المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَن يَرۡتَدَّ مِنكُمۡ عَن دِينِهِۦ فَسَوۡفَ يَأۡتِي ٱللَّهُ بِقَوۡمٖ يُحِبُّهُمۡ وَيُحِبُّونَهُۥٓ أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلۡكَٰفِرِينَ يُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوۡمَةَ لَآئِمٖۚ ذَٰلِكَ فَضۡلُ ٱللَّهِ يُؤۡتِيهِ مَن يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ} (54)

54- يا أيها الذين آمنوا : من يرجع منكم عن الإيمان إلى الكفر - فلن يضروا الله بأي قدر من الضرر ! تعالى الله عن ذلك - فسوف يأتي الله بدلهم بقوم خير منهم ، يحبهم الله فيوفقهم للهدى والطاعة ، ويحبون الله فيطيعونه ، وفيهم تواضع ورحمة بإخوانهم المؤمنين ، وفيهم شدة على أعدائهم الكافرين ، يجاهدون في سبيل الله ولا يخشون في الله لومة أي لائم . ذلك فضل الله يمنحه لمن يشاء ممن يوفقهم للخير ، والله كثير الفضل عليم بمن يستحقونه .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَن يَرۡتَدَّ مِنكُمۡ عَن دِينِهِۦ فَسَوۡفَ يَأۡتِي ٱللَّهُ بِقَوۡمٖ يُحِبُّهُمۡ وَيُحِبُّونَهُۥٓ أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلۡكَٰفِرِينَ يُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوۡمَةَ لَآئِمٖۚ ذَٰلِكَ فَضۡلُ ٱللَّهِ يُؤۡتِيهِ مَن يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ} (54)

قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه } ، قرأ أهل المدينة والشام : يرتدد بدالين على إظهار التضعيف ، عن دينه فيرجع إلى الكفر . قال الحسن : علم الله تبارك وتعالى أن قوماً يرجعون عن الإسلام بعد موت نبيهم صلى الله عليه وسلم فأخبر أنه سيأتي بقوم يحبهم الله ويحبونه . واختلفوا في أولئك القوم من هم ؟ قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، والحسن ، وقتادة : هم أبو بكر وأصحابه الذين قاتلوا أهل الردة ومانعي الزكاة ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قبض ارتد عامة العرب إلا أهل مكة ، والمدينة ، والبحرين ، من عبد القيس . ومنع بعضهم الزكاة ، وهمّ أبو بكر رضي الله عنه بقتالهم ، فكره ذلك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال عمر رضي الله عنه : كيف نقاتل الناس ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله عز وجل ) ؟ فقال أبو بكر : والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة ، فغن الزكاة حق المال ، والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها ، قال أنس بن مالك رضي الله عنه : كرهت الصحابة قتال مانعي الزكاة ، وقالوا : أهل القبلة ، فتقلد أبو بكر سيفه وخرج وحده ، فلم يجدوا بداً من الخروج على أثره . قال ابن مسعود : كرهنا ذلك في الابتداء . ثم حمدناه عليه في الانتهاء . قال أبو بكر بن عياش : سمعت أبا حصين يقول : ما ولد بعد النبيين مولود أفضل من أبي بكر رضي الله عنه ، لقد قام مقام نبي من الأنبياء في قتال أهل الردة . وكان قد ارتد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث فرق : منهم بنو مدلج ، ورئيسهم ذو الحمار عيهلة بن كعب العنسي ، ويلقب بالأسود ، وكان كاهناً مشعبذاً ، فتنبأ باليمن ، واستولى على بلاده ، فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى معاذ بن جبل ومن معه من المسلمين ، وأمرهم أن يحثوا الناس على التمسك بدينهم ، وعلى النهوض إلى حرب الأسود ، فقتله فيروز الديلمي على فراشه ، قال ابن عمر رضي الله عنه : فأتى الخبر النبي صلى الله عليه وسلم من السماء الليلة التي قتل فيها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( قتل الأسود البارحة ، قتله رجل مبارك ، قيل : ومن هو ؟ قال : فيروز ، فبشر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بهلاك الأسود ، وقبض صلى الله عليه وسلم من الغد ، وأتى خبر مقتل العنسي المدينة في آخر شهر ربيع الأول بعدما خرج أسامة ، وكان ذلك أول فتح جاء أبا بكر رضي الله عنه .

والفرقة الثانية : بنو حنيفة باليمامة ، ورئيسهم مسيلمة الكذاب ، وكان قد تنبأ في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر سنة عشر ، وزعم أنه أشرك مع محمد صلى الله عليه وسلم في النبوة ، وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .

من مسيلمة رسول الله ، إلى محمد رسول الله ، أما بعد ، فإن الأرض نصفها لي ونصفها لك .

وبعث إليه مع رجلين من أصحابه ، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما " ثم أجاب :

" من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مسيلمة الكذاب ، أما بعد ، فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده ، والعاقبة للمتقين " .

ومرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتوفي ، فبعث أبو بكر خالد بن الوليد إلى مسيلمة الكذاب في جيش كثير حتى أهلكه الله على يدي وحشي غلام مطعم بن عدي الذي قتل حمزة بن عبد المطلب ، بعد حرب شديد ، وكان وحشي يقول : قتلت خير الناس في الجاهلية ، وشر الناس في الإسلام .

والفرقة الثالثة : بنو أسد ، ورئيسهم طليحة بن خويلد ، وكان طليحة آخر من ارتد ، وادعى النبوة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ، وأول من قوتل بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الردة ، فبعث أبو بكر خالد بن الوليد إليه ، فهزمهم خالد بعد قتال شديد ، وأفلت طليحة ، ففر على وجهه هارباً نحو الشام ، ثم إنه أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه . وارتد بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم في خلافة أبي بكر رضي الله عنه خلق كثير ، حتى كفى الله المسلمين أمرهم ، ونصر دينه على يدي أبي بكر رضي الله عنه . قالت عائشة : توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتدت العرب ، واشرأب النفاق ، ونزل بأبي بكر ما لو نزل بالجبال الراسيات لهاضها .

وقال قوم : المراد بقوله : { فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه } هم الأشعريون . روي عن عياض بن غنم الأشعري قال : لما نزلت هذه الآية { فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه } ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( هم قوم هذا ، وأشار إلى أبي موسى الأشعري ) . وكانوا من اليمن .

أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي ، أنا أبو الحسن الطيسفوني ، أنا أبو عبد الله بن عمر الجوهري ، أنا أحمد بن علي الكشميهني ، حدثنا علي ابن حجر ، أنا إسماعيل بن جعفر ، أنا محمد بن عمرو بن علقمة ، عن أبي موسى ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( أتاكم أهل اليمن ، هم أضعف قلوباً وأرق أفئدةً ، الإيمان يمان ، والحكمة يمانية ) .

وقال الكلبي : هم أحياء من اليمن ، ألفان من النخع ، وخمسة آلاف من كندة وبجيلة ، وثلاثة آلاف من أفناء الناس ، فجاهدوا في سبيل الله يوم القادسية في أيام عمر رضي الله عنه .

قوله تعالى : { أذلة على المؤمنين } ، يعني : أرقاء رحماء ، لقوله عز وجل : { واخفض لهما جناح الذل من الرحمة } ، ولم يرد به الهوان ، بل أراد به أن جانبهم لين على المؤمنين . وقيل : هو من الذل من قولهم ، دابة ذلول ، يعني أنهم متواضعون ، قال الله تعالى : { وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً } .

قوله تعالى : { أعزة على الكافرين } ، أي : أشداء غلاظ على الكفار ، يعادونهم ويغالبونهم ، من قولهم : عزه أي غلبه . قال عطاء : ( أذلة على المؤمنين ) كالولد لوالده ، والعبد لسيده ، ( أعزة على الكافرين ) : كالسبع على فريسته ، نظيره قوله تعالى : { أشداء على الكفار رحماء بينهم } .

قوله تعالى : { يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم } ، يعني : لا يخافون في الله لومة الناس ، وذلك أن المنافقين كانوا يراقبون الكفار ويخافون لومهم .

وروينا عن عبادة بن الصامت قال : بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة ، وأن نقوم أو نقول بالحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم .

قوله تعالى : { ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء } ، أي محبتهم لله ، ولين جانبهم للمسلمين ، وشدتهم على الكافرين ، من فضل الله عليهم .

قوله تعالى : { والله واسع عليم } .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَن يَرۡتَدَّ مِنكُمۡ عَن دِينِهِۦ فَسَوۡفَ يَأۡتِي ٱللَّهُ بِقَوۡمٖ يُحِبُّهُمۡ وَيُحِبُّونَهُۥٓ أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلۡكَٰفِرِينَ يُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوۡمَةَ لَآئِمٖۚ ذَٰلِكَ فَضۡلُ ٱللَّهِ يُؤۡتِيهِ مَن يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ} (54)

{ 54 ْ } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ْ }

يخبر تعالى أنه الغني عن العالمين ، وأنه من يرتد عن دينه فلن يضر الله شيئا ، وإنما يضر نفسه . وأن لله عبادا مخلصين ، ورجالا صادقين ، قد تكفل الرحمن الرحيم بهدايتهم ، ووعد بالإتيان بهم ، وأنهم أكمل الخلق أوصافا ، وأقواهم نفوسا ، وأحسنهم أخلاقا ، أجلُّ صفاتهم أن الله { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ْ } فإن محبة الله للعبد هي أجل نعمة أنعم بها عليه ، وأفضل فضيلة ، تفضل الله بها عليه ، وإذا أحب الله عبدا يسر له الأسباب ، وهون عليه كل عسير ، ووفقه لفعل الخيرات وترك المنكرات ، وأقبل بقلوب عباده إليه بالمحبة والوداد .

ومن لوازم محبة العبد لربه ، أنه لابد أن يتصف بمتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ظاهرا وباطنا ، في أقواله وأعماله وجميع أحواله ، كما قال تعالى : { قُلْ إِن كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ْ }

كما أن من لازم{[267]}  محبة الله للعبد ، أن يكثر العبد من التقرب إلى الله بالفرائض والنوافل ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عن الله : " وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضت عليه ، ولا يزال [ عبدي ] يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أُحبه ، فإذا أحببتُه كنتُ سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، ولئن سألني لأعطينه ، ولئن استعاذني لأعيذنه " .

ومن لوازم محبة الله معرفته تعالى ، والإكثار من ذكره ، فإن المحبة بدون معرفة بالله ناقصة جدا ، بل غير موجودة وإن وجدت دعواها ، ومن أحب الله أكثر من ذكره ، وإذا أحب الله عبدا قبل منه اليسير من العمل ، وغفر له الكثير من الزلل .

ومن صفاتهم أنهم { أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ْ } فهم للمؤمنين أذلة من محبتهم لهم ، ونصحهم لهم ، ولينهم ورفقهم ورأفتهم ، ورحمتهم بهم وسهولة جانبهم ، وقرب الشيء الذي يطلب منهم وعلى الكافرين بالله ، المعاندين لآياته ، المكذبين لرسله - أعزة ، قد اجتمعت هممهم وعزائمهم على معاداتهم ، وبذلوا جهدهم في كل سبب يحصل به الانتصار عليهم ، قال تعالى : { وَأَعِدُّوا لَهُم مَا اسْتَطَعْتُمْ مِن قُوَّةٍ وَمِن رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ْ } وقال تعالى : { أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ْ } فالغلظة والشدة على أعداء الله مما يقرب العبد إلى الله ، ويوافق العبد ربه في سخطه عليهم ، ولا تمنع الغلظة عليهم والشدة دعوتهم إلى الدين الإسلامي بالتي هي أحسن . فتجتمع الغلظة عليهم ، واللين في دعوتهم ، وكلا الأمرين من مصلحتهم ونفعه عائد إليهم .

{ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ْ } بأموالهم وأنفسهم ، بأقوالهم وأفعالهم . { وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ْ } بل يقدمون رضا ربهم والخوف من لومه على لوم المخلوقين ، وهذا يدل على قوة هممهم وعزائمهم ، فإن ضعيف القلب ضعيف الهمة ، تنتقض عزيمته عند لوم اللائمين ، وتفتر قوته عند عذل العاذلين . وفي قلوبهم تعبد لغير الله ، بحسب ما فيها من مراعاة الخلق وتقديم رضاهم ولومهم على أمر الله ، فلا يسلم القلب من التعبد لغير الله ، حتى لا يخاف في الله لومة لائم .

ولما مدحهم تعالى بما من به عليهم منَّ الصفات الجليلة والمناقب العالية ، المستلزمة لما لم يذكر من أفعال الخير -أخبر أن هذا من فضله عليهم وإحسانه لئلا يعجبوا بأنفسهم ، وليشكروا الذي مَنَّ عليهم بذلك ليزيدهم من فضله ، وليعلم غيرُهم أن فضل الله تعالى ليس عليه حجاب ، فقال : { ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ْ } أي : واسع الفضل والإحسان ، جزيل المنن ، قد عمت رحمته كل شيء ، ويوسع على أوليائه من فضله ، ما لا يكون لغيرهم ، ولكنه عليم بمن يستحق الفضل فيعطيه ، فالله أعلم حيث يجعل رسالته أصلا وفرعا .


[267]:- في ب: لوازم
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَن يَرۡتَدَّ مِنكُمۡ عَن دِينِهِۦ فَسَوۡفَ يَأۡتِي ٱللَّهُ بِقَوۡمٖ يُحِبُّهُمۡ وَيُحِبُّونَهُۥٓ أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلۡكَٰفِرِينَ يُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوۡمَةَ لَآئِمٖۚ ذَٰلِكَ فَضۡلُ ٱللَّهِ يُؤۡتِيهِ مَن يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ} (54)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبّهُمْ وَيُحِبّونَهُ أَذِلّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } . .

يقول تعالى ذكره للمؤمنين بالله وبرسوله : يا أيّها الّذِين آمَنُوا : أي صدّقوا لله ورسوله ، وأقرّوا بما جاءهم به نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم مَنْ يَرْتَدّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ يقول : من يرجع منكم عن دينه الحقّ الذي هو عليه اليوم ، فيبدّله ويغيرة بدخوله في الكفر ، إما في اليهودية أو النصرانية أو غير ذلك من صنوف الكفر ، فلن يضر الله شيئا ، وسيأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه يقول : فسوف يجيء الله بدلاً منهم المؤمنين الذين لم يبدّلوا ولم يغيروا ولم يرتدّوا ، بقوم خير من الذين ارتدّوا وبدّلوا دينهم ، يحبهم الله ويحبون الله . وكان هذا الوعيد من الله لمن سبق في علمه أنه سيرتدّ بعد وفاة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، وكذلك وعده من وعد من المؤمنين ما وعده في هذا الاَية ، لمن سبق له في علمه أنه لا يبدّل ولا يغير دينه ولا يرتدّ . فلما قبض الله نبيه صلى الله عليه وسلم ارتدّ أقوام من أهل الوبر وبعض أهل المدر ، فأبدل الله المؤمنين بخير منهم كما قال تعالى ذكره ، ووفى للمؤمنين بوعده ، وأنفذ فيمن ارتدّ منهم وعيده .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني عبد الله بن عياش ، عن أبي صخر ، عن محمد بن كعب : أن عمر بن عبد العزيز أرسل إليه يوما وعمر أمير المدينة يومئذٍ ، فقال : يا أبا حمزة ، آية أسهرتني البارحة قال محمد : وما هي أيها الأمير ؟ قال : قول الله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدّ منْكُمْ عنْ دِينِهِ . . . حتى بلغ : وَلا يَخافونَ لَوْمَةَ لائمٍ . فقال محمد : أيها الأمير ، إنما عنى الله بالذين آمنوا : الولاة من قريش ، من يرتدّ عن الحقّ .

ثم اختلف أهل التأويل في أعيان القوم الذين أتى الله بهم المؤمنين وأبدل المؤمنين مكان من ارتدّ منهم ، فقال بعضهم : هو أبو بكر الصدّيق وأصحابه الذين قاتلوا أهل الردّة حتى أدخلوهم من الباب الذي خرجوا منه . ذكر من قال ذلك :

حدثنا هناد بن السريّ ، قال : حدثنا حفص بن غياث ، عن الفضل بن دَلَهْم ، عن الحسن في قوله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبّهُمْ ويُحبّونَهُ قال : هذا والله أبو بكر وأصحابه .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن الفضل بن دلهم ، عن الحسن ، مثله .

حدثنا هناد ، قال : حدثنا عبد بن سليمان ، عن جويبر ، عن سهل ، عن الحسن في قوله : فَسَوفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبّهُمْ ويُحبّونَهُ قال : أبو بكر وأصحابه .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا حسين بن عليّ ، عن أبي موسى ، قال : قرأ الحسن : فَسَوفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبّهُمْ ويُحبّونَهُ قال : هي والله لأبي بكر وأصحابه .

حدثني نصر بن عبد الرحمن الأودي ، قال : حدثنا أحمد بن بشير ، عن هشام ، عن الحسن في قوله : فَسَوفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبّهُمْ ويُحبّونَهُ قال : نزلت في أبي بكر وأصحابه .

حدثني عليّ بن سعيد بن مسروق الكندي ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك ، في قوله : فَسَوفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبّهُمْ ويُحبّونَهُ أذِلّةٍ على المُؤْمِنينَ أعِزّةٍ على الكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائم قال : هو أبو بكر وأصحابه ، لما ارتدّ من ارتدّ من العرب عن الإسلام ، جاهدهم أبو بكر وأصحابه حتى ردّهم إلى الإسلام .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : مَنْ يَرْتَدّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبّهُمْ ويُحبّونَهُ . . . إلى قوله : وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ أنزل الله هذه الاَية ، وقد علم أن سيرتدّ مرتدّون من الناس . فلما قبض الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم ، ارتدّ عامّة العرب عن الإسلام إلاّ ثلاثة مساجد : أهل المدينة ، وأهل مكة ، وأهل البحرين من عبد القيس قالوا : نصلي ولا نزكي ، والله لا تُعصب أموالنا فكُلّم أبو بكر في ذلك ، فقيل له : إنهم لو قد فقهوا لهذا ، أعطوها وزادوها . فقال : لا والله ، لا أفرّق بين شيء جمع الله بينه ، ولو منعوا عِقَالاً مما فرض الله ورسوله ، لقاتلناهم عليه فبعث الله عصابة مع أبي بكر ، فقاتل على ما قاتل عليه نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، حتى سبى وقتل وحرق بالنيران أناسا ارتدّوا عن الإسلام ومنعوا الزكاة ، فقاتلهم حتى أقرّوا بالماعون وهي الزكاة صَغرة أقمياء . فأتته وفود العرب ، فخيرهم بين خطة مخزية أو حرب مجلية ، فاختاروا الخطة المخزية ، وكانت أهون عليهم ، أن يعتدّوا أن قتلاهم في النار وأن قتلى المؤمنين في الجنة ، وأن ما أصابوا من المسلمين من مال ردّوه عليهم ، وما أصاب المسلمون لهم من مال فهو لهم حلال .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبّهُمْ ويُحبّونَهُ قال ابن جريج : ارتدوا حين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقاتلهم أبو بكر .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن هشام ، قال : أخبرنا سيف بن عمر ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن أبي أيوب ، عن عليّ في قوله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ قال : علم الله المؤمنين ، وأوقع معنى السوء على الحشو الذي فيهم من المنافقين ومن في علمه أن يرتدّوا ، قال : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوفَ يَأْتِي اللّهُ المرتدّة عن دينهم بقوم يحبهم ويحبونه بأبي بكر وأصحابه .

وقال آخرون : يعني بذلك قوما من أهل اليمن . وقال بعض من قال ذلك منهم : هم رهط أبي موسى الأشعري : عبد الله بن قيس . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن سماك بن حرب ، عن عياض الأشعري ، قال : لما نزلت هذه الاَية : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبّهُمْ ويُحبّونَهُ قال : أومأ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي موسى بشيء كان معه ، فقال : «هُمْ قَوْمُ هَذَا » .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا أبو الوليد ، قال : حدثنا شعبة ، عن سماك بن حرب ، قال : سمعت عياضا يحدّث عن أبي موسى ، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الاَية : فَسَوفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبّهُمْ ويُحبّونَهُ قال : يعني قوم أبي موسى .

حدثني أبو السائب سلم بن جنادة ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن شعبة قال أبو السائب ، قال أصحابنا هو عن سماك بن حرب ، وأنا لا أحفظ سماكا عن عياض الأشعري ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «هُمْ قَوْمُ هَذَا » يعني أبا موسى .

حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن شعبة ، عن سماك ، عن عياض الأشعري ، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لأبي موسى : «هُمْ قَوْمُ هَذَا » في قوله : فَسَوفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبّهُمْ ويُحبّونَهُ .

حدثنا مجاهد بن موسى ، قال : حدثنا يزيد ، قال : أخبرنا شعبة ، عن سماك بن حرب ، قال : سمعت عياضا الأشعريّ يقول : لما نزلت : فَسَوفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبّهُمْ ويُحبّونَهُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «هُمْ قَوْمُكَ يا أبا مُوسَى » ، أو قال : «هُمْ قَوْمُ هَذَا » يعني أبا موسى .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو سفيان الحميريّ ، عن حصين ، عن عياض أو ابن عياض : فَسَوفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبّهُمْ ويُحبّونَهُ قال : هم أهل اليمن .

حدثنا محمد بن عوف ، قال : حدثنا أبو المغيرة قال : حدثنا صفوان ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن جبير ، عن شريح بن عبيد ، قال : لما أنزل الله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ . . . إلى آخر الاَية ، قال عمر : أنا وقومي هم يا رسول الله ؟ قال : «لا بَلْ هَذا وَقَوْمُهُ » يعني أبا موسى الأشعري .

وقال آخرون منهم : بل هم أهل اليمن جميعا . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : يُحِبّهُمْ ويُحِبّونَهُ قال : أناس من أهل اليمن .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن ليث ، عن مجاهد ، قال : هم قوم سبأ .

حدثنا مطر بن محمد الضبيّ ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : أخبرنا شعبة ، قال : أخبرني من سمع شهر بن حوشب ، قال : هم أهل اليمن .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني عبد الله بن عياش ، عن أبي صخر ، عن محمد بن كعب القرظي : أن عمر بن عبد العزيز أرسل إليه يوما وهو أمير المدينة يسأله عن ذلك ، فقال محمد : يأتي الله بقوم ، وهم أهل اليمن . قال عمر : يا ليتني منهم قال : آمين

وقال آخرون : هم أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبّهُمْ ويُحبّونَهُ يزعم أنهم الأنصار .

وتأويل الاَية على قول من قال : عنى الله بقوله : فَسَوفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبّهُمْ ويُحبّونَهُ أبا بكر وأصحابه في قتالهم أهل الردّة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فلن يضر الله شيئا ، وسيأتي الله من ارتدّ منكم عن دينه بقوم يحبهم ويحبونه ، ينتقم بهم منهم على أيديهم . وبذلك جاء الخبر والرواية عن بعض من تأوّل ذلك كذلك .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن هشام ، قال : أخبرنا سيف بن عمر ، عن أبي روق ، عن أبي أيوب ، عن عليّ في قوله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبّهُمْ قال : يقول : فسوف يأتي الله المرتدّة في دورهم ، بقوم يحبهم ويحبونه بأبي بكر وأصحابه .

وأما على قول من قال : عني بذلك : أهل اليمن فإن تأويله : يا أيها الذين آمنوا ، من يرتدّ منكم عن دينه ، فسوف يأتي الله المؤمنين الذين لم يرتدّوا بقوم يحبهم ويحبونه ، أعوانا لهم وأنصارا . وبذلك جاءت الرواية عن بعض من كان يتأوّل ذلك كذلك .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحية ، عن ابن عباس : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ . . . الاَية وعيد من الله أنه من ارتدّ منكم أنه سيستبدل خيرا منهم .

وأما على قول من قال : عني بذلك الأنصار ، فإن تأويله في ذلك نظير تأويل من تأوله أنه عني به أبو بكر وأصحابه .

وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب ، ما رُوي به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم أهل اليمن قوم أبي موسى الأشعري . ولولا الخبر الذي رُوي في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخبر الذي روي عنه ما كان القول عندي في ذلك إلاّ قول من قال : هم أبو بكر وأصحابه وذلك أنه لم يقاتل قوما كانوا أظهروا الإسلام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ارتدّوا على أعقابهم كفارا ، غير أبي بكر ومن كان معه ممن قاتل أهل الردة معه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكنا تركنا القول في ذلك للخبر الذي رُوي فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن كان صلى الله عليه وسلم معدن البيان عن تأويل ما أنزل الله من وحيه وآي كتابه .

فإن قال لنا قائل : فإن كان القوم الذين ذكر الله أنه سيأتي بهم عند ارتداد من ارتدّ عن دينه ممن كان قد أسلم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هم أهل اليمن ، فهل كان أهل اليمن أيام قتال أبي بكر أهل الردّة أعوان أبي بكر على قتالهم ، حتى تستجيز أن توجه تأويل الاَية إلى ما وجهت إليه ؟ أم لم يكونوا أعوانا له عليهم ، فكيف استجزت أن توجه تأويل الاَية إلى ذلك ، وقد علمت أنه لا خلف لوعد الله ؟ قيل له : إن الله تعالى ذكره لم يعد المؤمنين أن يبدلهم بالمرتدّين منهم يومئذٍ خيرا المرتدّين لقتال المرتدّين ، وإنما أخبر أنه سيأتيهم بخير منهم بدلاً منهم ، يعد فعل ذلك بهم قريبا غير بعيد ، فجاء بهم على عهد عمر ، فكان موقعهم من الإسلام وأهله أحسن موقع ، وكانوا أعوان أهل الإسلام وأنفع لهم ممن كان ارتدّ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من طَغَام الأعراب وجفاة أهل البوادي الذين كانوا على أهل الإسلام كَلاّ لا نفعا .

واختلفت القرّاء في قراءة قوله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فقرأته قرّاء أهل المدينة : «يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ » بإظهار التضعيف بدالين مجزومة الدال الاَخرة ، وكذلك ذلك في مصاحفهم . وأما قرّاء أهل العراق فإنهم قرءوا ذلك : مَنْ يَرْتَدّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ بالإدْغامِ بدال واحدة وتحريكها إلى الفتح بناء على التثنية ، لأن المجزوم الذي يظهر تضعيفه في الواحد إذا ثني أدغم ، ويقال للواحد : اردد يا فلان إلى فلان حقه ، فإذا ثني قيل : ردّ إليه حقه ، ولا يقال : ارددا . وكذلك في الجمع ردّوا ، ولا يقال : ارددوا . فتبني العرب أحيانا الواحد على الاثنين ، وتظهر أحيانا في الواحد التضعيف لسكون لام الفعل ، وكلتا اللغتين فصيحة مشهورة في العرف . والقراءة في ذلك عندنا على ما هو به في مصاحفنا ومصاحف أهل المشرق بدال واحدة مشدّدة بترك إظهار التضعيف وبفتح الدال للعلة التي وصفتُ .

القول في تأويل قوله تعالى : أذِلّةٍ على المُؤْمِنِينَ أعِزّةٍ على الكافِرِينَ .

يعني تعالى ذكره بقوله : أذِلّةٍ على المُؤْمِنِينَ : أرقاء عليهم رحماء بهم ، من قول القائل : ذلّ فلان لفلان : إذا خضع له واستكان . ويعني بقوله : أعِزّةٍ على الكافِرِينَ : أشدّاء عليهم غلظاء بهم ، من قول القائل : قد عزّني فلان : إذا أظهر العزّة من نفسه له ، وأبدى له الجفوة والغلظة .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن هاشم ، قال : أخبرنا سيف بن عمر ، عن أبي روق ، عن أبي أيوب ، عن عليّ في قوله : أذِلّةٍ على المُؤْمِنِينَ : أهل رقة على أهل دينهم ، أعِزّةٍ على الكافِرِينَ : أهل غلظة على من خالفهم في دينهم .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : أذلّةٍ على المُؤْمِنِينَ أعِزّةٍ على الكافِرِينَ يعني بالذلة : الرحمة .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، في قوله : أذِلّةٍ على المُؤْمِنِينَ قال : رحماء بينهم ، أعِزّةٍ على الكافِرِينَ قال : أشدّاء عليهم .

حدثنا الحرث بن محمد ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : قال سفيان : سمعت الأعمش يقول في قوله : أذِلّةٍ على المُؤْمِنِينَ أعِزّةٍ على الكافِرِينَ : ضعفاء على المؤمنين .

القول في تأويل قوله تعالى : يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ .

يعني تعالى ذكره بقوله : يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ هؤلاء المؤمنين الذين وعد الله المؤمنين أن يأتيهم بهم إن ارتدّ منهم مرتدّ بدلاً منهم ، يجاهدون في قتال أعداء الله ، على النحو الذي أمر الله بقتالهم والوجه الذي أذن لهم به ، ويجاهدون عدوّهم ، فذلك مجاهدتهم في سبيل الله . وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائمٍ يقول : ولا يخافون في ذات الله أحدا ، ولا يصدّهم عن العمل بما أمرهم الله به من قتال عدوّهم لومة لائم لهم في ذلك . وأما قوله : ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ فإنه يعني : هذا النعت الذي نعتهم به تعالى ذكره من أنهم أذلة على المؤمنين ، أعزّة على الكافرين ، يجاهدون في سبيل الله ، ولا يخافون في الله لومة لائم ، فضل الله الذي تفضل به عليهم ، والله يؤتي فضله من يشاء من خلقه ، منّةً عليه وتطوّلاً . وَاللّهُ وَاسِعٌ يقول : والله جواد بفضله على من جاد به عليه ، لا يخاف نفاد خزائنه فيكفّ من عطائه . عَليمٌ بموضع جوده وعطائه ، فلا يبذله إلاّ لمن استحقه ولا يبذل لمن استحقه إلاّ على قدر المصلحة لعلمه بموضع صلاحه له من موضع ضرّه .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَن يَرۡتَدَّ مِنكُمۡ عَن دِينِهِۦ فَسَوۡفَ يَأۡتِي ٱللَّهُ بِقَوۡمٖ يُحِبُّهُمۡ وَيُحِبُّونَهُۥٓ أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلۡكَٰفِرِينَ يُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوۡمَةَ لَآئِمٖۚ ذَٰلِكَ فَضۡلُ ٱللَّهِ يُؤۡتِيهِ مَن يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ} (54)

{ يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه } قرأه على الأصل نافع وابن عامر وهو كذلك في الإمام ، والباقون بالإدغام وهذا من الكائنات التي أخبر الله تعالى عنها قبل وقوعها ، وقد ارتد من العرب في أواخر عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث فرق : بنو ملدج وكان رئيسهم ذا الخمار الأسود العنسي ، تنبأ باليمن واستولى على بلاده ثم قتله فيروز الديلمي ليلة قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم من غدها وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم في تلك الليلة فسر المسلمون وأتى الخبر في أواخر ربيع الأول . وبنو حنيفة أصحاب مسيلمة تنبأ وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أما بعد فإن الأرض نصفها لي ونصفها لك ، فأجاب من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مسيلمة الكذاب أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ، فحاربه أبو بكر رضي الله تعالى عنه بجند من المسلمين وقتله وحشي قاتل حمزة . وبنو أسد قوم طليحة بن خويلد تنبأ فبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خالدا فهرب بعد القتال إلى الشام ثم أسلم وحسن إسلامه . وفي عهد أبي بكر رضي الله عنه سبع فزارة قوم غيبنه بن حصن ، وغطفان قوم فرة بن سلمة القشيري وبنو سليم قوم الفجاءة بن عبد يا ليل ، وبنو يربوع قوم مالك بن نويرة ، وبعض تميم قوم سجاح بنت المنذر المتنبئة زوجة مسيلمة ، وكندة قوم الأشعث بن قيس ، وبنو بكر بن وائل بالبحرين قوم الحطم بن زيد وكفى الله أمرهم على يده ، وفي إمرة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه غسان قوم جبلة بن الأيهم تنصر وسار إلى الشام . { فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه } قيل هم أهل اليمن لما روي ( أنه عليه الصلاة والسلام أشار إلى أبي موسى الأشعري وقال : هم قوم هذا ) . وقيل الفرس لأنه صلى الله عليه وسلم سئل عنهم فضرب يده على عاتق سلمان وقال : هذا وذووه . وقيل الذين جاهدوا يوم القادسية ألفان من النخع وخمسة آلاف من كندة وبجيله ، وثلاثة آلاف من أفناء الناس . والراجع إلى من محذوف تقديره فسوف يأتي الله بقوم مكانهم ومحبة الله تعالى للعباد إرادة الهدى والتوفيق لهم في الدنيا وحسن الثواب في الآخرة ، ومحبة العباد له إرادة طاعته والتحرز عن معاصيه . { أذلة على المؤمنين } عاطفين عليهم متذللين لهم ، جمع ذليل لا ذلول فإن جمعه ذلل ، واستعماله مع على إما لتضمنه معنى العطف والحنو أو للتنبيه على أنهم مع علو طبقتهم وفضلهم على المؤمنين خاضعون لهم أو للمقابلة . { أعزة على الكافرين } شداد متغلبين عليهم من عزه إذا غلبه ، وقرئ بالنصب على الحال . { يجاهدون في سبيل الله } صفة أخرى لقوم ، أو حال من الضمير في أعزة . { ولا يخافون لومة لائم } عطف على يجاهدون بمعنى أنهم الجامعون بين المجاهدة في سبيل الله والتصلب في دينه أو حال بمعنى أنهم مجاهدون حالهم خلاف حال المنافقين ، فإنهم يخرجون في جيش المسلمين خائفين ملامة أوليائهم من اليهود فلا يعملون شيئا يلحقهم فيه لوم من جهتهم ، واللومة المرة من اللوم وفيها وفي تنكير لائم مبالغتان . { ذلك } إشارة إلى ما تقدم من الأوصاف .

{ فضل الله يؤتيه من يشاء } يمنحه ويوفق له { والله واسع } كثير الفضل . { عليم } بمن هو أهله .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَن يَرۡتَدَّ مِنكُمۡ عَن دِينِهِۦ فَسَوۡفَ يَأۡتِي ٱللَّهُ بِقَوۡمٖ يُحِبُّهُمۡ وَيُحِبُّونَهُۥٓ أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلۡكَٰفِرِينَ يُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوۡمَةَ لَآئِمٖۚ ذَٰلِكَ فَضۡلُ ٱللَّهِ يُؤۡتِيهِ مَن يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ} (54)

تقضَّى تحذيرهم من أعدائهم في الدّين ، وتجنيبهم أسباب الضعف فيه ، فأقبل على تنبيههم إلى أنّ ذلك حرص على صلاحهم في ملازمة الدّين والذبّ عنه ، وأنّ الله لا يناله نفع من ذلك ، وأنّهم لو ارتدّ منهم فريق أو نَفَر لم يضرّ الله شيئاً ، وسيكون لهذا الدّين أتباع وأنصار وإن صدّ عنه من صَدّ ، وهذا كقوله تعالى : { إن تكفروا فإنّ الله غنيّ عنكم ولا يرضى لعباده الكفر } [ الزمر : 7 ] ، وقوله : { يمنّون عليك أن أسلموا قل لا تمنّوا عليّ إسلامكم بل الله يمنّ عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين } [ الحجرات : 17 ] .

فجملة { يأيّها الّذين آمنوا من يرتدد منكم } الخ معترضة بين ما قبلها وبين جملة { إنّما وليّكم الله } [ المائدة : 55 ] ، دعت لاعتراضها مناسبة الإنذار في قوله { ومن يتولّهم منكم فإنّه منهم } [ المائدة : 51 ] . فتعْقِيبُها بهذا الاعتراض إشارة إلى أنّ اتّخاذ اليهود والنّصارى أولياء ذريعة للارتداد ، لأنّ استمرار فريق على مُوالاة اليهود والنّصارى من المنافقين وضعفاء الإيمان يخشى منه أن ينسلّ عن الإيمان فريق . وأنبأ المتردّدين ضعفاء الإيمان بأنّ الإسلام غنيّ عنهم إن عزموا على الارتداد إلى الكفر .

وقرأ نافع ، وابن عامر ، وأبو جعفر { من يرتَدِدْ } بدالين على فَكّ الإدغام ، وهو أحد وجهين في مثله ، وهو لغة أهل الحجاز ، وكذلك هو مرسوم في مصحف المدينة ومصحف الشام . وقرأ الباقون بدال واحدة مشدّدة بالإدغام ، وهو لغة تميم . وبفتحٍ على الدال فتحة تخلّص من التقاء الساكنين لخفّة الفتح ، وكذلك هو مرسوم في مصحف مكّة ومصحف الكوفة ومصحف البصرة .

والارتداد مطاوع الردّ ، والردّ هو الإرجاع إلى مكان أو حالة ، قال تعالى : { رُدّوها عليّ } [ ص : 33 ] . وقد يطلق الردّ بمعنى التّصيير { ومنكم من يردّ إلى أرذل العمر } [ النحل : 70 ] . وقد لوحظ في إطلاق اسم الارتداد على الكفر بعد الإسلام ما كانوا عليه قبل الإسلام من الشرك وغيره ، ثم غلب اسم الارتداد على الخروج من الإسلام ولو لم يسبق للمرتدّ عنه اتّخاذ دين قبله .

وجملة { فسوف يأتي الله بقوم } الخ جواب الشرط ، وقد حذف منها العائد على الشرط الإسمي ، وهو وعد بأنّ هذا الدّين لا يعدم أتباعاً بررة مخلصين . ومعنى هذا الوعد إظهار الاستغناء عن الّذين في قلوبهم مرض وعن المنافقين وقلّةُ الاكتراث بهم ، كقوله تعالى : { لوْ خرجوا فيكم مَا زادوكم إلاّ خَبالاً } وتطمين الرسول والمؤمنين الحقَّ بأنّ الله يعوّضهم بالمرتدِّين خيراً منهم . فذلك هو المقصود من جواب الشرط فاستغني عنه بذكر ما يتضمّنه حتّى كان للشرط جوابان .

وفي نزول هذه الآية في أواخر حياة الرسول صلى الله عليه وسلم إيماء إلى ما سيكون من ارتداد كثير من العرب عن الإسلام مثل أصحاب الأسْود العَنْسي باليمن ، وأصحاب طلحة بن خُويلد في بَني أسد ، وأصحاب مسيلمة بنِ حبيب الحَنفي باليمامة .

ثمّ إلى ما كان بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم من ارتداد قبائل كثيرة مثل فزارة وغطفان وبني تَميم وكِنْدة ونحوهم . قيل : لم يبق إلا أهل ثلاثة مساجد : مسجد المدينة ومسجد مكّة ومسجد ( جُؤَاثَى ) في البحرين ( أي من أهل المدن الإسلاميّة يومئذٍ ) . وقد صدق الله وعده ونصر الإسلام فأخلفه أجيالاً متأصّلة فيه قائمة بنصرته .

وقوله : { يأتي الله بقوم } ، الإتيان هنا الإيجاد ، أي يوجد أقواماً لاتّباع هذا الدّين بقلوب تحبّة وتجلب له وللمؤمنين الخير وتذود عنهم أعداءهم ، وهؤلاء القوم قد يكونون من نفس الّذين ارتدّوا إذا رجعوا إلى الإسلام خالصة قلوبهم ممّا كان يخامرها من الإعراض مثل معظم قبائل العرب وسادتهم الّذين رجعوا إلى الإسلام بعد الردّة زمن أبي بكر ، فإنّ مجموعهم غير مجموع الذين ارتدّوا ، فصحّ أن يكونوا ممّن شمله لفظ { بقوم } ، وتحقّق فيهم الوصف وهو محبّة الله إيّاهم ومحبّتهم ربّهم ودينه ، فإنّ المحبّتين تتبعان تغيّر أحوال القلوب لا تغيّر الأشخاص فإنّ عمرو بن معد يكرب الّذي كان من أكبر عصاة الردّة أصبح من أكبر أنصار الإسلام في يوم القادسيّة ، وهكذا .

ودَخل في قوله { بقوم } الأقوام الّذين دخَلوا في الإسلام بعد ذلك مثل عرب الشام من الغساسنة ، وعرب العراق ونبَطهم ، وأهل فارس ، والقبط ، والبَربر ، وفرنجة إسبانية ، وصقلّيَة ، وسردانية ، وتخوممِ فرانسا ، ومثل الترك والمغول ، والتتار ، والهند ، والصّين ، والإغريق ، والرّوم ، من الأمم الّتي كان لها شأن عظيم في خدمة الإسلام وتوسيع مملكته بالفتوح وتأييده بالعلوم ونشر حَضارته بين الأمم العظيمة ، فكلّ أمّة أو فريق أو قوم تحقّق فيهم وصف : { يحبّهم ويحبّونه أذلّة على المؤمنين أعزّة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم } فهُم من القوم المنوّه بهم ؛ أمَّا المؤمنون الّذين كانوا من قبل وثبتوا فأولئك أعظم شأناً وأقوى إيماناً فأتاهم المؤيّدون زَرافَات ووُحْدانا .

ومحبّة الله عبدَه رضاه عنه وتيسير الخير له ، ومحبّة العبد ربّه انفعال النّفس نحوَ تعظيمه والأنس بذكره وامتثال أمره والدّفاع عن دينه . فهي صفة تحصل للعبد من كثرة تصوّر عظمة الله تعالى ونِعمه حتّى تتمكّن من قلبه ، فمنشؤها السمع والتّصوّر . وليست هي كمحبّة استحسان الذّات ، ألا ترى أنّا نحبّ النّبيء صلى الله عليه وسلم من كثرة ما نسمع من فضائله وحرصه على خيرنا في الدّنيا والآخرة ، وتقوَى هذه المحبّة بمقدار كثرة ممارسة أقواله وذكر شمائله وتصرّفاته وهديه ، وكذلك نحبّ الخلفاء الأربعة لكثرة ما نسْمع من حبّهم الرسول ومن بذلهم غاية النصح في خير المسلمين ، وكذلك نحبّ حاتِماً لما نسمع من كرمه . وقد قالت هند بنت عتبة امرأةُ أبي سفيان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان أهلُ خباء أحبَّ إليّ من أن يذلّوا من أهل خبائك وقد أصبحت وما أهل خباء أحبّ إلي من أنْ يعزّوا من أهل خبائك .

والأذلّة والأعزّة وصفان متقابلان وصف بهما القوم باختلاف المتعلّق بهما ، فالأذلّة جمع الذليل وهو الموصوف بالذُلّ . والذلّ بضمّ الذال وبكسرها الهوان والطاعة ، فهو ضدّ العزّ { ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلّة } [ آل عمران : 123 ] . وفي بعض التّفاسير : الذلّ بضم الذال ضد العزّ وبكسر الذال ضدّ الصعوبة ، ولا يعرف لهذه التفرقة سند في اللغة . والذليل جمعه الأذلّة ، والصفة الذلّ { واخفِض لهما جناح الذلّ من الرّحمة } [ الإسراء : 24 ] . ويطلق الذلّ على لين الجانب والتّواضع ، وهو مجاز ، ومنه ما في هذه الآية . فالمراد هنا الذلّ بمعنى لين الجانب وتوطئة الكَنَف ، وهو شدّة الرّحمة والسّعي للنفع ، ولذلك علّق به قوله : { على المؤمنين } . ولتضمين { أذلّة } معنى مشفقين حانين عدّي بعلى دون اللام ، أو لمشاكلةِ ( على ) الثّانية في قوله : { على الكافرين } .

والأعزّة جمع العزيز فهو المتّصف بالعزّ ، وهو القّوة والاستقلال » ، ولأجل ما في طباع العرب من القوّة صار العزّ في كلامهم يدلّ على معنى الاعتداء ، ففي المثل ( من عَزّ بَزّ ) . وقد أصبح الوصفان متقابلين ، فلذلك قال السموأل أو الحارثي :

وما ضرّنا أنّا قليل وجارنا *** عزيز وجارُ الأكثرين ذليل

وإثبات الوصفين المتقابلين للقوم صناعة عربيّة بديعية ، وهي المسماة الطباق ، وبلغاء العرب يغربون بها ، وهي عزيزة في كلامهم ، وقد جَاء كثير منها في القرآن . وفيه إيماء إلى أن صفاتهم تُسيِّرُها آراؤهم الحصيفة فليسوا مندفعين إلى فعل مّا إلاّ عن بصيرة ، وليسوا ممّن تنبعث أخلاقه عن سجية واحدة بأن يكون ليّناً في كلّ حال ، وهذا هو معنى الخلق الأقوم ، وهو الّذي يكون في كلّ حال بما يلائم ذلك الحال ، قال :

حَلِيم إذا ما الحِلم زَيَّن أهلَه *** مع الحِلم في عين العَدُوّ مَهِيب

وقال تعالى : { أشدّاء على الكفّار رحماء بينهم } [ الفتح : 29 ] .

وقوله : { يجاهدون في سبيل الله } صفة ثالثة ، وهي من أكبر العلامات الدالّة على صدق الإيمان . والجهاد : إظهار الجُهد ، أي الطاقة في دفاع العدوّ ، ونهاية الجهد التّعرّض للقتل ، ولذلك جيء به على صيغة مصدر فَاعَلَ لأنّه يظهر جهده لمن يُظهر له مثله . وقوله : { ولا يخافون لومة لائم } صفة رابعة ، وهي عدم الخوف من الملامة ، أي في أمر الدّين ، كما هو السياق .

واللومة الواحدة من اللَّوم . وأريد بها هنا مطلق المصدر ، كاللّوْم لأنّها لمّا وقعت في سياق النّفي فعمّت زال منها معنى الوحدة كما يزول معنى الجمع في الجمع المعمَّم بدخول ال الجنسية لأنّ ( لا ) في عموم النّفي مثل ( ال ) في عموم الإثبات ، أي لا يخافون جميع أنواع اللّوم من جميع اللاّئمين إذ اللّوْم منه : شديد ، كالتقريع ، وخفيف ؛ واللائمون : منهم اللاّئم المخيف ، والحبيب ؛ فنفى عنهم خوفَ جميع أنواع اللّوم . ففي الجملة ثلاثة عمومات : عُموم الفعل في سياق النّفي ، وعموم المفعول ، وعموم المضاف إليه .

وهذا الوصف علامة على صدق إيمانهم حتّى خالط قلوبهم بحيث لا يصرفهم عنه شيء من الإغراء واللوم لأنّ الانصياع للملام آية ضعف اليقين والعزيمة .

ولم يزل الإعراض عن ملام اللائمين علامة على الثّقة بالنّفس وأصالة الرأي . وقد عَدّ فقهاؤنا في وصف القاضي أن يكون مستخفّاً باللاّئمَة على أحد تأويلين في عبارة المتقدّمين ، واحتمال التّأويلين دليل على اعتبار كليهما شرعاً .

وجملة { ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء } تذييل . واسم الاشارة إشارة إلى مجموع صفات الكمال المذكورة .

و { واسع } وصف بالسعة ، أي عدم نهاية التّعلّق بصفاته ذات التّعلق ، وتقدّم بيانه عند قوله تعالى : { قل إنّ الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم } في سورة آل عمران ( 73 ) .