الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَن يَرۡتَدَّ مِنكُمۡ عَن دِينِهِۦ فَسَوۡفَ يَأۡتِي ٱللَّهُ بِقَوۡمٖ يُحِبُّهُمۡ وَيُحِبُّونَهُۥٓ أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلۡكَٰفِرِينَ يُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوۡمَةَ لَآئِمٖۚ ذَٰلِكَ فَضۡلُ ٱللَّهِ يُؤۡتِيهِ مَن يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ} (54)

قوله سبحانه : { يا أيها الذين آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ . . . }[ المائدة :54 ] . خطابٌ للمؤمنين إلى يوم القيامة ، ومعنى الآية ، أَنَّ اللَّه عزَّ وجلَّ وعَدَ هذه الأمة أنَّ من ارتدَّ منها ، فإنه يجيءُ سبحانه بقومٍ ينصُرُونَ الدِّين ، ويُغْنُونَ عن المرتدِّين .

قال الفَخْر : وقدَّم اللَّه تعالى محبَّته لهم على محبَّتهم له ، إذ لولا حُبُّه لهم ، لما وفَّقهم أنْ صاروا محبِّين له ، انتهى . وفي كتاب «القصد إلى اللَّه سبحانه » ، للمُحَاسِبِيِّ : قُلْتُ للشيخ : فَهَلْ يَلْحَقُ المحبِّينَ للَّه عزَّ وجلَّ خَوْفٌ ؟ قال : نَعَمِ ، الخَوْفُ لازمٌ لهم ، كما لزمهم الإيمَانُ ، لا يزولُ إلاَّ بزَوَاله ، وهذا هو خَوْفُ عذابِ التَّقْصيرِ في بدايتهم ، حتى إذا صاروا إلى خَوْفِ الفَوْت ، صاروا إلى الخوف الذي يكُونُ في أعلى حالٍ ، فكان الخوف الأوَّلُ يطرقهم خطراتٍ ، وصارِ خوْفُ الفَوْتِ وطنات ، قلْتُ : فما الحالَةُ التي تَكْشِفُ عن قلوبهم شَدِيدَ الخَوْف والحُزْن ؟ قال : الرجاءُ بحُسْن الظَّنِّ ، لمعرفتهم بسعة فَضْل اللَّه عزَّ وجلَّ ، وأَمَلُهُمْ منه أنْ يظفروا بمرادهم ، إذا وَرَدُوا عليه ، ولولا حُسْن ظنِّهم بربِّهم ، لَتَقطَّعت أنفسهم حسراتٍ ، وماتوا كَمَداً ، قلْتُ : أيُّ شيءٍ أكثَرُ شُغْلِهِمْ ؟ وما الغالبُ على قلوبِهِمْ في جميعِ أحوالهم ؟ قال : كثرةُ الذِّكْر لمحبوبهم على طريق الدوامِ والاستقامةِ ، لا يَمَلُّونَ ، ولا يَفْتُرُون ، وقد أجمع الحكماءُ أنَّ من أحَبَّ شيئاً ، أكْثَرَ مِنْ ذكره ، ثم قال ذُو النُّونِ : مَا أُولِعَ أحَدٌ بذكْرِ اللَّه إلا أفاد منْهُ حُبَّ اللَّهِ تعالَى ، انتهى .

وفي الآية إنحاءٌ على المنافِقِينَ ، وعلى من ارتد في مدة النبيِّ صلى الله عليه وسلم .

قال الفَخْر : وهذه الآيةُ إخبارٌ بغَيْبٍ ، وقد وقع الخَبَر على وَفْقِهِ ، فيكون معجزاً ، وقد ارتدَّتِ العربُ وغيرهم أيام أبِي بَكْر ، فنَصَر اللَّه الدِّين ، وأتى بخَيْرٍ منهم ، انتهى .

وقوله سبحانه : { أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين } معناه : متذلِّلين مِنْ قِبَلِ أنفسهم ، غَيْرَ متكبِّرين ، وهذا كقوله عزَّ وجلَّ : { أَشِدَّاء عَلَى الكفار ، رُحَمَاء بَيْنَهُمْ }[ الفتح :14 ] ، وكقوله عليه السلام : ( المُؤْمِنُ هَيِّنٌ لَيِّنٌ ) ، وفي قراءة ابن مسعودٍ : ( أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ غُلَظَاءَ عَلَى الكَافِرِينَ ) .

وقوله تعالى : { وَلاَ يخافون لَوْمَةَ لائِمٍ } إشارةٌ إلى الرَّدِّ على المنافقين في أَنَّهم يعتَذِرُونَ بممالاَة الأحْلاَفِ والمعارِفِ مِنَ الكفَّار ، ويراعُونَ أمرهم ، قُلْتُ : وخرَّج أبو بكرِ بْنُ الخطيبِ بسنده على أبي ذِر ، قال : " أَوْصَانِي النبيُّ صلى الله عليه وسلم بِسَبْعٍ : أوْصَانِي أَنْ أَنْظُرَ إلى مَنْ هُوَ دُونِي ، وَلاَ أَنْظُرَ إلى مَنْ هُوَ فَوْقِي ، ( يعني : فِي شَأْنِ الدُّنْيَا ) ، وأوْصَانِي بِحُبِّ المَسَاكِينِ وَالدُّنُوِّ مِنْهُمْ ، وَأَوْصَانِي أَنْ أَقُولَ الحَقَّ وَإنْ كَانَ مُرًّا ، وَأَوْصَانِي أَنْ أَصِلَ رَحِمِي وَإنْ أَدْبَرَتْ ، وَأَوْصَانِي أَن لاَّ أَخَافَ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لاَئِمٍ ، وَأَوْصَانِي أن لاَّ أَسْأَلَ النَّاسَ شَيْئاً ، وَأَوْصَانِي أَنْ أسْتَكْثِرَ مِنْ : ( لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ بِاللَّهِ ) ، انتهى .

وقوله سبحانه : { ذلك فَضْلُ الله } الإشارةُ ب «ذلك » إلى كون القومِ يحبُّون اللَّه عزَّ وجلَّ ، ويحبُّهم ، وَوَاسِع : معناها ذو سَعَةٍ فيما يملكُ ، ويُعْطِي وينعم به سبحانه .