غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَن يَرۡتَدَّ مِنكُمۡ عَن دِينِهِۦ فَسَوۡفَ يَأۡتِي ٱللَّهُ بِقَوۡمٖ يُحِبُّهُمۡ وَيُحِبُّونَهُۥٓ أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلۡكَٰفِرِينَ يُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوۡمَةَ لَآئِمٖۚ ذَٰلِكَ فَضۡلُ ٱللَّهِ يُؤۡتِيهِ مَن يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ} (54)

48

{ من يرتدّ منكم عن دينه } أي من يتولّ الكفار منكم فيرتد فليعلم أن الله تعالى يأتي بقوم آخرين ينصرون هذا الدين على أبلغ الوجوه . وقال الحسن : علم الله تعالى أن قوماً يرجعون عن الإسلام بعد موت نبيهم فأخبرهم أنه سبحانه سيأتي { بقوم يحبهم ويحبونه } فتكون الآية إخباراً عن الغيب وقد وقع فيكون معجزاً . روي في الكشاف أن أهل الردّة كانوا إحدى عشرة فرقة ، ثلاث في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بنو مدلج ورئيسهم ذو الحمار الأسود العنسي وكان كاهناً تنبأ باليمن واستولى على بلاده وأخرج عمال رسول الله صلى الله عليه وسلم فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى معاذ بن جبل وإلى سادات اليمن فأهلكه الله على يدي فيروز الديلمي ، بيته فقتله وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله ليلة قتل فسر المسلمون وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغد وأتى خبره في آخر شهر ربيع الأول .

وبنو حنيفة قوم مسيلمة تنبأ وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما بعد فإن الأرض نصفها لي ونصفها لك . فأجاب صلى الله عليه وسلم : من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مسيلمة الكذاب . أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين . فحاربه أبو بكر بجنود المسلمين وقتل على يدي وحشي قاتل حمزة وكان يقول : قتلت خير الناس في الجاهلية وشر الناس في الإسلام . أراد في جاهليتي وإسلامي . وبنو أسد قوم طليحة بن خويلد تنبأ فبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خالداً فانهزم بعد القتال إلى الشام ثم أسلم وحسن إسلامه . وسبع في عهد أبي بكر : فزارة قوم عيينة بن حصن وغطفان قوم قرة بن سلمة القشيري ، وبنو سليم قوم الفجاءة بن عبد ياليل ، وبنو يربوع قوم مالك بن نويرة ، وبعض بني تميم قوم سجاح بنت المنذر المتنبئة التي زوّجت نفسها مسيلمة الكذاب ، وكندة قوم الأشعث بن قيس ، وبنو بكر بن وائل بالبحرين قوم الحطم بن زيد وحاربهم أبو بكر وكفى الله أمرهم على يديه . وفرقة واحدة في عهد عمر غسان قوم جبلة بن الأيهم كان يطوف بالبيت ذات يوم بعد أن كان أسلم على يد عمر فرأى رجلاً جارّاً رداءه فلطمه فتظلم الرجل إلى عمر فقضى بالقصاص عليه . فقال : أنا أشتريها بألف فأبى الرجل فلم يزل يزيد في الفداء إلى أن بلغ عشرة آلاف فأبى الرجل إلاّ القصاص فاستنظره فأنظره عمر فهرب إلى الروم وتنصر . وتفسير المحبة قد مر في سورة البقرة في قوله :{ يحبونهم كحب الله }[ البقرة :165 ] وإنما قدم محبته على محبتهم لأن محبتهم إياه نتيجة محبته الأزلية إياهم فتلك أصل وهذه فرع . والراجع من الجزاء إلى الاسم المتضمن للشرط محذوف معناه فسوق يأتي الله بقوم مكانهم أو بقوم غيرهم { أذلة } جمع ذليل لأن ذلولاً من الذل نقيض الصعوبة لا يجمع على أذلة وإنما يجمع على ذلل . وليس المراد أنهم مهانون عند المؤمنين بل المراد المبالغة في وصفهم بالرفق ولين الجانب ، فإن من كان ذليلاً عند إنسان فإنه لا يظهر الكبر والترفع ألبتة .

ولتضمين الذل معنى الحنو العطف عدّي بعلى دون اللام كأنه قيل : عاطفين عليهم . أو المراد أنهم مع شرفهم واستعلاء حالهم واستيلائهم على المؤمنين خافضون لهم أجنحتهم ليضموا إلى منصبهم فضيلة التواضع { أعزة على الكافرين } يظهرون الغلظة والترفع عليهم من عزه يعزه إذا غلبه ونحو هذه الآية قوله :{ أشداء على الكفار رحماء بينهم }[ الفتح :29 ] أما الواو في قوله : { ولا يخافون } فإما أن تكون للحال أي يجاهدون وحالهم في المجاهدة خلاف حال المنافقين حيث يخافون لومة أوليائهم اليهود ، وإما أن تكون للعطف كقوله : إلى الملك القرم وابن الهمام *** . . .

أي هم الجامعون بين المجاهدة لله وبين الصلابة في الدين إذا شرعوا في أمر من أمور الدين ، لا يرعبهم اعتراض معترض . وفي وحدة اللوم وتنكير اللائم مبالغتان كأنه قيل : لا يخافون شيئاً قط من لوم أحد من اللوام . { ذلك } الذي ذكر من نعوت الكمال من المحبة والذلة وغيرها { فضل الله } إحسانه وتوفيقه . قالت الأشاعرة : إنه صريح في أن الأعمال مخلوقة لله تعالى . والمعتزلة حملوه على فعل الألطاف . وضعف بأن اللطف عام في حق الكل فلا بد للتخصيص من فائدة { والله واسع عليم } تام القدرة كامل العلم يعلم أهل الفضل فيؤتيهم الفضل .

واعلم أن للمفسرين خلافاً في أن القوم المذكورين في الآية من هم . قال الحسن وقتادة والضحاك وابن جريج : هم أبو بكر وأصحابه لأنهم الذين قاتلوا أهل الردة . وقال السدي : نزلت في الأنصار . وقال مجاهد : هم أهل اليمن لأنها لما نزلت أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي موسى الأشعري وقال : هم قوم هذا . وقال آخرون : هم الفرس لما روي أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن هذه الآية فضرب يده على عاتق سلمان وقال : هذا وذووه ثم قال : لو كان الدين معلقاً بالثريا لناله رجال من أبناء فارس . وقالت الشيعة : نزلت في علي رضي الله عنه وكرّم الله وجهه لما روي أنه صلى الله عليه وسلم دفع الراية إلى علي يوم خيبر وكان قد قال : لأدفعن الراية إلى رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ، ولأن ما بعد هذه الآية نازلة فيه باتفاق أكثر المفسرين . قال الإمام فخر الدين الرازي : هذه الآية من أدل الدلائل على فساد مذهب الإمامية لأن الذين اتفقوا على إمامة أبي بكر ، لو كانوا أنكروا نصاً جلياً على إمامة علي رضي الله عنه لكان كلهم مرتدين ثم لجاء الله بقوم تحاربهم وتردهم إلى الحق . ولما لم يكن الأمر كذلك بل الأمر بالضد فإن فرقة الشيعة مقهورون أبداً حصل الجزم بعدم النص . ولناصر مذهب الشيعة أن يقول : ما يدريك أنه تعالى لا يجيء بقوم تحاربهم ، ولعل المراد بخروج المهدي هو ذلك فإن محاربة من دان بدين الأوائل هي محاربة الأوائل وهذا إنما ذكرته بطريق المنع لا لأجل العصبية والميل فإن اعتقاد ارتداد الصحابة الكرام أمر فظيع والله أعلم .

/خ58