السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَن يَرۡتَدَّ مِنكُمۡ عَن دِينِهِۦ فَسَوۡفَ يَأۡتِي ٱللَّهُ بِقَوۡمٖ يُحِبُّهُمۡ وَيُحِبُّونَهُۥٓ أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلۡكَٰفِرِينَ يُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوۡمَةَ لَآئِمٖۚ ذَٰلِكَ فَضۡلُ ٱللَّهِ يُؤۡتِيهِ مَن يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ} (54)

{ يا أيها الذين آمنوا } أي : أقروا بالإيمان { من يرتدد } أي : يرجع { منكم عن دينه } إلى الكفر وهذا من الكائنات التي أخبر الله تعالى عنها في القرآن قبل وقوعها وكان أهل الردّة إحدى عشرة فرقة ثلاثة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم .

الأولى : بنو مدلج وكان رئيسهم ذو الحمار بالحاء المهملة ، قال التفتازاني : كان له حمار يقول له : قف فيقف وسر فيسير وكانت النساء أي : نساء أصحابه يتعطرون بروث حماره ، وقيل : يعقدون روثه بخمرهنّ فسمي ذو الخمار أيضاً بالخاء المعجمة ، وذو هنا وفيما قبله بالواو وعلى الحكاية وهو العنسي بفتح العين وسكون النون منسوب إلى عنس وهو يزيد بن مذحج بن أدد بن كعب العنسي ويلقب بالأسود كان كاهناً تنبأ باليمن واستولى على بلادها وأخرج عمال رسول الله صلى الله عليه وسلم فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه وإلى سادات اليمن وأمرهم أن يحثوا الناس على التمسك بدينهم والنهوض إلى حرب الأسود ، فقتله فيروز الديلمي على فراشه قال ابن عمر رضي الله تعالى عنهما : وأتى الخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم من السماء الليلة التي قتل فيها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( قتل الأسود البارحة قتله رجل مبارك ) قيل : ومن هو ؟ قال : «فيروز » فَسُرّ المسلمون فبشر النبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه بهلاك الأسود وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغد وأتى خبر مقتل العنسي المدينة في آخر شهر ربيع الأول وكان ذلك أوّل فتح جاء إلى أبي بكر رضي الله تعالى عنه وأرضاه .

والفرقة الثانية : بنو حنيفة باليمامة ورئيسهم مسيلمة الكذاب وكان تنبأ في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر سنة عشر وزعم أنه اشترك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في النبوّة وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله : أمّا بعد فإنّ الأرض نصفها لي ونصفها لك ، وبعثه إليه مع رجلين من أصحابه فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لولا أنّ الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما ) ثم أجاب من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب : ( أمّا بعد فإنّ الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ) ومرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوفي فبعث أبو بكر رضي الله تعالى عنه خالد بن الوليد في جيش كبير حتى أهلكه الله تعالى على يد وحشيّ غلام مطعم بن عدي الذي قتل حمزة بن عبد المطلب عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد حرب شديد ، وكان وحشيّ يقول : قتلت خير الناس في الجاهلية وشر الناس في الإسلام أراد في جاهليتي وإسلامي .

الفرقة الثالثة : بنو أسد ورئيسهم طليحة بن خويلد وكان طليحة أحد من ارتد وادّعى النبوّة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوّل من قوتل بعد وفاة النبيّ صلى الله عليه وسلم من أهل الردّة فبعث أبو بكر رضي الله تعالى عنه خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه إليه فهزمهم خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه بعد قتال شديد وأفلت طليحة فمرّ على وجهه هارباً نحو الشأم ، ثم إنه أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه .

وسبع في عهد أبي بكر رضي الله تعالى عنه ، الأولى : فزارة قوم عيينة بن حصن ، والثانية : غطفان قوم قرّة بن سلمة ، والثالثة : بنو سليم قوم الفجاءة بن عبد ياليل ، والرابعة : بنو يربوع قوم مالك بن نويرة ، والخامسة : بعض تميم قوم سجاح بنت المنذر المتنبئة التي زوّجت نفسها لمسيلمة الكذاب وفيها يقول أبو العلاء المعري :

أمت سجاح ووالاها مسيلمة *** كذابة في بني الدنيا وكذاب

والسادسة : كندة قوم الأشعث بن قيس والسابعة بنو بكر بن وائل بالبحرين قوم الحطم بن زيد وكفى الله تعالى أمرهم على يد أبي بكر رضي الله تعالى عنه ، وفرقة واحدة في عهد عمر رضي الله تعالى عنه وهي غسان قوم جبلة بن الأيهم تنصر وسار إلى الشأم ، والجمهور أنه مات على ردّته وذكرت طائفة أنه عاد إلى الإسلام . وقرأ نافع وابن عامر يرتدد بدالين الأولى مكسورة مخففة والثانية ساكنة والباقون بدال مفتوحة مشدّدة .

واختلف في ( القوم ) في قوله تعالى : { فسوف يأت الله بقوم يحبهم ويحبونه } قال قتادة بن غنم الأزدي : لما نزلت الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «قوم هذا » وأشار إلى أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه وكانوا من اليمن ، وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( الإيمان يمان والحكمة يمانية ) وقال الكلبي : هم أحياء من اليمن ألفان من النخع وخمسة آلاف من كندة وبجيلة وثلاثة آلاف من أفناء أي : لم يعلم ممن هم قاله الجوهري : فجاهدوا في سبيل الله يوم القادسية . وقيل : هم الأنصار وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم فضرب على عاتق سلمان رضي الله تعالى عنه فقال : «هذا وذووه » ، ثم قال : «لو كان الإيمان معلقاً بالثريا لناله رجال من أبناء فارس » والراجع إلى من محذوف تقديره : فسوف يأتي الله بقوم مكانهم أو بقوم غيرهم أو ما أشبه ذلك ومحبة الله تعالى لعباده أن يثيبهم أحسن الثواب على طاعتهم ويعظّمهم ويثني عليهم ويرضى عنهم ومحبة العباد لربهم طاعته وابتغاء مرضاته وأن لا يفعلوا ما يوجب سخطه وعقابه { أذلة على المؤمنين } أي : عاطفين عليهم متذللين لهم جمع ذليل ، وأمّا ذلول فجمعه ذلل ومن زعم أنه من الذل الذي هو نقيض الصعوبة فقد غبي عنه لأنه ذلولاً لا يجمع على أذلة .

فإن قيل : هلا قال أذلة للمؤمنين ؟ أجيب : بأنه تضمن معنى الحنو والعطف كأنه قال : عاطفين عليهم على وجه التذلل والتواضع وأنهم مع شرفهم وعلو طبقتهم وفضلهم على المؤمنين خافضون لهم أجنحتهم أو للمقابلة في قوله تعالى : { أعزة على الكافرين } أي : شداد متغلبين عليهم من عزّه إذا غلبه ، وقوله تعالى : { يجاهدون في سبيل الله } حال من الضمير في أعزة أو صفة أخرى لقوم ، وقوله تعالى : { ولا يخافون لومة لائم } يحتمل أن تكون الواو للحال على أنهم يجاهدون وحالهم في المجاهدة خلاف حال المنافقين فإنهم كانوا موالين لليهود فإذا خرجوا في جيش المؤمنين خافوا أولياءهم اليهود فلا يعملون شيئاً مما يعلمون أنه يلحقهم فيه لوم من جهتهم ، وأمّا المؤمنون فكانوا يجاهدون لوجه الله لا يخافون لومة لائم قط ، وإن يكون للعطف على يجاهدون بمعنى : إنهم الجامعون بين المجاهدة في سبيل الله والتصلّب في دينه واللومة المرّة من اللوم وفيها وفي تنكير لائم مبالغتان { ذلك } إشارة إلى الأوصاف المذكورة وقوله تعالى : { فضل الله يؤتيه من يشاء } أي : يمنحه ويوفق له فيبذل الإنسان جهده في طاعته لينظر إليه هذا النظر برحمته { والله واسع } أي : كثير الفضل { عليم } أي : بمن هو أهله .

ونزل لما قال ابن سلام رضي الله تعالى عنه : يا رسول الله إنّ قومنا هجرونا .