خلق السماوات والأرض متصفا دائماً بالحق والصواب على ناموس ثابت ، يلف الليل على النهار ويلف النهار على الليل على صورة الكرة ، وذلل الشمس والقمر لإرادته ومصلحة عباده ، كل منهما يسير في فلكه إلى وقت محدد عنده ، وهو يوم القيامة ، ألا هو - دون غيره - الغالب على كل شيء ، فلا يخرج شيء عن إرادته ، الذي بلغ الغاية في الصفح عن المذنبين من عباده .
قوله تعالى : { خلق السماوات والأرض بالحق يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل } قال قتادة : يغشي هذا هذا ، كما قال :{ يغشي الليل النهار } ( الأعراف-54 ) ، وقيل : يدخل أحدهما على الآخر ، كما قال { يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل } ( الحج-61 ) وقال الحسن ، والكلبي : ينقص من الليل ، فيزيد في النهار ، وينقص من النهار فيزيد في الليل ، فما نقص من الليل دخل في النهار ، وما نقص من النهار دخل في الليل ، ومنتهى النقصان تسع ساعات ، ومنتهى الزيادة خمس عشرة ساعة ، وأصل التكوير اللف والجمع ، ومنه كور العمامة . { وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمىً ألا هو العزيز الغفار } .
{ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ } : يخبر تعالى أنه { خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ } أي : بالحكمة والمصلحة ، وليأمر العباد وينهاهم ، ويثيبهم ويعاقبهم .
{ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ } أي : يدخل كلا منهما على الآخر ، ويحله محله ، فلا يجتمع هذا وهذا ، بل إذا أتى أحدهما انعزل الآخر عن سلطانه .
{ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ } بتسخير منظم ، وسير مقنن . { كُلٌّ } من الشمس والقمر { يَجْرِي } متأثرا عن تسخيره تعالى { لِأَجَلٍ مُسَمًّى } وهو انقضاء هذه الدار وخرابها ، فيخرب اللّه آلاتها وشمسها وقمرها ، وينشئ الخلق نشأة جديدة ليستقروا في دار القرار ، الجنة أو النار .
{ أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ } الذي لا يغالب ، القاهر لكل شيء ، الذي لا يستعصي عليه شيء ، الذي من عزته ببأوجد هذه المخلوقات العظيمة ، وسخرها تجري بأمره . { الْغَفَّارُ } لذنوب عباده التوابين المؤمنين ، كما قال تعالى : { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى } الغفار لمن أشرك به بعد ما رأى من آياته العظيمة ، ثم تاب وأناب .
( خلق السماوات والأرض بالحق ، يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل ؛ وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى . ألا هو العزيز الغفار ) . .
وهذه اللفتة إلى ملكوت السماوات والأرض ، وإلى ظاهرة الليل والنهار ، وإلى تسخير الشمس والقمر توحي إلى الفطرة بحقيقة الألوهية التي لا يليق معها أن يكون هناك ولد ولا شريك . فالذي يخلق هذا الخلق وينشئه إنشاء ، لا يحتاج إلى الولد ولا يكون معه شريك .
وآية الوحدانية ظاهرة في طريقة خلق السماوات والأرض ، وفي الناموس الذي يحكم الكون . والنظر المجرد إلى السماوات والأرض يوحي بوحدة الإرادة الخالقة المدبرة . وما كشفه الإنسان - حتى اليوم - من دلائل الوحدة فيه الكفاية . فقد اتضح أن الكون المعروف للبشر مؤلف كله من ذرات متحدة في ماهيتها ، وأنها بدورها تتألف من إشعاعات ذات طبيعة واحدة . وقد اتضح كذلك أن جميع الذرات وجميع الأجرام التي تتألف منها سواء في ذلك الأرض التي نسكنها أم الكواكب والنجوم الأخرى في حركة دائمة ، وأن هذه الحركة قانون ثابت لا يتخلف لا في الذرة الصغيرة ولا في النجم الهائل . واتضح أن لهذه الحركة نظاماً ثابتاً هو الآخر يوحي بوحدة الخلق ووحدة التدبير . . وفي كل يوم يكشف الإنسان عن جديد من دلائل الوحدة في تصميم هذا الوجود . ويكشف عن حق ثابت في هذا التصميم لا يتقلب مع هوى ، ولا ينحرف مع ميل ، ولا يتخلف لحظة ولا يحيد .
( خلق السماوات والأرض بالحق ) . .
وأنزل الكتاب بالحق . . فهو الحق الواحد في ذلك الكون وفي هذا الكتاب . . وكلاهما صادر من مصدر واحد . وكلاهما آية على وحدة المبدع العزيز الحكيم .
( يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل ) . .
وهو تعبير عجيب يقسر الناظر فيه قسراً على الالتفات إلى ما كشف حديثاً عن كروية الأرض ومع أنني في هذه الظلال حريص على ألا أحمل القرآن على النظريات التي يكشفها الإنسان ، لأنها نظريات تخطى ء وتصيب ، وتثبت اليوم وتبطل غداً . والقرآن حق ثابت يحمل آية صدقه في ذاته ، ولا يستمدها من موافقة أو مخالفة لما يكشفه البشر الضعاف المهازيل !
مع هذا الحرص فإن هذا التعبير يقسرني قسراً على النظر في موضوع كروية الأرض . فهو يصور حقيقة مادية ملحوظة على وجه الأرض . فالأرض الكروية تدور حول نفسها في مواجهة الشمس ؛ فالجزء الذي يواجه الشمس من سطحها المكور يغمره الضوء ويكون نهاراً . ولكن هذا الجزء لا يثبت لأن الأرض تدور . وكلما تحركت بدأ الليل يغمر السطح الذي كان عليه النهار . وهذا السطح مكور فالنهار كان عليه مكوراً والليل يتبعه مكوراً كذلك . وبعد فترة يبدأ النهار من الناحية الأخرى يتكور على الليل . وهكذا في حركة دائبة : ( يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل ) . . واللفظ يرسم الشكل ، ويحدد الوضع ، ويعين نوع طبيعة الأرض وحركتها . وكروية الأرض ودورانها يفسران هذا التعبير تفسيراً أدق من أي تفسير آخر لا يستصحب هذه النظرية .
( وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ) . .
والشمس تجري في مدارها . والقمر يجري في مداره . وهما مسخران بأمر الله . فما يزعم أحد أنه يجريهما . وما يقبل منطق الفطرة أن يجريا بلا محرك ، يدبرهما بمثل هذا النظام الدقيق الذي لا يختل شعرة في ملايين السنين . وستجري الشمس وسيجري القمر ( لأجل مسمى ) . . لا يعلمه إلا الله سبحانه .
فمع القوة والقدرة والعزة ، هو غفار لمن يتوب إليه وينيب ، ممن يكذبون عليه ويكفرون به ، ويتخذون معه آلهة ، ويزعمون له ولداً - وقد سبق حديثهم - والطريق امامهم مفتوح ليرجعوا إلى العزيز الغفار . .
القول في تأويل قوله تعالى : { خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقّ يُكَوّرُ اللّيْلَ عَلَى النّهَارِ وَيُكَوّرُ النّهَارَ عَلَى اللّيْلِ وَسَخّرَ الشّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلّ يَجْرِي لأجَلٍ مّسَمّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفّارُ } .
يقول تعالى ذكره واصفا نفسه بصفتها : ( خَلَقَ السّمَوَاتِ والأرْضَ بالحَقّ يَكُوّرُ اللّيْلَ على النهارِ وَيُكَوّرُ النّهارَ على اللّيْلِ ) : يقول : يغشّي هذا على هذا ، وهذا على هذا ، كما قال يُولِجُ اللّيْلَ فِي النّهارِ وَيُولِجُ النّهارَ فِي اللّيْلِ وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ( يُكَوّرُ اللّيْلَ عَلى النّهارِ وَيُكَوّرُ النّهارَ عَلى اللّيْلِ ) يقول : يحمل الليل على النهار .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : ( يُكَوّرُ اللّيْلَ على النّهارِ ) : قال : يدهوره .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( يُكَوّرُ اللّيْلَ على النّهارِ وَيُكَوّرُ النّهارَ على اللّيْلِ ) : قال : يَغْشَي هذا هذا ، ويَغْشَي هذا هذا .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : ( يُكَوّرُ اللّيْلَ على النّهارِ ويُكَوّرُ النّهارَ على اللّيْلِ ) قال : يجيء بالنهار ويذهب بالليل ، ويجيء بالليل ، ويذهب بالنهار .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : ( يُكَوّرُ اللّيْلَ على النّهارِ ويُكَوّرُ النّهارَ على اللّيْلِ ) حين يذهب بالليل ويكوّر النهار عليه ، ويذهب بالنهار ويكوّر الليل عليه .
وقوله : ( وَسَخّرَ الشّمْسَ والقَمَرَ ) : يقول تعالى ذكره : وسخر الشمس والقمر لعباده ، ليعلموا بذلك عدد السنين والحساب ، ويعرفوا الليل من النهار لمصلحة معاشهم كُلّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمّى يقول : كُلّ ذلك يعني الشمس والقمر يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمّى يعني إلى قيام الساعة ، وذلك إلى أن تكوّر الشمس ، وتنكدر النجوم . وقيل : معنى ذلك : أن لكل واحد منهما منازل ، لا تعدوه ولا تقصر دونه ألا هُوَ العَزِيزُ الغَفّارُ يقول تعالى ذكره : ألا إن الله الذي فعل هذه الأفعال وأنعم على خلقه هذه النعم هو العزيز في انتقامه ممن عاداه ، الغفار لذنوب عباده التائبين إليه منها بعفوه لهم عنها .