فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَن يَرۡتَدَّ مِنكُمۡ عَن دِينِهِۦ فَسَوۡفَ يَأۡتِي ٱللَّهُ بِقَوۡمٖ يُحِبُّهُمۡ وَيُحِبُّونَهُۥٓ أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلۡكَٰفِرِينَ يُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوۡمَةَ لَآئِمٖۚ ذَٰلِكَ فَضۡلُ ٱللَّهِ يُؤۡتِيهِ مَن يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ} (54)

{ يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم ( 54 ) إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ( 55 ) } .

{ يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه } هذا شروع في بيان أحكام المرتدين بعد بيان أن موالاة الكافرين من المسلم كفر ، وذلك نوع من أنواع الردة ، ذكر صاحب الكشاف أن إحدى عشرة فرقة من العرب ارتدت ثلاث في زمن رسوله صلى الله عليه وسلم وهم بنوا مدلج ورئيسهم ذو الحمار ، وبنو حنيفة وهم قوم مسيلمة الكذاب ، وبنو أسد وهم قوم طلحة بن خويلد .

وارتد سبع فرق في خلافة أبي بكر الصديق وهم فزارة قوم عيينه بن حصن الفزاري ، وغطفان قوم قرة بن سلمة القشيري ، وبنو سليم قوم الفجاة ابن عبد ياليل ، وبنو يربوع قوم مالك بن بريدة وبعض تميم قوم سجاح بنت المنذر ، وكندة قوم الأشعت بن قيس الكندي ، وبنو بكر بن وائل قوم الخطمي ابن يزيد ، فكفى الله أمرهم على يد أبي بكر الصديق ، وفرقة واحدة ارتدت في زمن خلافة عمر بن الخطاب وهم غسان قوم جبلة بن الأيهم ، فكفى الله أمرهم على يد عمر رضي الله عنه .

{ فسوف يأتي الله بقوم } المراد بالقوم الذين وعد الله سبحانه بالإتيان بهم هم أبو بكر الصديق رضي الله عنه وجيشه من الصحابة والتابعين الذين قاتل بهم أهل الردة ، ثم كل من جاء بعدهم من المقاتلين للمرتدين في جميع الزمن ، قال بعض الصحابة ما ولد بعد لنبيين أفضل من أبي بكر لقد قام مقام نبي الأنبياء في قتال أهل الردة .

ولما هم أبو بكر بقتالهم كره ذلك بعض الصحابة وقال بعضهم هم أهل القبلة ، فتقلد أبو بكر سيفه وخرج وحده فلم يجدوا بدا من الخروج على أثره ، فقال ابن مسعود : كرهنا ذلك في الابتداء ثم حمدناه في الانتهاء .

وأخرج حاكم والبيهقي وغيرهما عن أبي موسى الأشعري قال : تليت عند النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية فقال النبي صلى الله عليه وسلم قومك يا أبا موسى أهل اليمن ؟ ، وفي الباب روايات{[647]} .

وأخرج البخاري في تاريخه وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن جابر بن عبد الله قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله { فسوف يأتي الله بقوم } الآية فقال : هؤلاء قوم من أهل اليمن ثم كندة ثم السكون ثم تجيب{[648]} .

وعن ابن عباس هم أهل القادسية ، وقال السدي نزلت في الأنصار لأنهم هم الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم على إظهار الدين ، والأول أولى .

ثم وصف الله سبحانه هؤلاء القوم بالأوصاف العظيمة المشتملة على غاية المدح ونهاية الثناء فقال : { يحبهم ويحبونه } من كونهم { أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين } وهذه من صفات الذين اصطفاهم الله يعني أنهم أرقاء رحماء لأهل دينهم ، أشداء أقوياء غلظاء على أعدائهم ، قاله علي ، قال ابن عباس : تراهم كالولد لوالده وكالعبد لسيده ، وهم في الغلظة على الكافرين كالسبع على فريسته .

قال ابن الأنباري : أثنى الله عليهم بأنهم يتواضعون للمؤمنين إذا لقوهم ، ويعنفون الكافرين إذا لقولهم ، ولم يرد ذل الهوان بل الشفقة والرحمة ، وإنما أتى بلفظة ( على ) ليدل على علو منصبهم وفضلهم وشرفهم ، والأذلة جمع ذليل لا ذلول ، والأعزة جمع عزيز أي يظهرون الحنو والعطف والتواضع للمؤمنين ، ويظهرون الشدة والغلظة والترفع على الكافرين .

{ يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم } عذل عاذل في نصرهم الدين أي يجمعون بين المجاهدة في سبيل الله وعدم الخوف الملامة في الدين ، بل هم متصلبون لا يبالون بما يفعله أعداء الحق وحزب الشيطان من الإزراء بأهل الدين وقلب محاسنهم مساوئ ومناقبهم حسدا وبغضا وكراهة للحق وأهله .

والإشارة بقوله : { ذلك } إلى ما تقدم من الصفات التي اختصهم الله بها { فضل الله } أي لطفه وإحسانه { يؤتيه من يشاء والله واسع } الفضل وكثير الفضائل { عليم } بمن هو أهلها .


[647]:ابن كثير2/70.
[648]:ابن كثير2/70.