضة بين جملة { إن عدة الشهور } وجملة { فلا تظلموا فيهن أنفسكم } .

{ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ } .

تفريع على { منها أربعة حرم } فإنّها ، لما كانت حرمتها ممّا شرعه الله ، أوجب الله على الناس تعظيم حرمتها بأن يتجنّبوا الأعمال السيئة فيها .

فالضمير المجرور ب { في } عائد إلى الأربعة الحرم : لأنّها أقرب مذكور ، ولأنّه أنسب بسياق التحذير من ارتكاب الظلم فيها ، وإلاّ لكان مجرّد اقتضاب بلا مناسبة ، ولأنّ الكسائي والفرّاء ادّعيا أنّ الاستعمال جرى أن يكون ضمير جمع القلّة من المؤنث مثل هُنّ كما قال هنا { فيهن } إن ضمير جمع الكثرة من المؤنث مثل ( ها ) يعاملان معاملة الواحد كما قال : { منها أربعة حرم } ومعلوم أنّ جموع غير العاقل تعامل معاملة التأنيث ، وقال الكسائي : إنّه من عجائب الاستعمال العربي ولذلك يقولون فيما دون العشر من الليالي « خلون » وفيما فوقها « خَلَت » . وعن ابن عبّاس أنّه فسرّ ضمير فيهنّ بالأشهر الاثني عشر فالمعنى عنده : فلا تظلموا أنفسكم بالمعاصي في جميع السنة يعني أنّ حرمة الدين أعظم من حرمة الأشهر الأربعة في الجاهلية ، وهذا يقتضي عدم التفرقة في ضمائر التأنيث بين { فيها } و { فيهن } وأنّ الاختلاف بينهما في الآيةِ تفنُّن وظلم النفس هو فعل ما نهى الله عنه وتوعّد عليه ، فإنّ فعله إلقاء بالنفس إلى العذاب ، فكان ظلماً للنفس قال تعالى : { ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله } [ النساء : 64 ] الآية وقال : { ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه } [ النساء : 110 ] .

والأنفس تحتمل أنّها أنفس الظالمين في قوله : { فلا تظلموا } أي لا يظلم كلّ واحد نفسه . ووجه تخصيص المعاصي في هذه الأشهر بالنهي : أنّ الله جعلها مواقيت للعبادة ، فإن لم يكن أحد متلبّساً بالعبادة فيها فليكن غير متلبس بالمعاصي ، وليس النهي عن المعاصي فيها بمقتض أنّ المعاصي في غير هذه الأشهر ليست منهياً عنها ، بل المراد أنّ المعصية فيها أعظم وأنّ العمل الصالح فيها أكثر أجراً ، ونظيره قوله تعالى : { ولا فسوق ولا جدال في الحج } [ البقرة : 197 ] فإنّ الفسوق منهي عنه في الحجّ وفي غيره .

ويجوز أن يكون الظلم بمعنى الاعتداء ، ويكون المراد بالأنفس أنفس غير الظالمين ، وإضافتها إلى ضمير المخاطبين للتنبيه على أنّ الأمّة كالنفس من الجسد على حدّ قوله تعالى : { فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم } [ النور : 61 ] ، أي على الناس الذين فيها على أرجح التأويلين في تلك الآية ، وكقوله : { إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم } [ آل عمران : 164 ] والمراد على هذا تأكيد حكم الأمن في هذه الأشهر ، أي لا يعتدي أحد على آخر بالقتال كقوله تعالى : { جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس والشهر الحرام } [ المائدة : 97 ] وإنّما يستقيم هذا المعنى بالنسبة لمعاملة المسلمين مع المشركين فيكون هذا تأكيداً لمنطوق قوله : { فسيحوا في الأرض أربعة أشهر } [ التوبة : 2 ] ولمفهوم قوله : { فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين } [ التوبة : 5 ] وهي مقيّدة بقوله : { فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم } [ التوبة : 7 ] وقوله : { الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } [ البقرة : 194 ] . ولذلك لا يشكل الأمر بمقاتلة الرسول عليه الصلاة والسلام هوازن أياماً من ذي القعدة لأنهم ابتدأوا بقتال المسلمين قبل دخول الأشهر الحرم ، فاستمرّت الحرب إلى أن دخلوا في شهر ذي القعدة ، وما كان ليكفّ القتال عند مشارفة هزيمة المشركين وهم بدأوهم أوّلَ مرّة ، وعلى هذا المحمل يكون حكم هذه الآية قد انتهى بانقراض المشركين من بلاد العرب بعد سنة الوفود .

والمحمل الأول للآية أخذ به الجمهور ، وأخذ بالمحمل الثاني جماعة : فقال ابن المسيّب ، وابن شهاب ، وقتادة ، وعطاء الخراساني حَرَّمت الآية القتالَ في الأشهر الحرم ثم نُسخت بإباحة الجهاد في جميع الأوقات ، فتكون هذه الآية مكمّلة لما بقي من مدّة حرمة الأشهر الحرم ، حتّى يعُمّ جميع بلاد العرب حكمُ الإسلام بإسلام جمهور القبائل وضَربِ الجزية على بعض قبائل العرب وهم النصارى واليهود .

وقال عطاء بن أبي رباح : يحرم الغزو في الأشهر الحرم إلاّ أن يبدأ العدوّ فيها بالقتال ولا نسخ في الآية .

{ وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً كَمَا يقاتلونكم كَآفَّةً واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين } .

أحسب أنّ موقع هذه الآية موقعُ الاحتراس من ظنّ أنّ النهيِ عن انتهاء الأشهر الحرم يَقتضي النهي عن قتال المشركين فيها إذا بدأوا بقتال المسلمين ، وبهذا يؤذن التشبيه التعليلي في قوله : { كما يقاتلونكم كافة } فيكون المعنى فلا تنتهكوا حرمة الأشهر الحرم بالمعاصي ، أو باعتدائكم على أعدائكم ، فإن هم بَادَأوكم بالقتال فقاتلوهم على نحو قوله تعالى : { الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } [ البقرة : 194 ] فمقصود الكلام هو الأمر بقتال المشركين الذين يقاتلون المسلمين في الأشهر الحرم ، وتعليله بأنّهم يستحلون تلك الأشهر في قتالهم المسلمين .

و { كافّة } كلمة تدلّ على العموم والشمول بمنزلة ( كلّ ) لا يختلف لفظها باختلاف المؤكَّد من أفراد وتثنية وجمع ، ولا من تذكير وتأنيث ، وكأنّه مشتق من الكفّ عن استثناء بعض الأفراد ، ومحلّها نصب على الحال من المؤكَّد بها ، فهي في الأول تأكيد لقوله { المشركين } وفي الثاني تأكيد لضمير المخاطبين ، والمقصود من تعميم الذوات تعميم الأحوال لأنّه تبع لعموم الذوات ، أي كلّ فِرق المشركين ، فكلّ فريق وُجد في حالة مَّا ، وكان قد بادأ المسلمين بالقتال ، فالمسلمون مأمورون بقتاله ، فمن ذلك : كلّ فريق يكون كذلك في الأشهر الحُرُم ، وكلّ فريق يكون كذلك في الحَرَم .

والكاف في { كما يقاتلونكم } أصلها كاف التشبيه استعيرت للتعليل بتشبيه الشيء المعلول بعلّته ، لأنه يقع على مثالها ومنه قوله تعالى : { واذكروه كما هداكم } [ البقرة : 198 ] .

وجملة { واعلموا أن الله مع المتقين } تأييد وضمان بالنصر عند قتالهم المشركين ، لأنّ المعية هنا معية تأييد على العمل ، وليست معية عِلم ، إذ لا تختصّ معيّة العلم بالمتّقين .

وابتدئت الجملةُ ب { اعلموا } للاهتمام بمضمونها كما تقدّم في قوله تعالى : { واعلموا أن ما غنمتم من شيء } [ الأنفال : 41 ] الآية ، بحيث يجب أن يعلموه ويَعوه .

والجملة بمنزلة التذييل لما قبلها من أجل ما فيها من العموم في المتّقين ، دون أن يقال واعلموا أنّ الله معكم ليحصل من ذكر الاسم الظاهر معنى العموم ، فيفيد أنّ المتّصفين بالحال المحكية في الكلام السابق معدودون من جملة المتقين ، لئلا يكون ذكر جملة { واعلموا أن الله مع المتقين } غريباً عن السياق ، فيحصل من ذلك كلام مستقلّ يجري مجرى المثل وإيجازٌ يفيد أنّهم حينئذٍ من المتّقين ، وأنّ الله يؤيّدهم لتقواهم ، وأنّ القتال في الأشهر الحرم في تلك الحالة طاعة لله وتقوى ، وأنّ المشركين حينئذٍ هم المعتدون على حرمة الأشهر ، وهم الحاملون على المقابلة بالمثل للدفاع عن النفس .