ثم أقبل قطفير على يوسف فقال : { يوسف } ، أي : يا يوسف ، { أعرض عن هذا } أي : عن هذا الحديث ، فلا تذكره لأحد حتى لا يشيع . وقيل : معناه لا تكترث له فقد بن عذرك وبراءتك . ثم قال لامرأته : { واستغفري لذنبك } ، أي : توبي إلى الله ، { إنك كنت من الخاطئين } . وقيل : إن هذا من قول الشاهد ليوسف ولراعيل . وأراد بقوله : { واستغفري لذنبك } ، أي سلي زوجك أن لا يعاقبك ويصفح عنك { إنك كنت من الخاطئين } من المذنبين ، حتى راودت شابا عن نفسه وخنت زوجك ، فلما استعصم كذبت عليه ، وإنما قال : { من الخاطئين } ولم يقل : من الخاطئات ، لأنه لم يقصد به الخبر عن النساء بل قصد به الخبر عمن يفعل ذلك ، تقديره : من القوم الخاطئين ، كقوله تعالى : { وكانت من القانتين } [ التحريم-12 ] بيانه قوله تعالى : { إنها كانت من قوم كافرين } [ النمل-43 ] .
فأهمله ولا تعره اهتماما ولا تتحدث به . . وهذا هو المهم . . محافظة على الظواهر !
وعظة إلى المرأة التي راودت فتاها عن نفسه ، وضبطت متلبسة بمساورته وتمزيق قميصه :
( واستغفري لذنبك . إنك كنت من الخاطئين ) . .
إنها الطبقة الأرستقراطية ، من رجال الحاشية ، في كل جاهلية . قريب من قريب !
ويسدل الستار على المشهد وما فيه . . وقد صور السياق تلك اللحظة بكل ملابساتها وانفعالاتها ولكن دون أن ينشيء منها معرضا للنزوة الحيوانية الجاهرة ، ولا مستنقعا للوحل الجنسي المقبوح !
القول في تأويل قوله تعالى : { يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هََذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ } .
وهذا فيما ذكر ابن عباس ، خبر من الله تعالى ذكره عن قيل الشاهد : إنه قال للمرأة وليوسف ، يعني بقوله : { يُوسُفُ } : يا يوسف ، { أعْرِضْ عَنْ هَذَا } ، يقول : أعرض عن ذكر ما كان منها إليك فيما راودتك عليه ، فلا تذكره لأحد . كما :
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { يُوسُفُ أعْرِضْ عَنْ هَذَا } ، قال : لا تذكره ، { واسْتَغْفِري } ، أنت زوجك ، يقول : سليه أن لا يعاقبك على ذنبك الذي أذنبت ، وأن يصفح عنه ، فيستره عليك .
{ إنّكِ كُنْتِ مِنَ الخَاطِئينَ } ، يقول : إنك كنت من المذنبين في مراودة يوسف عن نفسه ، يقال منه : خطىء في الخطيئة يخْطَأُ خَطَأً وَخِطْأً ، كما قال جلّ ثناؤه : { إنّهُ كانَ خِطْأً كَبيرا } ، والخطأ في الأمر ، وحكى في الصواب أيضا : الصّوْب ، والصوب ، كما قال : الشاعر :
لَعَمْرُكِ إنّمَا خَطَئِي وَصَوْبِي *** عليّ وإِنّ ما أهْلَكْتُ مالُ
عبادُكَ يُخْطِئُونَ وأنْتَ رَبٌ *** بكَفّيْكَ المَنايا والحُتُومُ
من خَطِىء الرجل . وقيل : { إنّكِ كُنْتِ مِنَ الخَاطِئينَ } ، لم يقل : من الخاطئات ، لأنه لم يقصد بذلك قصد الخبر عن النساء ، وإنما قصد به الخبر عمن يفعل ذلك فيخطىء .
و { يوسف } في قوله : { يوسف أعرض عن هذا } منادى ، قاله ابن عباس ، ناداه الشاهد ، وهو الرجل الذي كان مع العزيز ، و { أعرض عن هذا } معناه : عن الكلام به ، أي اكتمل ولا تتحدث به ؛ ثم رجع إليها فقال : { واستغفري لذنبك } أي استغفري زوجك وسيدك ، وقال : { من الخاطئين } ولم يقل : من الخاطئات لأن الخاطئين أعم ، وهو من : خطىء يخطأ خطئاً وخطأ ، ومنه قول الشاعر [ أوس بن غلفاء ] : [ الوافر ]
لعمرك إنما خطئي وصوبي*** عليّ وإنما أتلفت مالي{[6647]}
وينشد بيت أمية بن أبي الصلت : [ الوافر ]
عبادك يخطئون وأنت رب*** بكفيك المنايا والحتوم{[6648]}
جملة { يوسف أعرض عن هذا } من قول العزيز إذ هو صاحب الحكم .
وجملة { واستغفري لذنبك } عطف على جملة { يوسف أعرض } في كلام العزيز عطف أمر على أمر والمأمور مختلف . وكاف المؤنثة المخاطبة متعين أنه خطاب لامرأة العزيز ، فالعزيز بعد أن خاطبها بأن ما دبّرته هو من كيد النساء وجه الخطاب إلى يوسف عليه السّلام بالنداء ثم أعاد الخطاب إلى المرأة .
وهذا الأسلوب من الخطاب يسمى بالإقبال ، وقد يسمى بالالتفات بالمعنى اللغوي عند الالتفات البلاغي ، وهو عزيز في الكلام البليغ . ومنه قول الجَرمي من طي من شعراء الحماسة :
إخَالكَ مُوعدي ببني جفَيْف *** وهالةَ إنني أنْهَاكِ هَالا
قال المرزوقي في « شرح الحماسة » : والعرب تجمع في الخطاب والإخبار بين عدة ثم تقبل أو تلتفت من بينهم إلى واحد لكونه أكبرهم أو أحسنهم سماعاً وأخصّهم بالحال .