فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَن يَرۡتَدَّ مِنكُمۡ عَن دِينِهِۦ فَسَوۡفَ يَأۡتِي ٱللَّهُ بِقَوۡمٖ يُحِبُّهُمۡ وَيُحِبُّونَهُۥٓ أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلۡكَٰفِرِينَ يُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوۡمَةَ لَآئِمٖۚ ذَٰلِكَ فَضۡلُ ٱللَّهِ يُؤۡتِيهِ مَن يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ} (54)

{ يأيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه } الآيات التي سبقت حذرت من موالاة اليهود والنصارى ، وأن من تولاهم فهو من جملتهم وفي عدادهم ، وأما هذه فقد بينت بعض أحكام المرتدين ؛ لكن صاحب تفسير القرآن العظيم ذهب إلى غير هذا فقال : يقول تعالى مخبرا عن قدرته العظيمة : إنه من تولى عن نصرة دينه وإقامة شريعته ، فإن الله سيستبدل به من هو خير لها منه ، وأشد منعة وأقوم سبيلا ، كما قال تعالى : ( . . وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ) ( {[1780]} ) ؛ وقال تعالى : ( إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد . وما ذلك على الله بعزيز ) ( {[1781]} ) ، أي بممتنع ولا صعب . ا ه- وهذا من إعجاز القرآن ، والنبي صلى الله عليه وسلم إذ أخبر عن ارتدادهم ولم يكن ذلك في عهده وكان ذلك غيبا ، فكان على ما أخبر بعد مدة ، وأهل الردة كانوا بعد موته صلى الله عليه وسلم-( {[1782]} ) ؛ قال ابن اسحق : لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب إلا ثلاثة مساجد ؛ مسجد المدينة ، ومسجد مكة ، ومسجد جواثي( {[1783]} ) ، وكانوا في ردتهم على قسمين : قسم نبذ الشريعة كلها وخرج عنها ، وقسم نبذ وجوب الزكاة واعترف بوجوب غيرها ؛ قالوا : نصوم ونصلي ولا نزكي ، فقاتل الصديق جميعهم ، وبعث خالد بن الوليد إليهم بالجيوش فقاتلهم وسباهم ؛ على ما هو مشهور من أخبارهم( {[1784]} ) . ا ه .

{ فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم } الفاء واقعة في جواب شرط { مَن } فكان التقدير : من يرتد عن الإسلام فسوف يأتي الله مكانهم بعد إهلاكهم بقوم من صفاتهم أنهم يحبون الله تعالى ، يميلون إليه سبحانه بصدق ويسارعون إلى مرضاته ، ويحبهم جل وتقدس فيثيبهم أجزل الثواب ، ويكرمهم ويرضى عنهم ؛ ومن رضوانه سبحانه يمنحهم عطفا وحنوا على إخوانهم المؤمنين ، متذللين لهم ، { أعزة على الكافرين }-أشداء متغلبين عليهم- مِن عَزهُ ، إذا غلبه- ونص العلامة الطيبي أن هذا الوصف جيء به للتكميل ، لأن الوصف قبله يوهم أنهم أذلاء محقرون في أنفسهم ، فدفع ذلك الوهم بالإتيان به . . - ( {[1785]} ) ، فهم مع عُلُو مقامهم ، وهيبتهم في نفوس أعدائهم ، يخفضون أجنحتهم يتواضعون ، كما جاء في قول الحق تقدست أسماؤه وتباركت آلاؤه : ( محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم . . ) ( {[1786]} ) ، كما علمنا في شخص نبيه الكريم ، بقوله الحكيم : ( . . واخفض جناحك للمؤمنين ) ( {[1787]} ) ؛ { يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم }( يجمعون بين المجاهدة في سبيل الله وعدم خوف الملامة في الدين ، . . متصلبون لا يبالون بما يفعله أعداء الحق وحزب الشيطان من الإزراء بأهل الدين ، وقلب محاسنهم مساوئ ، ومناقبهم مثالب ، حسدا وبغضا ، وكراهة للحق وأهله ) ( {[1788]} ) ؛ مما يقول القرطبي-رحمه الله تعالى- : فدل بهذا على تثبيت إمامة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي-رضي الله تعالى عنهم- ؛ لأنهم جاهدوا في الله عز وجل في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقاتلوا المرتدين بعده ، ومعلوم أن من كانت فيه هذه الصفات فهو ولي الله تعالى ؛ وقيل : الآية عامة في كل من يجاهد الكفار إلى قيام الساعة ؛ والله أعلم . ا ه .

وعن قتادة : أنزل الله هذه الآية( {[1789]} ) وقد علم أنه يرتد مرتدون من الناس ، فلما قبض الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم ارتد عامة العرب عن الإسلام . . فبعث الله عصابة مع أبي بكر فقاتل على ما قاتل عليه نبي الله صلى الله عليه حتى سبي وقتل وحرق بالنيران أناسا ارتدوا عن الإسلام ومنعوا الزكاة ، حتى أقروا بالماعون- وهي الزكاة- صغرة أقمياء ، فأتته وفود العرب فخيرهم بين خطة مخزية أو حرب مجلية ، فاختاروا الخطة المخزية وكانت أهون عليهم : أن يستعدوا أن قتلاهم في النار ، وأن قتلى المؤمنين في الجنة ، وأن ما أصابوا من المسلمين مِن مال ردوه عليهم ، وما أصاب المسلمون لهم من مال فهو لهم حلال ؛ { ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم } ذلك العطاء الذي منح المولى أهل محبته من حنو على المسلمين ، وغلظة على الكافرين ، ومضاء في الحق ، وشدة في الدين ، ذلك العطاء تفضل من الوهاب الغني يهبه مَن يشاء من عباده ، وهو-تباركت آلاؤه- عظيم المنن والآلاء ، محيط العلم بكل الأشياء .


[1780]:من سورة محمد عليه السلام. من الآية 38.
[1781]:من سورة فاطر. الآيتان 17،16.
[1782]:من جامع لحكام القرآن.
[1783]:اسم حصن بالبحرين؛ وفي الحديث:" أول جمعة جمعت بعد المدينة بجواثي".
[1784]:نقل أبو الفضل شهاب الدين الألوسي البغدادي: روي أنه ارتد عن الإسلام إحدى عشرة فرقة، ثلاث في عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم" بنو مدلج، ورئيسهم: ذو الحمار، وهو الأسود العنسي؛ كان كاهنا تنبأ باليمن واستولى على بلاده فأخرج منها عمال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فكتب عليه الصلاة والسلام إلى معاذ بن جبل وإلى سادات اليمن، فأهلكه الله تعالى على يدي فيروز الديلمي، بيته فقتله، وأخبر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بقتله ليلة قتل، فسر به المسلمون وقبض عليه الصلاة والسلام من الغد، وأتى خبره في شهر ربيع الأول؛ وبنو حنيفة قوم مسيلمة الكذاب ابن حبيب، تنبأ وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم/ سلام عليك، أما بعد: فإني قد أشركت في الأمر معك، وإن لنا نصف الأرض ولقريش نصف الأرض، ولكن قريشا قوم يعتدون، فقدم عليه الصلاة والسلام رسولان له بذلك، فحين قرأ صلى الله تعالى عليه وسلم كتابه، قال لهما:" فما تقولان أنتما" ؟ قالا: نقول كما قال؛ فقال صلى الله تعالى عليه وسلم:" أما والله لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما، ثم كتب إليه:" بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب السلام على من اتبع الهدى أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين"، وكان ذلك في سنة عشر، فحاربه أبو بكر رضي الله تعالى عنه بجنود المسلمين، وقتل على يدي وحشي قاتل حمزة رضي الله تعالى عنهما، وكان يقول: قتلت في جاهليتي خير الناس، وفي إسلامي شر الناس..؛ وبنو أسد قوم طليحة بن خويلد تنبأ فبعث إليه أبو بكر رضي الله تعالى عنه خالد بن الوليد فانهزم بعد القتال إلى الشام فأسلم وحسن إسلامه، وارتدت سبع في عهد أبي بكر رضي الله تعالى عنه، فزارة قوم عيينة بن حصن؛ وغطفان قوم قرة بن سلمة القشيري؛ وبنو سليم قوم الفجاءة بن عبد ياليل؛ وبنو يربوع قوم مالك بن نويرة؛ وبعض بني تميم قوم سجاح بنت المنذر الكاهنة تنبأت وزوجت نفسها من مسيلمة في قصة مشهورة، وصح أنها أسلمت بعد وحسن إسلامها؛ وكندة قوم الأشعت بن قيس؛ وبنو بكر بن وائل بالبحرين قوم الحطم بن زيد، وكفى الله تعالى أمرهم على يدي أبي بكر رضي الله تعالى عنه؛ وفرقة واحدة في عهد عمر رضي الله تعالى عنه وهم غسان قوم جبلة بن الأيهم تنصر ولحق بالشام ومات على ردته، وقيل: إنه أسلم؛ ويروى أن عمر رضي الله تعالى عنه كتب إلى أحبار الشام لما لحق بهم كتابا، فيه: إن جبلة ورد إلي في سراة قوم فأسلم فأكرمته، ثم سار إلى مكة فطاف فوطىء إزاره رجل من بني فزارة، فلطمه جبلة فهشم أنفه وكسر ثناياه... فاستعدى الفزاري على جبلة إلي، فحكمت إما بالعفو وإما بالقصاص، فقال: أتقتص مني وأنا ملك، وهو سوقة ؟ فقلت: شملك وإياه الإسلام فما تفضله إلا بالعافية، فسأل جبلة التأخير إلى الغد، فلما كان من الليل ركب مع بني عمه ولحق بالشام مرتدا، وروي أنه ندم على ما فعله وأنشد: تنصرت بعد الحق عارا للطمـة ولم يك فيها لو صبرت لها ضرر فأدركـنـي منها لجـاج حميـة فبعث لها العين الصحيحة بالعـور فيـا ليـت أمي لم تلدنـي وليتنـي صبرت على القول الذي قاله عمـر
[1785]:من روح المعاني.
[1786]:من سورة الفتح. من الآية 29.
[1787]:من سورة الحجر. من الآية 88.
[1788]:من فتح القدير.
[1789]:نقل عن فخر الدين الرازي: هذه الآية من أول الدلائل على فساد مذهب الإمامية، لأن الذين اتفقوا على إمامة أبي بكر لو كانوا أنكروا نصا جليا على إمامة علي رضي الله عنه لكان كلهم مرتدين، ثم لجاء الله بقوم تحاربهم وتردهم إلى الحق، ولما لم يكن الأمر كذلك، بل الأمر بالضد: فإن فرقة الشيعة مقهورون أبدا حصل الجزم بعدم النص. ا هـ.