قوله تعالى : { مَن يَرْتَدَّ } : " مَنْ " شرطيةٌ فقط لظهورِ أثرها ، وقوله تعالى : { فسوف } جوابُها ، وهي مبتدأة ، وفي خبرها الخلاف المشهور ، وبظاهره يتمسَّك مَنْ لا يشترط عودَ ضميرٍ على اسم الشرط من جملة الجواب ، ومَنْ التزم ذلك قَدَّر ضميراً محذوفاً تقديره : " فسوف يأتي الله بقوم غيرهم " ف " هِم " في " غيرهم " يعودُ على " مَنْ " على معناها . وقرأ ابن عامر ونافع : " يَرْتَدِدْ " بدالين . قال الزمخشري : " وهي في الإِمام - يعني رسمَ المصحف - كذلك " ولم يبيِّنْ ذلك ، ونَقَل غيرُه أنَّ كلَّ قارئ وافقَ مصحفَه ، فإنها في مصاحف الشام والمدينة ، " يرتدد " بدالين ، وفي الباقية : " يرتدَّ " وقد تقدَّم أنَّ الإِدغام لغة تميم ، والإِظهارَ لغةُ الحجاز ، وأنَّ وجهَ الإِظهارِ سكونُ الثاني جزماً أو وقفاً ، ولا يُدْغَمُ إلا في متحرك ، وأنَّ وجهَ الإِدغام تحريكُ هذا الساكن في بعضِ الأحوال نحو : رُدَّا ، رُدُّوا ، رُدِّي ، ولم يَرُدَّا ، ولم يَرُدُّوا ، واردُدِ القوم ، ثم حُمِل " لم يردَّ " و " رُدَّ " على ذلك ، فكأن التميميين اعتبروا هذه الحركة العارضة ، والحجازيين لم يَعْتبروها ، و " منكم " في محل نصبٍ على الحال من فاعل " يرتد " و " عن دينه " متعلِّقٌ ب " يرتدَّ " .
قوله تعالى : { يُحِبُّهُمْ } في محلِّ جر لأنها صفة ل " قوم " و " يُحِبُّونه " فيه وجهان ، أظهرُهما : أنه معطوفٌ على ما قبلَه ، فيكون في محلِّ جرٍّ أيضاً فوصفَهم بصفتين : وصفَهم بكونِه تعالى يحبُّهم وبكونهم يحبونه . والثاني أجازه أبو البقاء : أن يكون في محل نصب على الحال من الضمير المنصوب في " يحبهم " قال : " تقديره : وهم يحبونه " قلت : وإنما قَدَّر أبو البقاء لفظة " هم " ليخرجَ بذلك من إشكال : وهو أن المضارعَ المثبتَ متى وقع حالاً وجب تَجَرُّدُه من الواو نحو : " قمت أضحك " ولا يجوز : " وأضحك " وإنْ وَرَدَ شيء أُوِّل بما ذكره أبو البقاء كقولهم : " قمت وأصك عينه " وقوله :
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** نَجَوْتُ وأَرْهنُهُمْ مالِكا
أي : وأنا أصك ، وأنا أَرْهنُهم ، فَتُؤَوَّلُ الجملةُ إلى جملة اسمية فيصِحُّ اقترانها بالواو ، ولكن لا ضرورةَ في الآية الكريمة تَدْعُو إلى ذلك حتى يُرْتَكَب ، فهو / قولٌ مرجوح . وقُدِّمَتْ محبةُ الله تعالى على محبتهم لشرفها وسَبْقِها ، إذ محبتُه تعالى لهم عبارةٌ عن إلهامِهم فعلَ الطاعةِ وإثابتِه إياهم عليها .
قوله : { أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ } هاتان صفتان أيضاً لقوم ، واستدلَّ بعضُهم على جوازِ تقديمِ الصفة غير الصريحة على الصفة الصريحة بهذه الآيةِ ، فإنَّ قوله : { يُحِبُّهم } صفةٌ وهي غير صريحة ، لأنها جملة مؤولة بمفرد ، وقوله " أذلة - أعزة " صفتان صريحتان لأنهما مفردتان ، وأمَّا غيره من النحويين فيقول : متى اجتمعت صفة صريحة وأخرى مؤولة وجبَ تقديمُ الصريحةِ إلا في ضرورة شعر كقولِ امرئ القيس :
وفَرْعٍ يُغَشِّي المَتْنَ أسودَ فاحِمٍ *** أثيثٍ كقِنْوِ النَّخْلة المُتَعَثْكِلِ
فقدم قوله " يُغَشِّي " - وهو جملة - على " أسود " وما بعده وهن مفردات ، وعند هذا القائل أنه يُبدأ بالمفرد ثم بالظرف أو عديلِه ثم بالجملة ، وعلى ذلك جاء قوله تعالى : { وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ } [ غافر : 28 ] ، وهذه الآية حجةٌ عليه ، وكذا قوله تعالى : { وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ } [ الأنعام : 92 ] . قال الشيخ : " وفيها دليلٌ على بطلان مَنْ يعتقد وجوب تقديم الوصفِ بالاسم على الوصف بالفعل إلا في ضرورة " ثم ذَكَرَ الآيةَ الأخرى . قلت : وليس في هاتين الآيتين الكريمتين ما يَرُدُّ قولَ هذا القائل . أما هذه الآية فيحتمل أن يكون قولُه تعالى : { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } جلمةَ اعتراض لأنَّ فيها تأكيداً وتسديداً للكلام ، وجملةُ الاعتراض تقعُ بين الصفةِ وموصوفِها كقوله تعالى : { وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ }
[ الواقعة : 76 ] ف " عظيم " صفةٌ ل " قَسَم " وقد فَصَل بينهما بقولُه : { لَّوْ تَعْلَمُونَ } فكذلك فَصَلَ هنا بين قوله " بقوم " وبين صفتهم وهي " أذلة - أعزة " بقولِه { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } فعلى هذا لا يكون لها محلُّ من الإِعراب . وأمَّا { وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ } فلا نسلِّم أن " مبارك " صفةٌ ، بل يجوزُ أن يكونَ خبراً عبد خبر ، ويجوز أن يكون خبرَ مبتدأ محذوفٍ أي : هو مبارك ، ولو استدل على ذلك بآيتين غير هاتين لكان أقوى ، وهما قوله تعالى : { مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ }
[ الأنبياء : 2 ] { وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ } [ الشعراء : 5 ] ، فقدَّم الوصفَ بالجارِّ على الوصف بالصريح ، ويحتمل أَنْ يُقال : لا نُسَلِّم أن " مِنْ ربهم " و " مِنَ الرحمن " صفتان لجواز أَنْ يكونا حالين مُقَدَّمَيْن من الضمير المستترِ في " مُحْدَثٍ " أي : مُحْدَثٍ إنزالُه حالَ كونه من ربهم .
وأَذِلَّة جمعُ ذليل بمعنى متعطف ، ولا يراد به الذليل الذي هو ضعيف خاضع مُهان ، ولا يجوز أن يكون جمع " ذَلُول " لأنَّ / ذلولاً يجمع على " ذُلُل " لا على " أَذِلة " وإن كان كلام بعضهم يوهم ذلك . قال الزمخشري : " ومَنْ زعم أنه من الذُّل الذي هو نقيض الصعوبة فقد غَبِي عنه أن ذَلُولا لا يُجمع على أَذِلة " وأَذِلّة وأَعِزة جمعان لذليل وعزيز وهما مثالا مبالغة ، وعَدَّى " أذلة " ب " على " وإن كان أصلُه أن يتعدى باللام لِما ضُمِّن من معنى الحُنُوِّ والعطف ، والمعنى : عاطفين على المؤمنين على وجهِ التذلُّلِ لهم والتواضعِ ، ويجوزُ أَنْ يكون المعنى : أنهم مع شرفهم وعلوِّ طبقتهم وفَضْلِهم على المؤمنين خافضون لهم أجنحتهم ، ونحوه قولُه تعالى :
{ أَشِدَّآءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ } [ الفتح : 29 ] ذكر هذين الوجهين أبو القاسم الزمخشري . قال الشيخ : " قيل : أو لأنه على حَذْفِ مضاف ، التقدير : على فَضْلِهم على المؤمنين ، والمعنى : أنهم يَذِلُّون ويَخْضَعُون لِمَنْ فُضِلوا عليه مع شَرَفِهم وعلوِّ مكانتِهم " وذَكَر آية الفتح . قتل : وهذا هو قولُ الزمخشري بعينِه ، إلا أنَّ قولَه " على حَذْفِ مضاف " يُوهم حذفَه وإقامةَ المضافِ إليه مُقامه ، وهنا حَذَف " على " الأولى وحَذَفَ المضافَ والمضافَ إليه معاً ، ولا أدري ما حَمَله على ذلك ؟
ووقع الوصفُ في جانب المحبة بالجملةِ الفعلية لأنَّ الفعلَ يَدُلُّ على التجدُّدِ والحدوثِ ، هو مناسبٌ فإنَّ محبَّتهم للّهِ تعالى تُجَدِّدُ طاعاتِه وعبادتَه كلَّ وقتٍ ، ومحبةُ اللّهِ إياهم تُجَدِّدُ ثوابَه وإنعامَه عليهم كل وقت . ووقع الوصفُ في جانبِ التواضعِ للمؤمنين والغِلْظَةِ على الكافرين بالاسم الدالِّ على المبالغة دلالةً على ثبوتِ ذلك واستقراره وأنه عزيزٌ فيهم ، والاسمُ يَدُلُّ على الثبوتِ والاستقرارِ ، وقَدَّم الوصفَ بالمحبة منهم ولهم على وصفِهم بأذلَّة وأَعِزِّة لأنهما ناشِئتان عن المحبتين ، وقَدَّم وصفَهم المتعلِّق بالمؤمنين على وصْفِهم المتعلق بالكافرين لأنه آكدُ وألزمُ منه ، ولشرفِ المؤمنِ أيضاً .
والجمهورُ على جَرِّ " أَذِلَّة - أَعِزَّة " على الوصفِ كما تقدم ، قال الزمخشري : " وقُرئ " أَذِلَّةً وأَعِزِّةً " بالنصبِ على الحال " قلت : الذي قرأ " أَذِلَّة " هو عبد الله بن مسعود ، إلا أنه قرأ بدل " أعزة " : " غُلَظاءَ على الكافرين " وهو تفسيرٌ ، وهي حالٌ من " قوم " وجاز ذلك وإن كان " قوم " نكرةً لقُرْبِه من المعرفة إذ قد تخصَّص بالوصف .
قوله تعالى : { يُجَاهِدُونَ } يحتمل ثلاثة أَوجه ، أحدها : أن يكونَ صفةً أخرى ل " قوم " ولذلك جاء بغيرِ واو ، كما جاءَتِ الصفتان قبلَه بغيرها . الثاني : أنه في محلِّ نصبٍ على الحال من الضمير المسكن في " أعزة " أي : يَعُزُّون مجاهدين ، قالَه أبو البقاء ، وعلى هذا فيجوزُ أن تكونَ حالاً من الضمير في " أَذِلَّة " أي : يتواضعون للمؤمنين حالَ كونِهم مجاهدين ، أي : لا يَمْنعَهُم الجهادُ في سبيل الله من التواضعِ للؤمنين ، وحاليَّتُها من ضمير " أعزة " أظهر من حاليَّتِها مِمَّا ذكرت ، ولذلك لم يَسُغْ أن تُجْعَلَ المسألةُ من التنازع . الثالث : ان يكونَ مستأنفاً سِيق للإِخبارِ بأنهم يجاهِدون في نصرة دين الله تعالى .
قوله تعالى : { وَلاَ يَخَافُونَ } فيه أوجه ، أحدها : أن يكون عطوفاً على " يُجاهِدُون " فتجري فيه الأوجهُ السابقة فيما قبله . الثاني : أن تكونَ الواوُ للحال ، وصاحبُ الحالِ فاعلٌ " يجاهدون " قال الزمخشري : أي : يجاهِدُون وحالُهم في المجاهدةِ غيرُ حالِ المنافقين " وتَبِعه الشيخ ولم يُنْكِرْ عليه ، وفيه نظرٌ ؛ لأنَّهم نصُّوا على أن المضارع المنفي ب " لا " أو " ما " كالمثبت في أنه لا يجوز أن تباشِرَه واوُ الحال ، وهذا كما ترى مضارعٌ منفي ب " لا " إلا أَنْ يُقال : إن ذلك الشرطَ غير مُجْمَعٍ عليه ، لكنَّ العلةَ التي مَنَعوا لها مباشرةَ الواوِ للمضارع المثبتِ موجودةٌ في المضارعِ المنفيِّ " ب " لا " و " ما " وهي : أنَّ المضارعَ المثبتَ بمنزلةِ الاسمِ الصريحِ ، فإنك إذا قلت : " جاز زيدٌ لا يضحكُ " [ كان ] في قوةِ " ضاحكاً " ، و " ضاحكاً " لا يجوز دخولُ الواوِ عليه فكذلك ما أشبهه وهو في قوتِه ، وهذه موجودةٌ في المنفي ، فإنَّ قولك " جاء زيدٌ لا يضحك " في قوةِ " غيرَ ضاحك " و " غيرَ ضاحك " لا تدخلُ عليه الواوُ ، إلاَّ أن هذا يُشْكِلْ بأنهم نَصُّوا على أن المنفي ب " لم " و " لما " يجوزُ فيه دخولُ الواو ، مع أنه في قولِك : " قام زيد لم يضحكْ " بمنزلةِ " غيرَ ضاحك " ومِنْ دخول الواو قولُه تعالى : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم } [ البقرة : 214 ] ونحوُه . الثالث : أن تكون الواوُ للاستئنافِ ، فيكونَ ما بعدها جملةً مستأنفة مستقلة بالإِخبار ، وبهذا يحصُل الفرقُ بين هذا الوجهِ وبين الوجهِ الذي جَوَّزْتُ فيه أن تكون الواو عاطفةً مع اعتقادِنا أنَّ " يجاهدون " مستأنفٌ وهو واضح .
واللَّوْمَةُ : " المَرَّةُ من اللَّوْم ، قال الزمخشري " وفيها وفي التنكير مبالغتان كأنه قيل : لا يَخافون شيئاً قَطُّ من لومِ أحدٍ من اللُّوُّام ، و " لومة " مصدرٌ مضافٌ لفاعله في المعنى ، فإن قيل : هل يجوزُ أن يكونَ مفعولُه محذوفاً ، أي : لا يخافون لومةَ لائمٍ إياهم ؟ فالجواب أن ذلك لا يجوز عند الجمهور ، لأنَّ المصدرَ المحدودَ بتاء التأنيث لا يعملُ ، فلو كان مبنياً على التاء عَمِلَ كقوله :
فولا رجاءُ النصر منك ورهبةٌ *** عقابَك قد كانوا لنا بالموارِدِ
فأعمل " رهبةٌ " لأنه مبنيُّ على التاء ، ولا يجوز أن يعملَ المحدودُ بالتاء إلا في قليلٍ من كلامِهم كقوله :
يُحايي به الجَلْدُ الذي هو حازمٌ *** بضربةِ كَفَّيهِ المَلا وَهُو راكِبُ
يصفُ رجلاً سقى رجلاً ماءً فأحياه به وتيمَّم بالتراب ، والمَلا : التراب ، فنصب " الملا " ب " ضربة " وهو مصدرٌ محدودٌ بالتاء . وأصل لائم : لاوِم ، لأنه من اللَّوْم فأُعِلَّ كقائم .
و " ذلك " في المشار إليه به ثلاثةُ أوجه ، أظهرُها : أنه جميع ما تقدَّم من الأوصافِ التي وُصِف بها القومُ من المحبةِ والذلةِ والعزةِ والمجاهدة في سبيلِ الله وانتفاءِ خوفِ اللائمة من كلِّ أحدٍ ، واسمُ الإِشارة يَسُوغ فيه ذلك ، أعني أنه يقعُ بلفظِ الإِفراد مشاراً به لأكثر مِنْ واحدٍ ، وقد تقدَّم تحقيقُه في قولِه تعالى : { عَوَانٌ بَيْنَ ذلِكَ }
[ البقرة : 68 ] . والثاني : أنه مشارٌ به إلى حُبِّ الله لهم وحُبِّهم له . والثالث : أنه مشارٌ به إلى قوله : " أَذِلَّة " أي : لِين الجانب وتَرْكُ الترفُّع ، وفي هذين تخصيصٌ غيرُ واضحٍ ، وكأنَّ الحاملَ على ذلك مجيءُ اسمِ الإِشارة مفرداً . و " ذلك " مبتدأٌ ، و " فَضْلُ الله " خبرُه ، و " يؤتيه " يحتملُ ثلاثةَ أوجه ، أظهرُها : أنه خبرٌ ثاني ، والثاني : أنه مستأنف والثالث : أنه في محلِّ نصبٍ على الحال كقوله .