53- وبمثل هذا الابتلاء الذي جرت به سُنَّتنا ، امتحنا المتكبرين بسبق الضعفاء إلى الإسلام ، ليقول المتكبرون مستنكرين ساخرين ، هل هؤلاء الفقراء هم الذين أنعم الله عليهم من بيننا بالخير الذي يعدهم به محمد ؟ إن هؤلاء الفقراء يعرفون نعمة الله عليهم بالتوفيق إلى الإيمان فيشكرونه . والله أعلم بمن يشكرون فضله ونعمه .
قوله تعالى : { وكذلك فتنا } ، أي : ابتلينا .
قوله تعالى : { بعضهم ببعض } ، أراد ابتلاء الغني بالفقير ، والشريف بالوضيع ، وذلك أن الشريف إذا نظر إلى الوضيع قد سبقه بالإيمان امتنع من الإسلام بسببه ، فكان فتنة له ، فذلك قوله تعالى : { ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا }
قوله تعالى : { أليس الله بأعلم بالشاكرين } ، فهو جواب لقولهم { أهؤلاء من الله عليهم من بيننا } فهو استفهام بمعنى التقرير ، أي : الله أعلم بمن شكر الإسلام إذ هداه الله عز وجل .
أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي ، أنا أبو العباس عبد الله ابن محمد بن هارون الطيسفوني ، أنا أبو الحسن محمد بن أحمد الترابي ، ثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن عمرو بن بسطام ، ثنا أبو الحسن أحمد بن سيار القرشي ، أنا مسدد ، أنا جعفر بن سليمان ، عن المعلي بن زياد ، عن العلاء بن بشير المزني ، عن أبي الصديق الناجي ، عن أبي سعيد الخدري قال : " جلست في نفر من ضعفاء المهاجرين ، وإن بعضهم ليستتر ببعض من العري ، وقارئ يقرأ علينا إذ جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقام علينا ، فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم سكت القارئ ، فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : ما كنتم تصنعون ؟ قلنا : يا رسول الله ، كان قارئ يقرأ علينا ، فكنا نستمع إلى كتاب الله تعالى ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الحمد لله الذي جعل من أمتي من أمرني أن أصبر نفسي معهم ) قال : ثم جلس وسطنا ليعدل نفسه فينا ، ثم قال بيده هكذا ، فتحلقوا وبرزت وجوههم له ، قال : فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم عرف منهم أحداً غيري ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أبشروا يا معشر صعاليك المهاجرين بالنور التام يوم القيامة ، تدخلون الجنة قبل أغنياء الناس بنصف يوم ، وذلك مقدار خمسمائة سنة ) .
{ وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا } أي : هذا من ابتلاء الله لعباده ، حيث جعل بعضهم غنيا ؛ وبعضهم فقيرا ، وبعضهم شريفا ، وبعضهم وضيعا ، فإذا مَنَّ الله بالإيمان على الفقير أو الوضيع ؛ . كان ذلك محل محنة للغني والشريف فإن كان قصده الحق واتباعه ، آمن وأسلم ، ولم يمنعه من ذلك مشاركه الذي يراه دونه بالغنى أو الشرف ، وإن لم يكن صادقا في طلب الحق ، كانت هذه عقبة ترده عن اتباع الحق .
وقالوا محتقرين لمن يرونهم دونهم : { أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا } فمنعهم هذا من اتباع الحق ، لعدم زكائهم ، قال الله مجيبا لكلامهم المتضمن الاعتراض على الله في هداية هؤلاء ، وعدم هدايتهم هم . { أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ } الذين يعرفون النعمة ، ويقرون بها ، ويقومون بما تقتضيه من العمل الصالح ، فيضع فضله ومنته عليهم ، دون من ليس بشاكر ، فإن الله تعالى حكيم ، لا يضع فضله عند من ليس له بأهل ، وهؤلاء المعترضون بهذا الوصف ، بخلاف من مَنَّ الله عليهم بالإيمان ، من الفقراء وغيرهم فإنهم هم الشاكرون . ولما نهى الله رسولَه ، عن طرد المؤمنين القانتين ، أمَره بمقابلتهم بالإكرام والإعظام ، والتبجيل والاحترام ، فقال :
وكانت هذه هي الفتنة التي قدرها الله لهؤلاء المتعالين بالمال والنسب ؛ والذين لم يدركوا طبيعة هذا الدين ؛ وطبيعة الدنيا الجديدة التي يطلع بها على البشرية ، مشرقة الآفاق ، مصعدة بهذه البشرية إلى تلك القمة السامقة ؛ التي كانت يومذاك غريبة على العرب وعلى الدنيا كلها ؛ وما تزال غريبة في ما يسمونه الديمقراطيات على اختلاف أشكالها وأسمائها !
( وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا : أهؤلاء من الله عليهم من بيننا ؟ ) . .
ويرد السياق القرآني على هذا الاستفهام الاستنكاري الذي يطلقه الكبراء :
( أليس الله بأعلم بالشاكرين ) ؟
هذا الرد الحافل بالإيحاءات والإيماءات :
إذ يقرر ابتداء أن الهدى جزاء يجزي به الله من يعلم من أمرهم أنهم إذا هدوا سيشكرون هذه النعمة ، التي لا كفاء لها من شكر العبد ، ولكن الله يقبل منه جهده ويجزيه عليه هذا الجزاء الهائل الذي لا يعدله جزاء .
وإذ يقرر أن نعمة الإيمان لا تتعلق بقيمة من قيم الأرض الصغيرة التي تسود في الجاهليات البشرية . إنما يختص الله بها من يعلم أنهم شاكرون عليها . لا يهم أن يكونوا من الموالي والضعاف والفقراء . فميزان الله لا مكان فيه لقيم الأرض الصغيرة التي تتعاظم الناس في الجاهليات !
وإذ يقرر أن اعتراض المعترضين على فضل الله إنما ينشأ من الجهالة بحقائق الأشياء . وأن توزيع هذا الفضل على العباد قائم على علم الله الكامل بمن يستحقه من هؤلاء العباد . وما اعتراض المعترضين إلا جهل وسوء أدب في حق الله . .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.