الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَن يَرۡتَدَّ مِنكُمۡ عَن دِينِهِۦ فَسَوۡفَ يَأۡتِي ٱللَّهُ بِقَوۡمٖ يُحِبُّهُمۡ وَيُحِبُّونَهُۥٓ أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلۡكَٰفِرِينَ يُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوۡمَةَ لَآئِمٖۚ ذَٰلِكَ فَضۡلُ ٱللَّهِ يُؤۡتِيهِ مَن يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ} (54)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره للمؤمنين بالله وبرسوله:"يا أيّها الّذِين آمَنُوا": أي صدّقوا لله ورسوله، وأقرّوا بما جاءهم به نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، "مَنْ يَرْتَدّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ": من يرجع منكم عن دينه الحقّ الذي هو عليه اليوم، فيبدّله ويغيره بدخوله في الكفر، إما في اليهودية أو النصرانية أو غير ذلك من صنوف الكفر، فلن يضر الله شيئا، وسيأتي الله "بقوم يحبهم ويحبونه "يقول: فسوف يجيء الله بدلاً منهم المؤمنين الذين لم يبدّلوا ولم يغيروا ولم يرتدّوا، بقوم خير من الذين ارتدّوا وبدّلوا دينهم، يحبهم الله ويحبون الله. وكان هذا الوعيد من الله لمن سبق في علمه أنه سيرتدّ بعد وفاة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وكذلك وعده من وعد من المؤمنين ما وعده في هذا الآية، لمن سبق له في علمه أنه لا يبدّل ولا يغير دينه ولا يرتدّ. فلما قبض الله نبيه صلى الله عليه وسلم ارتدّ أقوام من أهل الوبر وبعض أهل المدر، فأبدل الله المؤمنين بخير منهم كما قال تعالى ذكره، ووفى للمؤمنين بوعده، وأنفذ فيمن ارتدّ منهم وعيده...

ثم اختلف أهل التأويل في أعيان القوم الذين أتى الله بهم المؤمنين وأبدل المؤمنين مكان من ارتدّ منهم؛

فقال بعضهم: هو أبو بكر الصدّيق وأصحابه الذين قاتلوا أهل الردّة حتى أدخلوهم من الباب الذي خرجوا منه.

وقال آخرون: يعني بذلك قوما من أهل اليمن، وقال بعض من قال ذلك منهم: هم رهط أبي موسى الأشعري عبد الله بن قيس.

حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن سماك بن حرب، عن عياض الأشعري، قال: لما نزلت هذه الآية: "يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبّهُمْ ويُحبّونَهُ "قال: أومأ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي موسى بشيء كان معه، فقال: «هُمْ قَوْمُ هَذَا».

وقال آخرون منهم: بل هم أهل اليمن جميعا.

وقال آخرون: هم أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم. وتأويل الآية على قول من قال: عنى الله بقوله: "فَسَوفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبّهُمْ ويُحبّونَهُ" أبا بكر وأصحابه في قتالهم أهل الردّة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فلن يضر الله شيئا، وسيأتي الله من ارتدّ منكم عن دينه بقوم يحبهم ويحبونه، ينتقم بهم منهم على أيديهم. وأما على قول من قال: عني بذلك: أهل اليمن فإن تأويله: يا أيها الذين آمنوا، من يرتدّ منكم عن دينه، فسوف يأتي الله المؤمنين الذين لم يرتدّوا بقوم يحبهم ويحبونه، أعوانا لهم وأنصارا.

عن ابن عباس: "يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ" وعيد من الله أنه من ارتدّ منكم أنه سيستبدل خيرا منهم.

وأما على قول من قال: عني بذلك الأنصار، فإن تأويله في ذلك نظير تأويل من تأوله أنه عني به أبو بكر وأصحابه.

وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب، ما رُوي به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم أهل اليمن قوم أبي موسى الأشعري. ولولا الخبر الذي رُوي في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخبر الذي روي عنه ما كان القول عندي في ذلك إلاّ قول من قال: هم أبو بكر وأصحابه وذلك أنه لم يقاتل قوما كانوا أظهروا الإسلام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ارتدّوا على أعقابهم كفارا غير أبي بكر ومن كان معه ممن قاتل أهل الردة معه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنا تركنا القول في ذلك للخبر الذي رُوي فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن كان صلى الله عليه وسلم معدن البيان عن تأويل ما أنزل الله من وحيه وآي كتابه.

فإن قال لنا قائل: فإن كان القوم الذين ذكر الله أنه سيأتي بهم عند ارتداد من ارتدّ عن دينه ممن كان قد أسلم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، هم أهل اليمن، فهل كان أهل اليمن أيام قتال أبي بكر أهل الردّة أعوان أبي بكر على قتالهم، حتى تستجيز أن توجه تأويل الآية إلى ما وجهت إليه؟ أم لم يكونوا أعوانا له عليهم، فكيف استجزت أن توجه تأويل الآية إلى ذلك، وقد علمت أنه لا خلف لوعد الله؟ قيل له: إن الله تعالى ذكره لم يعد المؤمنين أن يبدلهم بالمرتدّين منهم يومئذٍ خيرا المرتدّين لقتال المرتدّين، وإنما أخبر أنه سيأتيهم بخير منهم بدلاً منهم، يعد فعل ذلك بهم قريبا غير بعيد، فجاء بهم على عهد عمر، فكان موقعهم من الإسلام وأهله أحسن موقع، وكانوا أعوان أهل الإسلام وأنفع لهم ممن كان ارتدّ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من طَغَام الأعراب وجفاة أهل البوادي الذين كانوا على أهل الإسلام كَلاّ لا نفعا.

"أذِلّةٍ على المُؤْمِنِينَ": أرقاء عليهم رحماء بهم، من قول القائل: ذلّ فلان لفلان: إذا خضع له واستكان.

"أعِزّةٍ على الكافِرِينَ": أشدّاء عليهم غلظاء بهم، من قول القائل: قد عزّني فلان: إذا أظهر العزّة من نفسه له، وأبدى له الجفوة والغلظة.

"يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ": هؤلاء المؤمنين الذين وعد الله المؤمنين أن يأتيهم بهم إن ارتدّ منهم مرتدّ بدلاً منهم، يجاهدون في قتال أعداء الله، على النحو الذي أمر الله بقتالهم والوجه الذي أذن لهم به، ويجاهدون عدوّهم، فذلك مجاهدتهم في سبيل الله. "وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائمٍ": ولا يخافون في ذات الله أحدا، ولا يصدّهم عن العمل بما أمرهم الله به من قتال عدوّهم لومة لائم لهم في ذلك. "ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ": هذا النعت الذي نعتهم به تعالى ذكره من أنهم أذلة على المؤمنين، أعزّة على الكافرين، يجاهدون في سبيل الله، ولا يخافون في الله لومة لائم، فضل الله الذي تفضل به عليهم، والله يؤتي فضله من يشاء من خلقه، منّةً عليه وتطوّلاً. "وَاللّهُ وَاسِعٌ": والله جواد بفضله على من جاد به عليه، لا يخاف نفاد خزائنه فيكفّ من عطائه. "عَليمٌ" بموضع جوده وعطائه، فلا يبذله إلاّ لمن استحقه، ولا يبذل لمن استحقه إلاّ على قدر المصلحة، لعلمه بموضع صلاحه له من موضع ضرّه.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه} إن قوله تعالى: {من يرتد} وإن كان حرف توحيد وتفريد فإن المراد منه الجماعة والعصابة، ولأن الواحد أو الاثنين إذا ارتد عن الإسلام يؤخذ، ويحبس، ويقتل، إن أبى الإسلام، والجماعة إذا ارتدوا عن الإسلام احتيج إلى نصب الحرب والقتال على [ما] نصب مع أهل الردة. وفي الآية دلالة إمامة أبي بكر الصديق رضي الله عنه لأن العرب لما ارتدت عن الإسلام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حاربهم، وكان هو ومن قام بحربهم ممن أحب الله، وأحبه الله...

أحكام القرآن للجصاص 370 هـ :

وفي الآية دلالة على صحة إمامة أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ رضي الله عنهم، وذلك لأن الذين ارتدّوا من العرب بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إنما قاتلهم أبو بكر وهؤلاء الصحابة، وقد أخبر الله أنه يحبهم ويحبونه وأنهم يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لَوْمَةَ لائم، ومعلوم أن من كانت هذه صفته فهو وليّ الله...

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

جعل صفة من لا يرتدُّ عن الدين أن اللهَ يحبه ويحبُّ الله، وفي ذلك بشارة عظيمة للمؤمنين لأنه يجب أن يُعْلَمَ أن من كان غير مرتد فإنَّ الله يحبه. وفيه إشارة دقيقة؛ فإن من كان مؤمناً يجب أن يكون لله محباً، فإذا لم تكن له محبة فالخطر بصحة إيمانه...

ومحبة الحق للعبد لا تخرج عن وجوه: إمَّا أن تكون بمعنى الرحمة عليه أو بمعنى اللطف والإحسان إليه، والمدح والثناء عليه. أو يقال إنها بمعنى إرادته لتقريبه وتخصيص محله...

وأمَّا محبة العبد لله -سبحانه- فهي حالة لطيفة يجدها في قلبه، وتحمله تلك الحالة على إيثارِ موافقة أمره، وتَرْكِ حظوظ نفسه، وإيثارِ حقوقه -سبحانه- بكل وجه...

جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :

وما ورد من الألفاظ في حبه لعباده فهو مؤول، ويرجع معناه إلى كشف الحجاب عن قلبه حتى يراه بقلبه وإلى تمكينه إياه من القرب منه وإلى إرادته ذلك في الأزل. فحبه لمن أحبه أزلي مهما أضيف إلى الإرادة الأزلية التي اقتضت تمكين هذا العبد من سلوك طرق هذا القرب، وإذا أضيف إلى فعله الذي يكشف الحجاب عن قلب عبده فهو حادث يحدث بحدوث السبب المقتضي له كما قال تعالى: (لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه) فيكون تقربه بالنوافل سببا لصفاء وارتفاع الحجاب عن قلبه وحصوله في درجة القرب من ربه، فكل ذلك فعل الله تعالى ولطفه به فهو في معنى حبه. [الإحياء: 4/346].

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} محبة العباد لربهم طاعته وابتغاء مرضاته، وأن لا يفعلوا ما يوجب سخطه وعقابه، ومحبة الله لعباده أن يثيبهم أحسن الثواب على طاعتهم ويعظمهم ويثني عليهم ويرضى عنهم...

فإن قلت: أين الراجع من الجزاء إلى الاسم المتضمن لمعنى الشرط؟ قلت: هو محذوف معناه: فسوف يأتي الله بقوم مكانهم أو بقوم غيرهم، أو ما أشبه ذلك. {أَذِلَّةٍ} جمع ذليل. وأما ذلول فجمعه ذلل. ومن زعم أنه من الذلّ الذي هو نقيض الصعوبة، فقد غبى عنه أن ذلولاً لا يجمع على أذلة.

فإن قلت: هلا قيل أذلة للمؤمنين أعزة على الكافرين؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما أن يضمن الذلّ معنى الحنوّ والعطف كأنه قيل: عاطفين عليهم على وجه التذلل والتواضع. والثاني: أنهم مع شرفهم وعلو طبقتهم وفضلهم على المؤمنين خافضون لهم أجنحتهم، ونحوه قوله عزّ وجلّ: {أَشِدَّاء عَلَى الكفار رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] وقرئ: أذلة وأعزة بالنصب على الحال. {وَلاَ يخافون لَوْمَةَ لائِمٍ} يحتمل أن تكون الواو للحال، على أنهم يجاهدون وحالهم في المجاهدة خلاف حال المنافقين، فإنهم كانوا موالين لليهود -لعنت- فإذا خرجوا في جيش المؤمنين خافوا أولياءهم اليهود، فلا يعملون شيئاً مما يعلمون أنه يلحقهم فيه لوم من جهتهم. وأمّا المؤمنون فكانوا يجاهدون لوجه الله لا يخافون لومة لائم قط. وأن تكون للعطف، على أن من صفتهم المجاهدة في سبيل الله، وأنهم صلاب في دينهم، إذا شرعوا في أمر من أمور الدين إنكار منكر أو أمر بمعروف، مضوا فيه كالمسامير المحماة، لا يرعبهم قول قائل ولا اعتراض معترض ولا لومة لائم، يشقّ عليه جدهم في إنكارهم وصلابتهم في أمرهم. واللومة: المرّة من اللوم، وفيها وفي التنكير مبالغتان كأنه قيل: لا يخافون شيئاً قط من لوم أحد من اللوام. و {ذلك} إشارة إلى ما وصف به القوم من المحبة والذلة والعزة والمجاهدة وانتفاء خوف اللومة {يُؤْتِيهُ} يوفق له {مَن يَشَآءُ} ممن يعلم أنّ له لطفاً. {واسع} كثير الفواضل والألطاف {عَلِيمٌ} بمن هو من أهلها.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

ومعنى الآية عندي أن الله وعد هذه الأمة من ارتد منها فإنه يجيء بقوم ينصرون الدين ويغنون عن المرتدين، فكان أبو بكر وأصحابه ممن صدق فيهم الخبر في ذلك العصر، وكذلك هو عندي أمر عليّ مع الخوارج. وروى أبو موسى الأشعري أنه لما نزلت هذه الآية قرأها النبي صلى الله عليه وسلم وقال: هم قوم هذا يعني أبا موسى الأشعري... ومعنى الآية على هذا القول مخاطبة جميع من حضر عصر النبي صلى الله عليه وسلم على معنى التنبيه لهم والعتاب والتوعد.

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

{أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} هذه صفات المؤمنين الكُمَّل أن يكون أحدهم متواضعًا لأخيه ووليه، متعززًا على خصمه وعدوه، كما قال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]. وفي صفة النبي صلى الله عليه وسلم أنه:"الضحوك القتال" فهو ضحوك لأوليائه قتال لأعدائه.

وقوله [تعالى] {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} أي: لا يردهم عما هم فيه من طاعة الله، وقتال أعدائه، وإقامة الحدود، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا يردهم عن ذلك راد، ولا يصدهم عنه صاد، ولا يحيك فيهم لوم لائم ولا عذل عاذل.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما نهى عن موالاتهم وأخبر أن فاعلها منهم. نفى المجاز مصرحاً بالمقصود فقال مظهراً لنتيجة ما سبق: {يا أيها الذين آمنوا} أي أقروا بالإيمان! من يوالهم منكم -هكذا كان الأصل، ولكنه صرح بأن ذلك ترك الدين فقال: {من يرتد} ولو على وجه خفي- بما أشار إليه الإدغام في قراءة من سوى المدنيين وابن عامر {منكم عن دينه} أي الذي معناه موالاة أولياء الله ومعاداة أعداء الله، فيوالون أعداءه ويتركون أولياءه، فيبغضهم الله ويبغضونه، ويكونون أعزة على المؤمنين أذلة على الكافرين، فالله غني عنهم {فسوف يأتي الله} اي الذي له الغنى المطلق والعظمة البالغة مكانهم وإن طال المدى بوعد صادق لا خلف فيه {بقوم} أي يكون حالهم ضد حالهم، يثبتون على دينهم، وهم أبو بكر والتابعون له بإحسان -رضي الله عنهم.

ولما كانت محبته أصل كل سعادة قدمها فقال: {يحبهم} فيثبتهم عليه ويثيبهم بكرمه أحسن الثواب {ويحبونه} فيثبتون عليه، ثم وصفهم بما يبين ذلك فقال: {أذلة} وهو جمع ذليل؛ ولما كان ذلهم هذا إنما هو الرفق ولين الجانب لا الهوان، كان في الحقيقة عزاً، فأشار إليه بحرف الاستعلاء مضمناً له معنى الشفقة، فقال مبيناً أن تواضعهم عن علو منصب وشرف: {على المؤمنين} أي لعلمهم أن الله يحبهم {أعزة على الكافرين} أي يظهرون الغلظة والشدة عليهم لعلمهم أن الله خاذلهم ومهلكهم وإن اشتد أمرهم وظهر علوهم وقهرهم، فالآية من الاحتباك: حذف أولاً البغض وما يثمره لدلالة الحب عليه، وحذف ثانياً الثبات لدلالة الردة عليه؛ ثم علل ذلك بقوله: {يجاهدون} أي يوقعون الجهاد على الاستمرار لمن يستحقه من غير ملال ولا تكلف كالمنافقين، وحذف المفعول تعميماً ودل عليه مؤذناً بأن الطاعة محيطة بهم فقال: {في سبيل الله} أي طريق الملك الأعظم الواسع المستقيم الواضح، لا لشيء غير ذلك كالمنافقين.

ولما كان المنافقون يخرجون في الجهاد، فصلهم منهم بقوله: {ولا} أي والحال أنهم لا {يخافون لومة} أي واحدة من لوم {لائم} وإن كانت عظيمة وكان هو عظيماً، فبسبب ذلك هم صلاب في دينهم، إذا شرعوا في أمر من أمور الدين- أمر بالمعروف أو نهي عن منكر -كانوا كالمسامير المحماة، لا يروِّعهم قول قائل ولا اعتراض معترض، ويفعلون في الجهاد في ذلك جميع ما تصل قدرتهم وتبلغ قوتهم إليه من إنكال الأعداء وإهانتهم ومناصرة الأولياء ومعاضدتهم، وليسوا كالمنافقين يخافون لومة أوليائهم من اليهود فلا يفعلون وإن كانوا مع المؤمنين شيئاً ينكيهم.

ولما كانت هذه الأوصاف من العلو في رتب المدح بمكان لا يلحق، قال مشيراً إليها بأداة البعد واسم المذكر: {ذلك} أي الذي تقدم من أوصافهم العالية {فضل الله} أي الحاوي لكل كمال {يؤتيه} أي الله لأنه خالق لجميع أفعال العباد {من يشاء} أي فليبذل الإنسان كل الجهد في طاعته لينظر إليه هذا النظر برحمته {والله} أي الذي له الإحاطة الكاملة {واسع} أي محيط بجميع أوصاف الكمال، فهو يعطي من سعة ليس لها حد ولا يلحقها أصلاً نقص {عليم} أي بالغ العلم بمن يستحق الخير ومن يستوجب غيره، وبكل ما يمكن علمه.

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

هذه الآيات من تتمة السياق السابق، فلما كان من يتولى الكافرون من دون المؤمنين يعد منهم، كان أولئك الذين يسارعون فيهم من مرضى القلوب مرتدين بتوليتهم إياهم. فإن أخفوا ذلك فإظهارهم للإيمان نفاق. ولما بين الله حالهم، أراد أن يبين حقيقة يدعمها بخبر من الغيب يظهره الزمن المستقبل، وهي أن المنافقين ومرضى القلوب لا غناء فيهم، ولا يعتد بهم في نصر الدين وإقامة الحق، وإنما يقيم الله الدين ويؤيده بالمؤمنين الصادقين، الذين يحبهم الله فيزيدهم رسوخا في الحق وقوة على إقامته، ويحبونه فيؤثرون ما يحبه من إقامة الحق والعدل. وإتمام حكمته في الأرض، على سائر محبوباتهم، من مال ومتاع وأهل وولد. هذه هي الحقيقة. أما خبر الغيب فهو أنه سيرتد بعض الذين آمنوا عن الإسلام جهرا فلا يضره ذلك، لأن الله تعالى يسخر له من ينصره ويجاهد لحفظه، فقال:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ}: والمعنى أن من يرتد منكم يا جماعة الذين دخلوا في أهل الإيمان عن دينه لعدم لرسوخه، فسوف يأتي الله مكانهم أو بدلا منهم بقوم راسخين في الإيمان يحبهم ويحبونه الخ ما ذكره من صفات المؤمنين الصادقين...

فالقوم الذين يحبهم الله ويحبونه على هذا هم أبو بكر وأصحابه الذين قاتلوا أهل الردة. ونقل المفسرون هذا القول عن علي المرتضى والحسن وقتادة والضحاك. ورووا عن السدي أنه قال: إنهم الأنصار لأنهم هم الذين نصروا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقيل هم الفرس لحديث ورد في مناقب سلمان أنهم قومه، ولكنه ضعيف. وقيل نزلت في علي كرم الله وجهه، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعد في خيبر بأن يعطي الراية غدا رجلا يحبه الله، ثم أعطاها عليا. وليس هذا بدليل، ولفظ القوم لا يجري على الواحد لأنه نص في الجماعة. وغلاة الرافضة يزعمون أن الذين ارتدوا عن دينهم هم أبو بكر ومن شايعه من الصحابة وهم السواد الأعظم فقلبوا الموضوع. ولكن عليا كان مع أبي بكر لا عليه ولم يقاتله. هذه دسيسة من زنادقة الفرس وساستهم الذين كانوا يريدون الانتقام من أبي بكر وعمر لفتحهما بلادهم وإزالتهما لملكهم. وخيار مسلمي الفرس نصروا الإسلام فيدخلون في عموم الآية إذا جعلت لعموم من تتحقق فيهم تلك الصفات.

وروى أهل التفسير المأثور حديثا مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال في القوم الذين يحبهم الله ويحبونه أنهم قوم أبي موسى الأشعري. وروي عن بعضهم أنهم من أهل اليمن على الإطلاق، والأشعريون من أهل اليمن. وفي رواية هم أهل سبأ. وفي حديث أخر (هؤلاء قوم من أهل اليمن من كندة ثم من السكون ثم التجيب)...

ولقائل أن يقول: إن الآية تصدق في كل من اتصف بمضمونها، ومن أشار إليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن قاتلوا المرتدين هم أهلها بالأولى...

وأبو بكر هو الذي قاتل جماهير المرتدين بمن معه من المهاجرين والأنصار، فهم الذين تصدق عليهم صفات الآية أو بالذات.

وصف الله هؤلاء الكملة من المؤمنين بست صفات:

الأولى: أنه تعالى يحبهم. فالحب من الصفات التي أسندت إلى الله تعالى في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فهو تعالى يحب ويبغض كما يليق بشأنه. ولا يشبه حبه حب البشر، لأنه لا يشبه البشر {ليس كمثله شيء} [الشورى:11] وكذلك علمه لا يشبه علم البشر ولا قدرته تشبه قدرتهم. ولا نتأول حبه بالإثابة وحسن الجزاء كما تأولته المعتزلة وكثير من الأشاعرة، فرارا من التشبيه إلى التنزيه، إذ لا تنافي بين إثبات الصفات وتنزيه الذات، وإلا احتجنا إلا تأويل العلم والقدرة والإرادة، وهم لا يتأولونها، ولا يخرجون معانيها عن ظواهر ألفاظها. فمحبته تعالى لمستحقيها من عباده شأن من شؤونه اللائقة به، لا نبحث عن كنهها وكيفيتها. وحسن الجزاء من المغفرة والإثابة قد يكون من آثارها، قال تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم} [آل عمران: 31] فجعل اتباع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم سببا لمحبة الله تعالى للمتبعين وللمغفرة. فكل من المحبة والمغفرة جزاء مستقل إذ العطف يقتضي المغايرة.

الصفة الثانية: أنهم يحبون الله تعالى، وحب المؤمنين الصادقين لله تعالى ثبت في آيات غير هذه من كتاب الله تعالى كقوله: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله} [البقرة: 165] وقوله تعالى: {قل إن كان آباؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره} [التوبة: 95].

وفي حديث أنس المرفوع في الصحيحين (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان -أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا الله – وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار) وحديثه الآخر في الصحيحين أيضا: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال يا رسول الله متى الساعة؟ قال: (ما أعددت لها)؟ قال: ما أعددت لها كبير صلاة ولا صيام إ أني أحب الله ورسوله. فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (المرء مع من أحب) قال أنس ما رأيت المسلمين فرحوا بشيء بعد الإسلام فرحهم بذلك.

وقد تأول هذا الحب بعض الناس أيضا فقالوا إن المراد به المواظبة على الطاعة إذ يستحيل أن يحب الإنسان إلا ما يجانسه. ويرد هذا قوله تعالى: {أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله} فإنه جعل الجهاد غير الحب وحديث الأعرابي المذكور آنفا، فإنه فرق بين الحب والعمل، وجعل عدته للساعة الحب دون كثرة العمل الصالح، نعم إن الحب يستلزم الطاعة ويقتضيها بسنة الفطرة...

وقد أطال أبو حامد الغزالي في كتاب المحبة من الإحياء في بيان محبة الله لعباده ومحبة عباد له، والرد على المنكرين المحرومين، فجاء بما يطمئن به القلب وتسكن له النفس، وينثلج به الصدر. وللمحقق ابن القيم كلام في ذلك هو أدق تحريرا، وأشد على الكتاب والسنة انطباقا، ولسيرة سلف الأمة موافقة. ولولا أن هذا الجزء من التفسير قد طال جدا لحررت هذه الموضوع هنا وأتيت بخلاصة أقوال النفاة المعترضين، وصفوة أقوال المثبتين، ولكننا نرجئ هذا إلى تفسير آية أخرى كآية التوبة (9 – 25) وقد بينا معنى حب الله من قبل في تفسير {ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداد يحبونهم كحب الله} [البقرة: 165] فحسبك الرجوع إليه الآن (ج 2 من التفسير).

الصفتان الثالثة والرابعة: الذلة على المؤمنين والعزة على الكافرين، والمروي في تفسيرهما أنهما بمعنى قوله تعالى: {أشداء على الكفار رحماء بينهم} [الفتح: 29] وقال الزمخشري: (أذلة) جمع ذليل وأما (ذلول) فجمعه ذلل (ككتب). ووجه قوله: (أذلة على المؤمنين) دون (أذلة للمؤمنين) بوجهين أحدهما أن يضمن الذل الحنو والعطف. كأنه قال: عاطفين عليهم على وجه التذلل والتواضع. والثاني أنهم مع شرفهم وعلو طبقتهم وفضلهم على المؤمنين خافضون لهم أجنحتهم.

الصفة الخامسة: الجهاد في سبيل الله، وهو من أخص صفات المؤمنين الصادقين. وأصل الجهاد احتمال الجهد والمشقة. وسبيل الله طريق الحق والخير الموصلة إلى مرضاة الله تعالى. وأعظم الجهاد بذل النفس والمال في قتال أعداء الحق، وهو أكبر آيات المؤمنين الصادقين، وأما المنافقون فقد قال الله تعلى فيهم {لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا، ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة} [التوبة: 47] وضعاف الإيمان قد يجاهدون، ولكن في سبيل منفعتهم دون سبيل الله. فإن رأوا ظفرا وغنيمة ثبتوا، وإن رأوا شدة وخسارة انهزموا. وهل المراد بهذا الجهاد هنا قتال المرتدين أم هو على إطلاقه؟ الظاهر الثاني ولكنه يتناول مقاتلي المرتدين في الصدر الأول أولا وبالأولى.

الصفة السادسة: كونهم لا يخافون لومه لائم. وجملة هذا الوصف معطوفة على التي قبلها أو مبينة لحال المجاهدين، وفيها تعريض بالمنافقين الذين كانوا يخافون لوم أوليائهم من اليهود لهم إذا هم قاتلوا مع المؤمنين. والأبلغ أن تكون للوصف المطلق، أي أنهم لتملكنهم في الدين ورسوخهم في الإيمان، لا يخافون لومة ما من أفراد اللوم أو أنواعه، من لائم ما كائنا من كان، لأنهم لا يعملون العمل رغبة في جزاء أو ثناء من الناس، ولا خوفا من مكروه يصيبهم منهم فيخافون لوم هذا أو ذاك، وإنما يعملون العمل لإحقاق الحق وإبطال الباطل، وتقرير المعروف وإزالة المنكر، ابتغاء مرضاة الله تعالى بتزكية أنفسهم وترقيتها.

{ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء} أي ذلك الذي ذكر من الصفات الست فضل الله يعطيه من يشاء من عباده، فيفضلون غيرهم به وبما يترتب عليه من الأعمال. وقد بينا مرارا أن مشيئته سبحانه لمثل هذا الفضل تجري بحسب سننه التي أقام بها أمر النظام في خلقه، فمنهم الكسب والعمل النفسي والبدني، ومنه سبحانه آلات الكسب والقوى البدنية والعقلية، والتوفيق والهداية الخاصة واللطف والمعونة {والله ذو الفضل العظيم} فلا ينبغي للمؤمن أن يغفل عن فضله ومنته، وما يقتضيه من شكره وعبادته.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

وإذ ينتهي السياق من النداء الأول للذين آمنوا، أن ينتهوا عن موالاة اليهود والنصارى، وأن يحذروا أن يصيروا منهم بالولاء لهم، وأن يرتدوا بذلك عن الإسلام -وهم لا يشعرون أو لا يقصدون- يرسل بالنداء الثاني، يهدد من يرتد منهم عن دينه -بهذا الولاء أو بسواه من الأسباب- بأنه ليس عند الله بشيء، وليس بمعجز الله ولا ضار بدينه، وأن لدين الله أولياء وناصرين مدخرين في علم الله، إن ينصرف هؤلاء يجيء بهؤلاء. ويصور ملامح هذه العصبة المختارة المدخرة في علم الله لدينه، وهي ملامح محببة جميلة وضيئة. ويبين جهة الولاء الوحيدة التي يتجه إليها المسلم بولائه. ويختم هذا النداء بتقرير النهاية المحتومة للمعركة التي يخوضها حزب الله مع الأحزاب! والتي يتمتع بها من يخلصون ولاءهم لله ولرسوله وللمؤمنين: (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه، أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين، يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم. ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم. إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون. ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون)..

إن تهديد من يرتد عن دينه من الذين آمنوا -على هذه الصورة. وفي هذا المقام- ينصرف -ابتداء- إلى الربط بين موالاة اليهود والنصارى وبين الارتداد عن الإسلام. وبخاصة بعد ما سبق من اعتبار من يتولاهم واحدًا منهم، منسلخا من الجماعة المسلمة منضما إليهم: (ومن يتولهم منكم فإنه منهم).. وعلى هذا الاعتبار يكون هذا النداء الثاني في السياق توكيدا وتقريرا للنداء الأول.. يدل على هذا كذلك النداء الثالث الذي يلي هذا النداء والسياق، وهو منصب على النهي عن موالاة أهل الكتاب والكفار، يجمع بينهم على هذا النحو، الذي يفيد أن موالاتهم كموالاة الكفار سواء، وأن تفرقة الإسلام في المعاملة بين أهل الكتاب والكفار، لا تتعلق بقضية الولاء، إنما هي في شئون أخرى لا يدخل فيها الولاء..

(يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه، فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه، أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين، يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم. ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم)..

إن اختيار الله للعصبة المؤمنة، لتكون أداة القدر الإلهي في إقرار دين الله في الأرض، وتمكين سلطانه في حياة البشر، وتحكيم منهجه في أوضاعهم وأنظمتهم، وتنفيذ شريعته في أقضيتهم وأحوالهم، وتحقيق الصلاح والخير والطهارة والنماء في الأرض بذلك المنهج وبهذه الشريعة.. إن هذا الاختيار للنهوض بهذا الأمر هو مجرد فضل الله ومنته. فمن شاء أن يرفض هذا الفضل وأن يحرم نفسه هذه المنة.. فهو وذاك، والله غنى عنه -وعن العالمين. والله يختار من عباده من يعلم أنه أهل لذلك الفضل العظيم.

والصورة التي يرسمها للعصبة المختارة هنا، صورة واضحة السمات قوية الملامح، وضيئة جذابة حبيبة للقلوب:

(فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه)..

فالحب والرضى المتبادل هو الصلة بينهم وبين ربهم.. الحب.. هذا الروح الساري اللطيف الرفاف المشرق الرائق البشوش.. هو الذي يربط القوم بربهم الودود.

وحب الله لعبد من عبيده، أمر لا يقدر على إدراك قيمته إلا من يعرف الله- سبحانه -بصفاته كما وصف نفسه، وإلا من وجد إيقاع هذه الصفات في حسه ونفسه وشعوره وكينونته كلها.. أجل لا يقدر حقيقة هذا العطاء إلا الذي يعرف حقيقة المعطي.. الذي يعرف من هو الله.. من هو صانع هذا الكون الهائل، وصانع الإنسان الذي يلخص الكون وهو جرم صغير! من هو في عظمته. ومن هو في قدرته. ومن هو في تفرده. ومن هو في ملكوته.. من هو ومن هذا العبد الذي يتفضل الله عليه منه بالحب.. والعبد من صنع يديه- سبحانه -وهو الجليل العظيم، الحي الدائم، الأزلي الأبدي، الأول والآخر والظاهر والباطن.

وحب العبد لربه نعمة لهذا العبد لا يدركها كذلك إلا من ذاقها.. وإذا كان حب الله لعبد من عبيده أمرا هائلا عظيما، وفضلا غامرا جزيلا، فإن إنعام الله على العبد بهدايته لحبه وتعريفه هذا المذاق الجميل الفريد، الذي لا نظير له في مذاقات الحب كلها ولا شبيه.. هو إنعام هائل عظيم.. وفضل غامر جزيل.

وإذا كان حب الله لعبد من عبيده أمرا فوق التعبير أن يصفه، فإن حب العبد لربه أمر قلما استطاعت العبارة أن تصوره إلا في فلتات قليلة من كلام المحبين..

وهذا الحب من الجليل للعبد من العبيد، والحب من العبد للمنعم المتفضل، يشيع في هذا الوجود ويسري في هذا الكون العريض، وينطبع في كل حي وفي كل شيء، فإذا هو جو وظل يغمران هذا الوجود، ويغمران الوجود الإنساني كله ممثلا في ذلك العبد المحب المحبوب..

والتصور الإسلامي يربط بين المؤمن وربه بهذا الرباط العجيب الحبيب.. وليست مرة واحدة ولا فلتة عابرة.. إنما هو أصل وحقيقة وعنصر في هذا التصور أصيل: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودًا).. (إن ربي رحيم ودود).. (وهو الغفور الودود).. (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان).. (والذين آمنوا أشد حبا لله).. (قل: إن كنم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله).. وغيرها كثير..

وعجبا لقوم يمرون على هذا كله، ليقولوا: إن التصور الإسلامي تصور جاف عنيف، يصور العلاقة بين الله والإنسان علاقة قهر وقسر، وعذاب وعقاب، وجفوة وانقطاع... لا كالتصور الذي يجعل المسيح ابن الله وأقنوم الإله، فيربط بين الله والناس، في هذا الازدواج!

إن نصاعة التصور الإسلامي في الفصل بين حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية، لا تجفف ذلك الندى الحبيب، بين الله والعبيد، فهي علاقة الرحمة كما أنها علاقة العدل، وهي علاقة الود كما أنها علاقة التجريد، وهي علاقة الحب كما أنها علاقة التنزيه.. إنه التصور الكامل الشامل لكل حاجات الكينونة البشرية في علاقتها برب العالمين.

وهنا- في صفة العصبة المؤمنة المختارة لهذا الدين -يرد ذلك النص العجيب: (يحبهم ويحبونه) ويطلق شحنته كلها في هذا الجو، الذي يحتاج إليه القلب المؤمن، وهو يضطلع بهذا العبء الشاق. شاعرا أنه الاختيار والتفضل والقربى من المنعم الجليل..

ثم يمضي السياق يعرض بقية السمات:

(أذلة على المؤمنين)..

وهي صفة مأخوذة من الطواعية واليسر واللين.. فالمؤمن ذلول للمؤمن.. غير عصي عليه ولا صعب. هين لين.. ميسر مستجيب.. سمح ودود.. وهذه هي الذلة للمؤمنين.

وما في الذلة للمؤمنين من مذلة ولا مهانة. إنما هي الأخوة، ترفع الحواجز، وتزيل التكلف وتخلط النفس بالنفس، فلا يبقى فيها ما يستعصي وما يحتجز دون الآخرين.

إن حساسية الفرد بذاته متحوصلة متحيزة هي التي تجعله شموسا عصيا شحيحا على أخيه. فأما حين يخلط نفسه بنفوس العصبة المؤمنة معه، فلن يجد فيها ما يمنعه وما يستعصي به.. وماذا يبقى له في نفسه دونهم، وقد اجتمعوا في الله إخوانا؛ يحبهم ويحبونه، ويشيع هذا الحب العلوي بينهم ويتقاسمونه؟!

(أعزة على الكافرين)..

فيهم على الكافرين شماس وإباء واستعلاء.. ولهذه الخصائص هنا موضع.. إنها ليست العزة للذات، ولا الاستعلاء للنفس. إنما هي العزة للعقيدة، والاستعلاء للراية التي يقفون تحتها في مواجهة الكافرين. إنها الثقة بأن ما معهم هو الخير، وأن دورهم هو أن يطوعوا الآخرين للخير الذي معهم لا أن يطوعوا الآخرين لأنفسهم ولا أن يطوعوا أنفسهم للآخرين وما عند الآخرين! ثم هي الثقة بغلبة دين الله على دين الهوى؛ وبغلبة قوة الله على تلك القوى؛ وبغلبة حزب الله على أحزاب الجاهلية.. فهم الأعلون حتى وهم ينهزمون في بعض المعارك، في أثناء الطريق الطويل..

(يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم)..

فالجهاد في سبيل الله، لإقرار منهج الله في الأرض، وإعلان سلطانه على البشر، وتحكيم شريعته في الحياة، لتحقيق الخير والصلاح والنماء للناس.. هي صفة العصبة المؤمنة التي يختارها الله ليصنع بها في الأرض ما يريد..

وهم يجاهدون في سبيل الله؛ لا في سبيل أنفسهم؛ ولا في سبيل قومهم؛ ولا في سبيل وطنهم؛ ولا في سبيل جنسهم.. في سبيل الله. لتحقيق منهج الله، وتقرير سلطانه، وتنفيذ شريعته، وتحقيق الخير للبشر عامة عن هذا الطريق.. وليس لهم في هذا الأمر شيء، وليس لأنفسهم من هذا حظ، إنما هو لله وفي سبيل الله بلا شريك..

وهم يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم.. وفيم الخوف من لوم الناس، وهم قد ضمنوا حب رب الناس؟ وفيم الوقوف عند مألوف الناس، وعرف الجيل، ومتعارف الجاهلية، وهم يتبعون سنة الله، ويعرضون منهج الله للحياة؟ إنما يخشى لوم الناس من يستمد مقاييسه وأحكامه من أهواء الناس؛ ومن يستمد عونه ومدده من عند الناس؛ أما من يرجع إلى موازين الله ومقاييسه وقيمه ليجعلها تسيطر على أهواء الناس وشهواتهم وقيمهم؛ وأما من يستمد قوته وعزته من قوة الله وعزته، فما يبالي ما يقول الناس وما يفعلون. كائنا هؤلاء الناس ما كانوا؛ وكائنا واقع هؤلاء الناس ما كان، وكائنة "حضارة "هؤلاء الناس وعلمهم وثقافتهم ما تكون!

إننا نحسب حسابا لما يقول الناس؛ ولما يفعل الناس؛ ولما يملك الناس؛ ولما يصطلح عليه الناس؛ ولما يتخذه الناس في واقع حياتهم من قيم واعتبارات وموازين.. لأننا نغفل أو نسهو عن الأصل الذي يجب أن نرجع إليه في الوزن والقياس والتقويم.. إنه منهج الله وشريعته وحكمه.. فهو وحده الحق وكل ما خالفة فهو باطل؛ ولو كان عرف ملايين الملايين، ولو أقرته الأجيال في عشرات القرون!

إنه ليست قيمة أي وضع، أو أي عرف، أو أي تقليد، أو أية قيمة.. أنه موجود؛ وأنه واقع؛ وأن ملايين البشر يعتنقونه، ويعيشون به، ويتخذونه قاعدة حياتهم.. فهذا ميزان لا يعترف به التصور الإسلامي. إنما قيمة أي وضع، وأي عرف، وأي تقليد، وأية قيمة، أن يكون لها أصل في منهج الله، الذي منه- وحده -تستمد القيم والموازين..

ومن هنا تجاهد العصبة المؤمنة في سبيل الله ولا تخاف لومة لائم.. فهذه سمة المؤمنين المختارين..

ثم إن ذلك الاختيار من الله، وذلك الحب المتبادل بينه وبين المختارين، وتلك السمات التي يجعلها طابعهم وعنوانهم، وهذا الاطمئنان إلى الله في نفوسهم، والسير على هداه في جهادهم.. ذلك كله من فضل الله.

(ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. والله واسع عليم).

يعطي عن سعة، ويعطي عن علم.. وما أوسع هذا العطاء؛ الذي يختار الله له من يشاء عن علم وعن تقدير.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

...وقوله: {يأتي الله بقوم}، الإتيان هنا الإيجاد، أي يوجد أقواماً لاتّباع هذا الدّين بقلوب تحبّه وتجلب له وللمؤمنين الخير وتذود عنهم أعداءهم، وهؤلاء القوم قد يكونون من نفس الّذين ارتدّوا إذا رجعوا إلى الإسلام خالصة قلوبهم ممّا كان يخامرها من الإعراض مثل معظم قبائل العرب وسادتهم الّذين رجعوا إلى الإسلام بعد الردّة زمن أبي بكر، فإنّ مجموعهم غير مجموع الذين ارتدّوا، فصحّ أن يكونوا ممّن شمله لفظ {بقوم}، وتحقّق فيهم الوصف وهو محبّة الله إيّاهم ومحبّتهم ربّهم ودينه، فإنّ المحبّتين تتبعان تغيّر أحوال القلوب لا تغيّر الأشخاص فإنّ عمرو بن معد يكرب الّذي كان من أكبر عصاة الردّة أصبح من أكبر أنصار الإسلام في يوم القادسيّة، وهكذا.

ودَخل في قوله {بقوم} الأقوام الّذين دخَلوا في الإسلام بعد ذلك مثل عرب الشام من الغساسنة، وعرب العراق ونبَطهم، وأهل فارس، والقبط، والبَربر، وفرنجة إسبانية، وصقلّيَة، وسردانية، وتخومِ فرنسا، ومثل الترك والمغول، والتتار، والهند، والصّين، والإغريق، والرّوم، من الأمم الّتي كان لها شأن عظيم في خدمة الإسلام وتوسيع مملكته بالفتوح وتأييده بالعلوم ونشر حَضارته بين الأمم العظيمة، فكلّ أمّة أو فريق أو قوم تحقّق فيهم وصف: {يحبّهم ويحبّونه أذلّة على المؤمنين أعزّة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم} فهُم من القوم المنوّه بهم؛ أمَّا المؤمنون الّذين كانوا من قبل وثبتوا فأولئك أعظم شأناً وأقوى إيماناً فأتاهم المؤيّدون زَرافَات ووُحْدانا.

ومحبّة الله عبدَه رضاه عنه وتيسير الخير له، ومحبّة العبد ربّه انفعال النّفس نحوَ تعظيمه والأنس بذكره وامتثال أمره والدّفاع عن دينه. فهي صفة تحصل للعبد من كثرة تصوّر عظمة الله تعالى ونِعمه حتّى تتمكّن من قلبه، فمنشؤها السمع والتّصوّر. وليست هي كمحبّة استحسان الذّات، ألا ترى أنّا نحبّ النّبيء صلى الله عليه وسلم من كثرة ما نسمع من فضائله وحرصه على خيرنا في الدّنيا والآخرة، وتقوَى هذه المحبّة بمقدار كثرة ممارسة أقواله وذكر شمائله وتصرّفاته وهديه، وكذلك نحبّ الخلفاء الأربعة لكثرة ما نسْمع من حبّهم الرسول ومن بذلهم غاية النصح في خير المسلمين، وكذلك نحبّ حاتِماً لما نسمع من كرمه. وقد قالت هند بنت عتبة امرأةُ أبي سفيان لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما كان أهلُ خباء أحبَّ إليّ من أن يذلّوا من أهل خبائك وقد أصبحت وما أهل خباء أحبّ إلي من أنْ يعزّوا من أهل خبائك.

والأذلّة والأعزّة وصفان متقابلان وصف بهما القوم باختلاف المتعلّق بهما، فالأذلّة جمع الذليل وهو الموصوف بالذُلّ. والذلّ بضمّ الذال وبكسرها الهوان والطاعة، فهو ضدّ العزّ {ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلّة} [آل عمران: 123]. وفي بعض التّفاسير: الذلّ بضم الذال ضد العزّ وبكسر الذال ضدّ الصعوبة، ولا يعرف لهذه التفرقة سند في اللغة. والذليل جمعه الأذلّة، والصفة الذلّ {واخفِض لهما جناح الذلّ من الرّحمة} [الإسراء: 24]. ويطلق الذلّ على لين الجانب والتّواضع، وهو مجاز، ومنه ما في هذه الآية. فالمراد هنا الذلّ بمعنى لين الجانب وتوطئة الكَنَف، وهو شدّة الرّحمة والسّعي للنفع، ولذلك علّق به قوله: {على المؤمنين}. ولتضمين {أذلّة} معنى مشفقين حانين عدّي بعلى دون اللام، أو لمشاكلةِ (على) الثّانية في قوله: {على الكافرين}.

والأعزّة جمع العزيز فهو المتّصف بالعزّ، وهو القّوة والاستقلال»، ولأجل ما في طباع العرب من القوّة صار العزّ في كلامهم يدلّ على معنى الاعتداء، ففي المثل (من عَزّ بَزّ)

.. وقوله: {يجاهدون في سبيل الله} صفة ثالثة، وهي من أكبر العلامات الدالّة على صدق الإيمان. والجهاد: إظهار الجُهد، أي الطاقة في دفاع العدوّ، ونهاية الجهد التّعرّض للقتل، ولذلك جيء به على صيغة مصدر فَاعَلَ لأنّه يظهر جهده لمن يُظهر له مثله. وقوله: {ولا يخافون لومة لائم} صفة رابعة، وهي عدم الخوف من الملامة، أي في أمر الدّين، كما هو السياق.

واللومة الواحدة من اللَّوم. وأريد بها هنا مطلق المصدر، كاللّوْم لأنّها لمّا وقعت في سياق النّفي فعمّت زال منها معنى الوحدة كما يزول معنى الجمع في الجمع المعمَّم بدخول ال الجنسية لأنّ (لا) في عموم النّفي مثل (ال) في عموم الإثبات، أي لا يخافون جميع أنواع اللّوم من جميع اللاّئمين إذ اللّوْم منه: شديد، كالتقريع، وخفيف؛ واللائمون: منهم اللاّئم المخيف، والحبيب؛ فنفى عنهم خوفَ جميع أنواع اللّوم. ففي الجملة ثلاثة عمومات: عُموم الفعل في سياق النّفي، وعموم المفعول، وعموم المضاف إليه.

وهذا الوصف علامة على صدق إيمانهم حتّى خالط قلوبهم بحيث لا يصرفهم عنه شيء من الإغراء واللوم لأنّ الانصياع للملام آية ضعف اليقين والعزيمة.

ولم يزل الإعراض عن ملام اللائمين علامة على الثّقة بالنّفس وأصالة الرأي. وقد عَدّ فقهاؤنا في وصف القاضي أن يكون مستخفّاً باللاّئمَة على أحد تأويلين في عبارة المتقدّمين، واحتمال التّأويلين دليل على اعتبار كليهما شرعاً.

وجملة {ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء} تذييل. واسم الاشارة إشارة إلى مجموع صفات الكمال المذكورة.

و {واسع} وصف بالسعة، أي عدم نهاية التّعلّق بصفاته ذات التّعلق، وتقدّم بيانه عند قوله تعالى: {قل إنّ الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم} في سورة آل عمران (73).

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

في الآيات السابقة نهى الله سبحانه وتعالى المؤمنين عن أن يتخذوا من اليهود والنصارى نصراء يستنصرون بهم، ويعطونهم حق الولاية عليهم، فيجعلون الولاء لهم، وهم أعداء الإيمان وأعداء المؤمنين وإن أظهروا الولاء لدولة الإيمان فهم في قلوبهم لا يألونهم خبالا، وإن ذلك موضوعه علاقة دولة الإسلام بغيرها من الدولة التي تعاديها، ولا يدخل في هذا الذميون الذين يعيشون في ظل الإسلام والمسلمين إلا إذا مالؤوا الأعداء فإنهم يكونون قد نقضوا العهد الذى عاهدوا المسلمين عليه.

وفي هذه الآيات، يومئ سبحانه وتعالى كلماته، إلى أن الذين يوالون دولة معادية للإسلام وأهله يسيرون في طريق الردة، لأنهم تركوا ولاية الله والرسول والمؤمنين، وولايتهم هي الحق، وهم حزب الله وحزب الله تعالى هم الغالبون.

(يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله) الارتداد معناه الرجوع من غير هداية وإرشاد ومن ذلك قوله تعالى: (إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى...25) (محمد) ومن ذلك قوله تعالى:(...ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر...217) (البقرة):

فالارتداد في الآية الكريمة التي نتكلم في معانيها السامية معناه الخروج عن الدين، ويسمى ذلك ردة، لأنه انصراف عن الحق بعد أن اهتدى، ورجوع إلى الظلام بعد أن خرج إلى النور، وهو كمن يرتد على أدباره غير مبصر الطريق الضال الذي يسلكه لأنه لا يواجهه.

وفي النص إشارة إلى أمرين، أولهما، أن فيه إيماء إلى أن العرب فيهم من سيرتد بعد إيمان، وذلك قد كان، فإنه بعد أن انتقل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى ارتدت قبائل عربية ولم تبق مساجد تقام فيها الصلوات إلا مسجد المدينة ومكة وعبد القيس، وقد تصدى لهم الصديق، وأصحاب رسوله الله صلى الله عليه وسلم، حتى أزالوا شوكة الردة، وخيرهم الصديق بين سلم مخزية أو حرب مجلية،فاختاروا السلم لتوالي هزائمهم الأولى، وكان منهم من اشترك في الفتوح الإسلامية التي كانت من بعدها كلمة الله هي العليا في المشرق والمغرب، وفتح الله معها قلوب الناس، فدخلوا في الإسلام أفواجا، أفواجا.

وإن الآية الكريمة تومئ ثانيها أن تولي الكفار أعداء الإسلام واتخاذ النصرة منهم على المؤمنين، وجعل الولاية لهم دون المؤمنين طريق إلى الارتداد، لأن من يعتز بغير عزة الله تعالى ينقص من إيمانه بمقدار موالاته لأعداء الله تعالى، واستمراره في الموالاة وإعطاء الولاية، ولقد قال سبحانه: (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله...22) (المجادلة).

وهنا يسأل سائل عن أمرين: أولهما – ما الموالاة التي تجر إلى الارتداد؟ وثانيهما – ما حقيقة الردة؟ ونقول في الإجابة عن السؤال الأول، إن الموالاة التي تفضي إلى الارتداد مراتب أعلاها أن يستنصر بهم على أهل الإيمان، كما كان يفعل بعض الملوك في الماضي، وكما فعل بعض الوزراء الذين مالئوا التتار على المؤمنين، حتى تمكنوا من أهل بغداد وغيرها من المدائن الإسلامية تقتيلا وتذبيحا، وهذه المرتبة أحسب أنها ردة، وليست ذريعة إليها فقط.

المرتبة المتوسطة – أن يواليهم في أوطانهم، ويستنصر بهم ويجعل ولايته لهم من غير معاونة لهم على أهل الإيمان، ولا تمكين لهم من رقاب المؤمنين، وتكون هذه للمستضعفين في أرضهم على أهل الإيمان، ولا تمكين لهم من رقاب المؤمنين، وتكون هذه للمستضعفين في أرضهم وهؤلاء قد يفيض بهم الاستضعاف إلى أن يكونوا منهم، وبذلك يسيرون في طريق الخروج عن الدين.

المرتبة الأخيرة – أن نقدس تعاليمهم ونحول مجتمعنا الإسلامي بما يشبه مجتمعهم، حتى يكون ما عندهم أمرا غير قابل للمناقشة، وما عندنا ولو كان من هدى الإسلام يكون قابلا للنقض، بل للاستهانة ووضعه دبر الآذان...

والجواب عن السؤال الثاني وهو تعرف حقيقة الردة، أن الردة مراتب أيضا.

أعلاها – إنكار ما جاء في كتاب الله تعالى، وإنكار الوحدانية والرسالة، وإنكار كل أمر علم من الدين بالضرورة ككون الصلوات خمسا، وكفرضية الزكاة والحج إلى آخر ما يعد إطار الإسلام، من يخرج عنه قد خرج عن الإسلام ومن ذلك أحكام الزواج والطلاق.

ووسطها- إهمال الأحكام القرآنية، واستبدال غيرها بها، وزعم صلاحية غيرها، وعدم صلاحية الأحكام القرآنية ومن ذلك قول الذين يقولون: إن أحكام القرآن خاصة بزمان نزوله دون غيره، وإن للناس أن يبدلوا فيها ما شاء لهم التبديل.

وأدناها- تقليد غير المسلمين فيما عندهم من شر وجعل القرآن وآدابه، والسنة وما اشتملت عليه أمرا مهجورا.

وإن المرتبة الأولى تبيح قتل معتنقيها، والأخريان يحبس أصحابهما، ويمنعوا من الجهر بنحلهم، وذلك لولى الأمر، وإن ذا النورين الامام عثمان – رضي الله عنه – قال: (إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن). وإن الله وعد.

وإن وعده لصدق أنه إذا ارتد عن الإسلام من يرتد فيكون من بعدهم من يعتز الإسلام بهم، ويرفعون شأنه، ولذا قال تعالت كلماته: (فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين).

هؤلاء هم الذين وعد الله بأنهم سيزيدون عدد المؤمنين، إذا خرج من صفوفهم ا لمنافقون، والذين يوالون أعداء الله، وإن (سوف) هنا لتأكيد وقوع الأمر في المستقبل، والتعبير – ب (يأتي الله بقوم) فيه إشارة إلى أمرين: أحدهما – أن الله سبحانه الذي خلقكم، وهو ولى المؤمنين هو الذي يأتي بهؤلاء الأقوام الذين يحبهم ويحبونه...، وثانيهما – أنهم يكونون قوما متحدة مشاعرهم وأحاسيسهم، قد كانت قوميتهم نصرة الله ورسوله بنصرة الدين الحكم، ولذا عبر عن هؤلاء بأنهم قوم، أي عنصر قوى متآزر وحدته مكونة من الإيمان، ولا يكونون تابعين لغير دين الله تعالى.

وقد وصف الله تعالى أولئك الذين يأتي بهم في المكان الذي أخلاه المرتدون بأربع صفات هي من نعم الله تعالى عليهم، أولها – أن الله تعالى يحبهم وهم يحبونه، وإن محبة الله تعالى للمؤمنين أعلى ما يصل إليه أهل الإيمان من نعمه، ومحبة المؤمنين لله أعلى درجات الطاعة والإيمان.

ومحبة الله تعالى لعباده التي تليق بذاته الكريمة المنزهة عن مشابهة الحوادث، هي أعلى درجات الرضا، فهي ليست الجزاء على النعيم وحده، ولا الغفران وحده، ولكنها مع الرضوان أكبر من ذلك، وقد قال تعالى في جزاء المؤمنين الخالصين لله تعالى: (وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيهاو مساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم 72) (التوبة).

وعندي أن مكافأة الله تعالى لعباده بفضل منه ثلاث مراتب: المرتبة الأولى – الغفران والنعيم المقيم، والمرتبة الثانية – رضاه سبحانه وتعالى، والمرتبة الثالثة – وهي أعلى درجات المحبة، وهي الرضوان الكامل، ومحبة الله حال تليق بذاته العلية.

هذه محبة الله تعالى ومحبة العباد له سبحانه – الإحساس بتجاه النفس إلى الله تعالى، والشعور بأنه ملء نفسه وقلبه، وأنه لا يدخل في قلبه شيء غير عظمة الله تعالى وجلاله، فلا يحس بأن في الوجود غيره، وأن تلك المحبة ثمرتها القريبة الدانية الطاعة المطلقة لله ولرسوله، فلا يكون محبا من يعصي حبيبه،ولذا قال الله تعالى: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم31) (آل عمران).

فالمحبة لله وطاعته، والقيام بالتكليفات الشرعية أمران متلازمان فالطاعة لازمة للمحبة، وليس بصحيح ما يجري على ألسنة بعض مدعى التصوف، من أن المحبة لله إذا وصلت إلى أعلى درجاتها، سقط التكليف بالأعمال الظاهرة، بل إن المحبة البالغة تزيد الطاعة تثبيتا، وأحب خلق الله تعالى لله، وأكثرهم محبة له سبحانه هو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما قصر في تكليفه قط، ولا يتصور منه ذلك، وقد طالبه الله تعالى بأكثر مما طالب به غيره، فقد قال تعالى: (يا أيها المزمل 1 قم الليل إلا قليلا 2 نصفه أو انقص منه قليلا 3 أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا 4 إنا سنلقي قولا ثقيلا5 إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا 6) (المزمل).

الصفتان الثانية والثالثة – هما اللتان ذكرهما سبحانه وتعالى بقوله تعالت كلماته:

(أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين) والمعنى السامي لهذين الوصفين الكريمين أنهم أرقاء على المؤمنين في معاملتهم يخفضون جناحهم، كما قال تعالى في رفق الولد للأبوين: (واخفض لهما جناح الذل من الرحمة...23): (الإسراء) فهي ذلة حانية خفض جناح الأخ لأخيه غير المتحكم فيه هي من قبيل التآلف العاطفي، لا من قبيل الخنوع الذميم.

ومعنى قوله السامي: (أعزة على الكافرين) أنهم ينظرون إليهم نظرة العزيز الغالب لا نظرة الذليل الخانع، فهم لا يتملقونهم، ولا يترضونهم في غير مرضاة الله، و (عز) في أصل معناها غلب، كما قال تعالى:(...وعزني في الخطاب23) (ص) أي غلبني في الخطاب وسيطر على الخصومة.

وخلاصة القول، أن هؤلاء المؤمنين يعاملون إخوانهم برفق ومحبة وبشاشة وعطف، ويعاملون أعداء الإسلام بغلظة وخصوصا في الميدان كما قال الله سبحانه:(...جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم...73) (التوبة) وقد جاء في الآثار في صفة الرسول صلى الله عليه وسلم إنه (الضحوك القتال) فهو ضحوك لأوليائه قتال لأعدائه.

الصفة الرابعة بينها سبحانه وتعالى بقوله، (يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم).

المجاهدة المغالبة وبذل الجهد، وهو أقصى الطاقة، في سبيل الله أي: في سبيل رفعة كلمة الحق ونصر دينه وإعلاء شأنه، وكل مجاهدة في إعلاء حق وخفض باطل هي في سبيل الله، لأن طريق الله تعالى هي طريق الحق إيا كان موضعه، وأيا كان باعثه لأن شرع الله تعالى يدعو إلى الحق وإلى صراط مستقيم.

وإن الجهاد تتنوع ضروبه، وتختلف أساليبه، فقد يكون بالسيف لإعلاء كلمة الله، ورد الأعداء عن أهل الإيمان، وقد يكون ببذل المال لنصر الدين الحق، وإعلاء كلمة أهل الإيمان، وقد يكون باللسان ببيان الحقائق الإسلامية وتأليب الناس على المشركين ولقد قال – عليه السلام – (جاهدوا المشركين بأنفسكم وألسنتكم وأموالكم).

وإن الجهاد في الحق يوجب على المجاهد ألا يخشى غير الله، ولذلك وصف الله سبحانه أولئك المجاهدين بأنهم: (ولا يخافون لومة لائم). أي لا يخافون لوما قط من أي لائم كائنا من كان، واللومة هي المرة من اللوم، وكان التعبير باللومة دون اللوم للمبالغة في نفى الخوف لأنها منكرة، ومن تصدر عنه منكر، أي لا يخافون لأي لومة سواء أكانت شديدة أو كانت رقيقة، ومن أي لائم سواء أكان كبيرا أو كان صغيرا، وسواء أكان ينفع ويضر أم كان لا خير فيه، هذا ما ذكره المفسرون، ونلتمس وجها، آخر للتعبير، باللومة وهو أن التعبير بفعل المرة يفيد وقوع اللوم، لا مجرد توقعه، أي أن هؤلاء لا يخافون اللوم الواقع، بل يتحملونه مع ما فيه من ابتلاء واختبار قد يكون شديدا، وقد حبب الله تعالى لعباده الجهاد في سبيل رفع الحق، فقد جاء على لسان نبيه عليه الصلاة والسلام: (أفضل الجهاد كلمة حق أمام سلطان جائر) وقال عليه السلام: (ألا لا يمنعن أحدكم رهبة الناس أن يقول بحق إذا رآه شهده فإنه لا يقرب من أجل ولا يباعد من رزق أن يقول بحق) وقال عليه السلام: (لا يحقرن أحدكم نفسه، بأن يرى أمرا لله فيه مقال فلا يقول فيه.

(ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم) الإشارة في هذا النص السامي، إما أن تكون لكل ما سبق من إيمان صادق، ومحبة من الله ورضوان منه ومحبة من العبد ومعها الطاعة المطلقة لله ولرسوله، وتعاطف وتراحم بينهم، وشدة على أعدائهم وجهاد في سبيله، وإما أن تكون لأقرب مذكور، وهو الجهاد في سبيل الله واطراح لوم اللائمين وعدم الالتفات إليهم، وإنه على الاحتمالين ذلك من فضل الله تعالى، الذي يصطفي من عباده من يكون أهلا لذلك، ويعمل بإرادته ليصل إلى هذه، وكانت هذه الصفات من فضل الله تعالى، لأن الإخلاص لله تعالى، والفناء في محبته نعمة لا يدركها إلا من يذوق حلاوتها، والتآلف بين المؤمنين والتعاطف والبر فضل كبير تعتز به الأمم، والوقوف أمام الأعداء، والجهاد في سبيله، والرضا به، والعمل فيه فوز عظيم لأنه حماية للحوزة، ومنع للذلة.

وقد ذيل سبحانه وتعالى النص بقوله تعالت كلماته: (والله واسع عليم).

أي والله سبحانه وتعالى جل جلاله واسع الفضل والجود والرحمة، يجود بفضله على من يشاء من عباده، وهو عليم بمواضع الفضل ومن يستحقه ومن لا يستحقه، وأطلق الوصف لله تعالت كلماته ذاته المقدسة للإشارة إلى السعة في كل شيء، فهو يوسع في الرزق لمن يشاء، وييسر من يشاء للجهاد بنفسه أو بلسانه أو بماله، وهو يسع الناس جميعا برحمته، اللهم اجعلنا في سعة رحمتك.