قوله تعالى : { قالت } ، يعني : راعيل ، { فذلكن الذي لمتنني فيه } ، أي : في حبه ، ثم صرحت بما فعلت ، فقالت : { ولقد راودته عن نفسه فاستعصم } ، أي : فامتنع ، وإنما صرحت به لأنها علمت أنه لا ملامة عليها منهم وقد أصابهن ما أصابها من رؤيته ، فقلن له : أطع مولاتك . فقالت راعيل : { ولئن لم يفعل ما آمره } ، ولئن لم يطاوعني فيما دعوته إليه ، { ليسجنن } ، أي : ليعاقبن بالحبس ، { وليكونا من الصاغرين } ، من الأذلاء . ونون التوكيد تثقل وتخفف ، والوقف على قوله : { ليسجنن } بالنون لأنها مشددة ، وعلى قوله { وليكونا } بالألف لأنها مخففة ، وهي شبيهة بنون الإعراب في الأسماء ، كقوله تعالى : رأيت رجلا ، وإذا وقفت ، قلت : رأيت رجلان بالألف ، ومثله : { لنسفعا بالناصية * ناصية } [ العلق-15 ، 16 ] . فاختار يوسف عليه السلام السجن على المعصية حين توعدته المرأة .
فلما تقرر عندهن جمال يوسف الظاهر ، وأعجبهن غاية ، وظهر منهن من العذر لامرأة العزيز ، شيء كثير - أرادت أن تريهن جماله الباطن بالعفة التامة فقالت معلنة لذلك ومبينة لحبه الشديد غير مبالية ، ولأن اللوم انقطع عنها من النسوة : { وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ } أي : امتنع وهي مقيمة على مراودته ، لم تزدها مرور الأوقات إلا قلقا ومحبة وشوقا لوصاله وتوقا .
ولهذا قالت له بحضرتهن : { وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَ مِنَ الصَّاغِرِينَ } لتلجئه بهذا الوعيد إلى حصول مقصودها منه ، فعند ذلك اعتصم يوسف بربه ، واستعان به على كيدهن
ورأت المرأة أنها انتصرت على نساء طبقتها ، وأنهن لقين من طلعة يوسف الدهش والإعجاب والذهول . فقالت قولة المرأة المنتصرة ، التي لا تستحي أمام النساء من بنات جنسها وطبقتها ؛ والتي تفخر عليهن بأن هذا في متناول يدها ؛ وإن كان قد استعصى قياده مرة فهي تملك هذا القياد مرة أخرى :
فانظرن ماذا لقيتن منه من البهر والدهش والإعجاب !
( ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ) . .
ولقد بهرني مثلكن فراودته عن نفسه فطلب الاعتصام - تريد أن تقول : إنه عانى في الاعتصام والتحرز من دعوتها وفتنتها ! - ثم تظهر سيطرتها عليه أمامهن في تبجح المرأة من ذلك الوسط ، لا ترى بأسا من الجهر بنزواتها الأنثوية جاهرة مكشوفة في معرض النساء :
ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين !
فهو الإصرار والتبجح والتهديد والإغراء الجديد في ظل التهديد .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَتْ فَذَلِكُنّ الّذِي لُمْتُنّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتّهُ عَن نّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لّمْ يَفْعَلْ مَآ آمُرُهُ لَيُسْجَنَنّ وَلَيَكُوناً مّن الصّاغِرِينَ } .
يقول تعالى ذكره : قالت امرأة العزيز للنسوة اللاتي قطعن أيديهن ، فهذا الذي أصابكن في رؤيتكن إياه وفي نظرة منكن نظرتن إليه ما أصابكن من ذهاب العقل وغروب الفهم ولها إليه حتى قطعتنّ أيديكنّ ، هو الذي لمتنني في حبي إياه وشغف فؤادي به ، فقلتنّ : قد شغف امرأة العزيز فتاها حبّا { إنا لنراها في ضلال مبين } . ثم أقرّت لهنّ بأنها قد راودته عن نفسه ، وأن الذي تحدثن به عنها في أمره حقّ ، فقالت : { وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فاسْتَعْصَمَ } ، مما راودته عليه من ذلك . كما :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو بن محمد ، عن أسباط ، عن السديّ ، قالت : { فَذَلِكُنّ الّذِي لُمْتُنّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فاسْتَعْصَمَ } ، تقول : بعد ما حلّ السراويل استعصى ، لا أدري ما بدا له .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { فاسْتَعْصَمَ } ، أي : فاستعصى .
حدثني عليّ بن داود ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : { فاسْتَعْصَمَ } ، يقول : فامتنع .
وقوله : { لَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَننّ وَلَيَكُونا مِنَ الصّاغِرِينَ } ، تقول : ولئن لم يطاوعني على ما أدعوه إليه من حاجتي إليه { ليسجننّ } ، تقول : ليحبسنّ في السجن ، وليكونا من أهل الصغار والذلة بالحبس والسجن ، ولأهيننه . والوقف على قوله : { ليسجننّ } ، بالنون لأنها مشددة ، كما قيل : { لَيُبَطّئَنّ } .
وأما قوله : { وَلَيَكُونا } ، فإن الوقف عليه بالألف ، لأنها النون الخفيفة ، وهي شبيهة نون الإعراب في الأسماء ، في قول القائل : رأيت رجلاً عندك ، فإذا وقف على الرجل قيل : رأيت رجلاً ، فصارت النون ألفا ، فكذلك ذلك في : { وليكونا } ، ومثله قوله : { لَنَسْفَعا بالنّاصِيَةِ ناصِيَةٍ } ، الوقف عليه بالألف لما ذكرت ، ومنه قول الأعشى :
وَصَلّ على حِينِ العَشِيّاتِ وَالضّحَى *** وَلا تعْبُدِ الشّيْطانَ وَاللّهَ فاعْبُدَا
{ قالت فذلكُنّ الذي لُمتنّني فيه } أي فهو ذلك العبد الكنعاني الذي لمتنني في الافتنان به قبل أن تتصورنه حق تصوره ، ولو تصورتنه بما عاينتن لعذرتنني أو فهذا هو الذي لمتنني فيه فوضع ذلك موضع هذا رفعا لمنزلة المشار إليه . { ولقد راودته عن نفسه فاستعصم } فامتنع طلبا للعصمة ، أقرت لهن حين عرفت أنهن يعذرنها كي يعاونها على إلانه عريكته . { ولئن لم يفعل ما آمره } أي ما آمر به ، فحذف الجار أو أمري إياه بمعنى موجب أمري فيكون الضمير ليوسف . { ليُسجننّ وليكونا من الصاغرين } من الأذلاء وهو من صغر بالكسر يصغر صغرا وصغارا والصغير من صغر بالضم صغرا . وقرئ " ليكونن " وهو يخالف خط المصحف لأن النون كتبت فيه بالألف ك " نسفعاً " على حكم الوقف وذلك في الخفيفة لشبهها بالتنوين .