اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{يُوسُفُ أَعۡرِضۡ عَنۡ هَٰذَاۚ وَٱسۡتَغۡفِرِي لِذَنۢبِكِۖ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ ٱلۡخَاطِـِٔينَ} (29)

ولما لطَّخت عرض يوصف بهذا الكلام احتاج يوسف إلى إزالة هذه التهمة فقال : { هي راودتني عن نفسي } واعلم أنَّ العلاماتِ الكثيرة دالةٌ على صدق يوسف :

منها : أنَّ يوسف عليه السلام في ظاهر الأمر كان عبداً لهم ، والعبد لا يمكنه أن يتسلط على مولاه إلى هذه الحدّ .

ومنها : أنَّهم شاهدوا يوسف هارباً ليخرج ، والطالبُ للمرأة لا يخرج من الدَّار على هذا الوجه .

ومنها : أنهم رأوا المرأة زينت نفسها على أكمل الوجوه ، ويوسف لم يكن عليه أثر من آثار تزيين النَّفس .

ومنها : أنَّهم كانوا شاهدوا أحوال يوسف في المُدَّة الطَّويلة ، فما رأوا عليه حالة تناسب إقدامه على مثل هذا الفعل المنكر .

ومنها : أنَّ المرأة ما نسبته إلى طلب الفاحشة على سبيل التصريح ، بل ذكرت كلاماً مجملاً ، وأما يوسف فإنَّه صرَّح بالأمر ، ولو كان مطاوعاً لها ، ما قدر على التَّصريح ، فإنَّ الخائنَ خائفٌ .

وكلُّ هذه الوجوه مما يقوِّي غلبة الظن ببراءة يوسف في هذه المسألة ، ثم إنَّه تعالى أظهر ليوسف دليلاً يقوي تلك الدَّلائل على براءته من الذَّنب ، وأن المرأة هي المذنبة وهو قوله تعالى : { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ } فقوله : " مِنْ أهْلِهَا " صفة ل : " شَاهِدٌ " ، وهو المسوغ لمجيء الفاعل من لفظ الفعل ، إذْ لا يجوزُ قام القائم ، ولا : قعد القاعدُ ، لعدم الفائدةِ .

واختلفوا في ذلك الشَّاهد على ثلاثةِ أقوالٍ :

الأول : أنه كان ابن عمَّها ، وكان رجلاً حكيماً ، واتَّفق في ذلك الوقت أنَّهُ كان ممع زوجها ، يريد أن يدخل عليها ، وفقال الحكيمُ : { إنْ كَانَ قَميصهُ قُدَّ مِنْ قُبلِ } ، فأت صادقة ، والرَّجلُ كاذبٌ ، { وإنْ كانَ قَمِيصهُ قُدَّ مِنْ دُبرٍ } ، فالرَّجلُ صادقٌ ، وأنت كاذبة فلما نظرُوا إلى القميصِ رأوا الشقَّ من خلفه ، قال ابن عمِّها : { إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ } [ اي : من عَملكن ] ثم قال ليوسف : " أعْرِضْ عَنْ هَذَا " أي اكتمهُ ، وقال لها : { واستغفري لِذَنبِكِ } ، وهذا قولُ السدي ، وطائفة من المفسرين .

قال السُّهيلي : وهذا من باب الحكم بالأمارات ، وله أصلٌ في الشَّرعِ ، قال تعالى : { وَجَآءُوا على قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ } [ يوسف : 18 ] حيثُ لا أثر لأنياب الذئب فيه ، وقال تعالى : { إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ } وقال عليه الصلاة والسلام في الحدّ : " انْظرُوا فإنْ جَاءَتْ بِهِ أبْيضَ خَالياً فَهُو للَّذي رُمِيَتْ بِهِ " .

قال السهيلي : كان عامر بن الظرف العدوانيُّ لا يكون بين العرب ثائر إلا تحاكموا إليه فيرضون بما يقضي به ، فتحاكموا إليه في ميراث خنثى بات ليلة ساهراً يرى ماذا يحم به ؟ فرأته جارية له ترعى ، وكان اسمها سخيلة ، فقالت له : ما لك ، لا أبا لك اللَّيلة ساهِراً ؛ فذكر لها ما هو مفكر فيه ، وقال : لعلها يكون عندها في ذلك شيء ، فقالت له : " اتْبَع القضاء المَبال " فقال : فرجتها والله يا سخيلة ، وحكم بذلك القول .

القول الثاني : منقولٌ عن ابن عبَّاسٍ ، وسعيد بن جبيرٍ ، والضحاك رضي الله عنهم أن ذلك الشَّاهد كان صبيًّا في المهد ، أنطقه اللهُ .

قال ابن عبًّاس رضي الله عنه : تكلَّم في المهدِ ثلاثةُ صغارٍ : شاهدُ يوسف ، وعيسى ابن مريم عليه السلام ، وصاحبُ جريج الرَّاهب .

قال الجبائيُّ : القول الأول أولى لوجوه :

الأول : أنَّه سبحانه وتعالى لو أنطق الطفل بهذا الكلام ، لكان مجرد قوله : " إنَّها كَاذبةٌ " كافياً ، وبرهاناً قاطعاً ؛ لأنَّه من المعجزات العجيبة الباهرة والاستدلال بتمزيق القميص من قُبُل ومن دُبُرٍ دليل ظنيّ ضعيف ، والعدول عن الحجَّة الواضحة القاطعة حال حصولها إلى الدلالة الظَّنية لا يجوزُ .

الثاني : أنه تبارك وتعالى قال : { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ } يشيرُ بذلك إلى أنَّ شهادة الشَّاهد على قريبه ، أولى بالقبولِ من شهادته له ؛ لأن الظاهر من حال القريب أن يشهد لقريبه ، لا أن يشهد عليه ، وهذا التَّرجيحُ إنما يُصَارُ إليه إذا كانت دلالة الشَّهادة ظنية ، وذلك إنَّما يكون في شهادة الرجل ، ولو يكون هذا القول صادراً من الصَّبي الذي كان في المهد ، لكان قوله حجَّة قاطعة ، ولا يتفاوتُ الحال بين أن يكون من أهلها ، وبين ألا يكون ، وحينئذٍ لا يبقى لهذا القيد وجه .

الثالث : أن لفظ الشَّاهد لا يقعُ في العرف ، إلا على من تقدَّمت معرفته بالواقعة ، وإحاطته بها .

القول الثالث : أن هذا الشاهد هو القميص ، قال مجاهد رضي الله عنه الشاهد : " قُدَّ قيمصه من دُبُر " ، وهذا في غاية الضعف ؛ لأن القميص لا يوصف بهذا ولا ينسب إلى الأهل .

واعلم أنَّ القول الأول عليه إشكال ، وذلك أنَّ العلامة المذكورة لا تدلُّ قطعاً على براءة يوسف من المعصية ؛ لأن من المحتملِ أنَّ الرجل قصد المرأة لطلب الزِّنا ، والمرأة غضبت عليه ، فهرب الرجل ، فعدتِ المرأةُ خلف الرجل ، وجذبته لقصد أن تضربه ضرباً وجيعاً ، فعلى هذا الوجه يكون قدُّ القميص من دبرٍ ، مع أنَّ المرأة تكون بريئة عن [ الذنب ] وأنَّ الرجل يكون مذنباً .

جوابه : أنَّا بيَّنا أنَّ علامات كذب المرأة كانت كثيرة بالغة مبلغ اليقين ، فضمّ إليها هذه العلامة الأخرى ، لا لأجل أن يُعوِّلُوا في الحكم عليها ، بل لأجل أن يكون ذلك جارياً مجرى المقدمات ، والمرجّحات .

قوله : " إنْ كَانَ . . . " هذه الجملة الشرطية ، إما معمولةٌ لقولٍ مضمر تقديره : " فقال " إن كان عند البصريين ، وإمَّا معمولة " لِشَهدِ " ؛ لأنه بمعنى القول عند الكوفيين . قوله " مِنْ دُبرٍ . . " ، و " مِنْ قُبُلٍ . . . " قرأ العامَّة جميع ذلك بضمتين ، والجر والتنوين ، بمعنى : من خلف ، من قدام ، أي : من خلف القميص ، وقدامه وقرأ الحسن ، وأبو عمرو في رواية بتسكين لعين تخفيفاً ، وهي لغة الحجاز ، وأسد ، وقرأ ابن يعمر ، وابن أبي إسحاق [ والعطاردي والجارود بثلاث ضمات ، وروي عن الجارود وابن أبي إسحاق وبن يعمر ] أيضاً بسكون العين وبنائها على الضم ووجه ضمهما : أنَّهم جعلوهما ك " قَبلُ ، وبعْدُ " في بنائها على الضم عند قطعهما عن الإضافة ، فجعلوهما غاية ، ومعنى الغاية : أن يجعل المضاف غاية نفسه ، بعد ما كان المضاف إليه غايته ، والأصل إعرابهما ؛ لأنَّهما اسمان متمكنان ، وليسا بظرفين .

قال أبو حاتم : وهذا رديءٌ في العربية ، وإنما هذا البناء في الظروف .

وقال الزمخشري : " والمعنى : من قبل القميص ، ومن دُبرهِ ، وأما التنكيرُ فمعناه : من جهةٍ يقال لها قبلٌ ، ومن جهة يقال لها دبرٌ " وعن ابن أبي إسحاق : أنَّهُ قرأ " مِنْ قُبْلَ " ، و " مِنْ دُبْرَ " بالفتح كأنَّه جعلهما علمين للجهتين ، فمنعهما الصرف للعملية ، والتَّأنيث ، وقد تقدم [ البقرة : 235 ] الخلاف في " كان " الواقعة في حيز الشرط ، هل تبقى على معناها من المضي ، وإليه ذهب المبرِّدُ ، أم تنقلب إلى الاستقبال كسائر الأفعالِ ، وأنَّ المعنى على التَّبيينِ ؟ .

قوله : " فَكذَبَتْ " ، و " صَدقَتْ " على إضمار " قَدْ " ، لأنها تقرب الماضي من الحالِ ، هذا إذا كان الماضي متصرِّفاص ، فأما إذا كان جامداً ، فلا يحتاجُ إلى " قَدْ " لا لفظاً ، ولا تقديراً .

قوله : { فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ } : أي : فلمَّا رأى زوجها قميصه قُدّ من دُبُرٍ ؛ عرف خيانة امرأته ، وبراءة يوسف صلوات الله وسلامه عليه قال لها : " إنَّهُ " ، هذا الصَّنِيعُ ، أو قولك { ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً } { مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ } وقيل : هذا من قول الشاهد .

فإن قيل : إنه تعالى قال : { وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً } [ الإنسان : 28 ] فكيف وصف كيد المرأة بالعظيم ، وأيضاً : فيكدُ الرِّجال قد يزيدُ على كيد النِّساءِ ؟ .

فالجواب عن الأوَّل : أن خلقة الإنسان بالنِّسبة إلى خلقة الملائكة ، والسموات ، والكواكب خلقة ضعيفة ، وكيد النسوان بالنسبة إلى كيد البشر عظيمٌ ؛ ولا منافاة بين القولين ، وأيضاً : فالنِّساءُ لهُنَّ من هذا الباب من المكرِ ، والحِيل ، ما لا يكون للرجال ؛ لأنَّ كيدهنَّ في هذا الباب ، يورث من العار ما لا يورثه كيدُ الرَّجال .

ولما ظهر للقوم براءةٌ يوسف عن ذلك الفعل قال زوجها ليوسف : " أعْرِضٍ عَنْ هَذَا " الحديث ، فلا تذكرة لأحدٍ حتى لا ينتشر ، ولا يحصلُ العارُ العظيم وقيل : إنَّهُ من قول الشَّاهد . ثم قال للمرأة [ " واستغفري لِذنبكِ " إي : إلى الله { إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الخاطئين } وقيل هذا من قول الشاهد ] " واسْتَغفِري " ، أي : اطلبي من زوجك المغفرة ، والصَّفح ؛ حتَّى لا يعاقبك .

قال أبو بكرٍ الأصمُّ : إنَّ ذلك الزوج كان قليل الغيرةِ ، فاكتفى منها بالاستغفار وقيل : إنَّ الله تعالى عزَّ وجلَّ سلبه الغيرة لطفاً بيوسف ، حتى كفى بادرته وحلم عنها .

قال الزمخشري : " وإنما قال : { مِنَ الخاطئين } ؛ تغليباً للذكور على الإناث " ويحتملُ أن يقال : إنك من قبيل الخاطئين ، فمن ذلك القبيل جرى ذلك العرفُ فيك .

قال البغوي رحمه الله : تقديره : إنَّك من القوم الخاطئين ، ولم يقصد به الخبر عن النِّساء ؛ بل قصد الخبر عن كُلِّ من يعفعلُ ذلك ؛ كقوله تعالى : { وَكَانَتْ مِنَ القانتين } [ التحريم : 12 ] ، وبيانه قوله : { إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ } [ النمل : 43 ] .

قوله تعالى : " يُوسُفُ " ، منادى محذوفٌ منه حرفُ النداءِ . قال الزمشخريُّ : " لأنه منادى قريب مقاطن للحديث ، وفيه تقريبٌ له ، وتلطيفٌ بمحله " انتهى .

وكُلُّ منادي يجوز حذف حرفُ النِّداء منه ، إلا الجلالة المعظمة ، واسم الجنس غالباً ، والمستغاثَ ، والمندوب ، واسم الإشارة عند البصريين ، وفي المضمر إذا نودِيَ .

والجمهورُ على ضمِّ فاءِ يوسف عليه الصلاة والسلام ؛ لكونه مفرداً معرفةً ، وقرأ الأعمش بفتحها ، وقيل لم تثبت هذه القراءة عنه ، وعلى تقدير ثبوتها ، فقال أبو البقاء : فيها وجهان :

أحدهما : أن يكون أخرجه على أصل المنادى ؛ كما جاء في الشِّعر : [ الخفيف ]

3078 . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** يَا عَدِيًّا لقَدْ وقَتْكَ الأوَاقِي

يريد بأصلِ المنادى : أنه مفعولٌ به ، فحقه النصب ؛ كالبيت الذي أنشده ، واتفق أن يوسف لا ينصرف ، ففتحته فتحةُ إعرابٍ .

والثاني ، وجعله الأشبه : أن يكون وقف على الكلمة ، ثم وصل ، وأجرى الوصل مجرى الوقف ؛ فألقى حركة الهمزة على الفاء ، وحذفها ؛ فصار اللفظ بها : " يُوسفَ أعْرض " ؛ وهذا كما حي : " اللهُ أكبرَ ، أشْهَدَ ألاّ " ، بالوصلِ والفتح في الجلالةِ وفي " أكْبر " ، وفي أشْهد " ؛ وذلك أنه قدَّر الوقف على كل كلمة من هذا الكلم ، وألقى حركة الهمزة [ من ] كل من الكلمِ الثَّلاث ، على السَّاكن قبله ، وأجرى الوصل مجرى الوقف في ذلك .

والذي حكوه الناسُ ، إنَّما هو في " أكْبَر " خاصَّة ؛ لأنَّها مظنة الوقف ، و تقدم ذلك في سورة آل عمران [ الآية : 1 ] .

ورىء " يُوسفُ أعْرضَ " بضمِّ الفاءِ ، و " أعْرضَ " فعلاً ماضياً ، وتخريجها أن يكون " يُوسفُ " مبتدأ ، و " أعْرضَ " جلمة من فعلٍ وفاعلٍ خبره .

قال أبو البقاءِ : " وفيه ضعفٌ ؛ لقوله : " واسْتَغْفرِي " ، وكان الأشبه أن يكون بالفاء : " فاسْتَغفِري " .