قوله عز وجل : { لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله } قيل : لو جعل في الجبل تمييز وأنزل عليه القرآن لخشع وتشقق وتصدع من خشية الله مع صلابته ورزانته ، حذراً من أن لا يؤدي حق الله عز وجل في تعظيم القرآن ، والكافر يعرض عما فيه من العبر كأن لم يسمعها ، يصفه بقساوة القلب . { وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون } .
ولما بين تعالى لعباده ما بين ، وأمرهم{[1046]} ونهاهم في كتابه العزيز ، كان هذا موجبا لأن يبادروا إلى ما دعاهم إليه وحثهم عليه ، ولو كانوا في القسوة وصلابة القلوب كالجبال الرواسي ، فإن هذا القرآن لو أنزله على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله أي : لكمال تأثيره في القلوب ، فإن مواعظ القرآن أعظم المواعظ على الإطلاق ، وأوامره ونواهيه محتوية على الحكم والمصالح المقرونة بها ، وهي من أسهل شيء على النفوس ، وأيسرها على الأبدان ، خالية من التكلف{[1047]} لا تناقض فيها ولا اختلاف ، ولا صعوبة فيها ولا اعتساف ، تصلح لكل زمان ومكان ، وتليق لكل أحد .
ثم أخبر تعالى أنه يضرب للناس الأمثال ، ويوضح لعباده في كتابه الحلال والحرام ، لأجل أن يتفكروا في آياته ويتدبروها ، فإن التفكر فيها يفتح للعبد خزائن العلم ، ويبين له طرق الخير والشر ، ويحثه على مكارم الأخلاق ، ومحاسن الشيم ، ويزجره عن مساوئ الأخلاق ، فلا أنفع للعبد من التفكر في القرآن والتدبر لمعانيه .
ثم يجيء الإيقاع الذي يتخلل القلب ويهزه ؛ وهو يعرض أثر القرآن في الصخر الجامد لو تنزل عليه : ( لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله . وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون ) .
وهي صورة تمثل حقيقة . فإن لهذا القرآن لثقلا وسلطانا وأثرا مزلزلا لا يثبت له شيء يتلقاه بحقيقته . ولقد وجد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ما وجد ، عندما سمع قارئا يقرأ : والطور ، وكتاب مسطور ، في رق منشور ، والبيت المعمور ، والسقف المرفوع ، والبحر المسجور ، إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع . . . فارتكن إلى الجدار . ثم عاد إلى بيته يعوده الناس شهرا مما ألم به !
واللحظات التي يكون فيها الكيان الإنساني متفتحا لتلقي شيء من حقيقة القرآن يهتز فيها اهتزازا ويرتجف ارتجافا . ويقع فيه من التغيرات والتحولات ما يمثله في عالم المادة فعل المغنطيس والكهرباء بالأجسام . أو أشد .
والله خالق الجبال ومنزل القرآن يقول : ( لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله ) . . والذين أحسوا شيئا من مس القرآن في كيانهم يتذوقون هذه الحقيقة تذوقا لا يعبر عنه إلا هذا النص القرآني المشع الموحي .
القول في تأويل قوله تعالى : { لَوْ أَنزَلْنَا هََذَا الْقُرْآنَ عَلَىَ جَبَلٍ لّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مّتَصَدّعاً مّنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنّاسِ لَعَلّهُمْ يَتَفَكّرُونَ } .
وقوله : لَوْ أنْزَلْنا هَذَا القُرآنَ عَلَى جَبَل لرأيْتَهُ خاشِعا مُتَصَدّعا مِن خَشْيَةِ اللّهِ يقول جلّ ثناؤه : { لو أنزلنا هذا القرآن على جبل } ، وهو حجر ، لرأيته يا محمد خاشعا يقول : متذللاً ، متصدعا من خشية الله على قساوته ، حذرا من أن لا يؤدّي حقّ الله المفترض عليه في تعظيم القرآن ، وقد أنزل على ابن آدم وهو بحقه مستخفٌ ، وعنه ، عما فيه من العِبَر والذكر ، مُعْرض ، كأن لم يسمعها ، كأن في أذنيه وَقْرا . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : { لَوْ أنْزَلْنا هَذَا القُرآنَ عَلَى جَبَلٍ لرأيْتَهُ خاشِعا مُتَصَدّعا مِن خَشْيَةِ اللّهِ . . . إلى قوله : لَعَلّهُمْ يَتَفَكّرُونَ }قال : يقول : لو أني أنزلت هذا القرآن على جبل حملته إياه تصدع وخشع من ثقله ومن خشية الله ، فأمر الله عز وجل الناس إذا نزل عليهم القرآن ، أن يأخذوه بالخشية الشديدة والتخشع ، قال : { كذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأمْثَال للنّاسِ لَعَلّهُمْ يَتَفَكّرُونَ } .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { لَوْ أنْزَلْنا هَذَا القُرآنَ عَلَى جَبَل لرأيْتَهُ خاشِعا مُتَصَدّعا مِن خَشْيَةِ اللّهِ . . . }الآية ، يعذر الله الجبل الأصمّ ، ولم يعذر شقيّ ابن آدم ، هل رأيتم أحدا قطّ تصدّعت جوانحه من خشية الله ؟ .
{ وَتِلكَ الأمْثالُ نَضْرُبها للنّاسِ }يقول تعالى ذكره : وهذه الأشياء نشبهها للناس ، وذلك تعريفه جلّ ثناؤه إياهم أن الجبال أشدّ تعظيما لحقه منهم مع قساوتها وصلابتها .
وقوله : { لَعَلّهُمْ يَتَفَكّرُونَ }يقول : يضرب الله لهم هذه الأمثال ليتفكروا فيها ، فينيبوا ، وينقادوا للحق .
{ لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله }تمثيل وتخييل كما مر في قوله إنا عرضنا الأمانة ولذلك عقبه بقوله :{ وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون } فإن الإشارة إليه وإلى أمثاله والمراد توبيخ الإنسان على عدم تخشعه عند تلاوة القرآن لقساوة قلبه وقلة تدبره والتصدع التشقق وقرىء مصدعا على الإدغام .
وقوله تعالى : { لو أنزلنا هذا القرآن } الآية ، موعظة للإنسان أو ذم لأخلاقه في غفلته وإعراضه عن داعي الله تعالى ، وذلك أن القرآن نزل عليهم وفهموه وأعرضوا عنه ، وهو لو نزل على جبل وفهم الجبل منه ما فهم الإنسان لخشع واستكان وتصدع خشية لله تعالى ، وإذا كان الجبل على عظمه وقوته يفعل هذا فما عسى أن يحتاج ابن آدم يفعل ؟ لكنه يعرض ويصد على حقارته وضعفه ، وضرب الله تعالى هذا المثل ليتفكر فيه العاقل ويخشع ويلين قلبه ، وقرأ طلحة بن مصرف «مصدعاً » على إدغام التاء في الصاد .