قوله تعالى : { تكاد السماوات } ، قرأ نافع ( يكاد ) بالياء هاهنا وفي حمعسق لتقدم الفعل ، وقرأ الباقون بالتاء لتأنيث السماوات ، { يتفطرن منه } ، هاهنا وفي حمعسق بالنون من الانفطار ، أبو عمرو و أبو بكر و يعقوب وافق ابن عامر و حمزة هاهنا لقوله تعالى : { إذا السماء انفطرت } [ الانفطار :1 ] و{ السماء منفطر } [ المزمل : 18 ] ، وقرأ الباقون بالتاء من التفطر ومعناهما واحد . يقال : انفطر الشيء وتفطر أي تشقق . { وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً } أي : تنكسر كسراً . وقيل : تنشق الأرض أي : تنخسف بهم ، والانفطار في السماء : أن تسقط عليهم ، { وتخر الجبال هداً } أي : تنطبق عليهم .
وقوله : تَكَادُ السّمَوَاتُ يَتَفَطّرْنَ مِنْهُ يقول تعالى ذكره : تكاد السموات يتشّقْقن قطعا من قيلهم : اتّخَذَ الرّحْمَنُ وَلَدا ، ومنه قيل : فَطَر نابُه : إذا انشقّ . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : تَكَادُ السّمَوَاتُ يَتَفَطّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقّ الأرْضُ وتَخِرّ الجِبالُ هَدّا أنْ دَعُوْا للرّحْمَنِ وَلَدا قال : إن الشرك فزعت منه السموات والأرض والجبال ، وجميع الخلائق إلا الثقلين ، وكادت أن تزول منه لعظمة الله ، وكما لا ينفع مع الشرك إحسان المشرك ، كذلك نرجو أن يغفر الله ذنوب الموحّدين . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لَقّنُوا مَوْتاكُمْ شَهادَةَ أنْ لا إلهَ إلاّ اللّهُ ، فَمَنْ قَالَها عِنْدَ مَوْتِهِ وَجَبَتْ لَهُ الجَنّةُ » قالُوا : يا رسول الله ، فمن قالها في صحته ؟ قال : «تلكَ أوْجَبُ وأوْجَبُ » . ثم قال : «وَالّذِي نَفْسِي بيَدِهِ لَوْ جِيءَ بالسّمَوَاتِ والأرَضِينَ وَما فيهِنّ وَما بَيْنَهُنّ وَما تَحْتَهُنّ ، فَوُضِعْنَ في كِفّةِ المِيزَانِ ، وَوُضِعَتْ شَهادَةُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللّهُ فِي الكِفّةِ الأُخْرَى ، لَرَجَحَتْ بِهِنّ » .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد تَكَادُ السّمَوَاتُ يَتَفَطّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقّ الأرْضُ وتَخِرّ الجِبالُ هَدّا ذُكر لنا أن كعبا كان يقول : غضبت الملائكة ، واستعرت جهنم ، حين قالوا ما قالوا .
وقوله : وَتَنْشَقّ الأرْضُ يقول : وتكاد الأرض تنشقّ ، فتنصدع من ذلك وتَخِرّ الجبالُ هَدّا يقول : وتكاد الجبال يسقط بعضها على بعض سقوطا . والهدّ : السقوط ، وهو مصدر هددت ، فأنا أهدّ هدّا . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وتَخِرّ الجِبالُ هَدّا يقول : هدما .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُريج ، قال : قال ابن عباس : وتَخِرّ الجِبالُ هَدّا قال : الهدّ : الانقضاض .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وتَخِرّ الجِبالُ هَدّا قال : غضبا لله . قال : ولقد دعا هؤلاء الذين جعلوا لله هذا الذي غضبت السموات والأرض والجبال من قولهم ، لقد استتابهم ودعاهم إلى التوبة ، فقال : لَقَدْ كَفَرَ الّذِينَ قالُوا إنّ اللّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ قالوا : هو وصاحبته وابنه ، جعلوها إلهين معه وَما مِنْ إله إلاّ إلهٌ وَاحِدٌ . . . إلى قوله : وَيَسْتَغْفِرُنَهُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَحيمٌ .
{ تكاد السماوات } وقرأ نافع والكسائي بالياء . { يتفطرن منه } يتشققن مرة بعد أخرى ، وقرأ أبو عمرو وابن عامر وحمزة وأبو بكر ويعقوب " ينفطرن " ، والأول أبلغ لأن التفعل مطاوع فعل والانفعال مطاوع فعل ولأن أصل التفعل التكلف . { وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا } تهد هدا أو مهدودة ، أو لأنها تهد أي تكسر وهو تقرير لكونه أدا ، والمعنى ، أن هول هذه الكلمة وعظمها بحيث لو تصورت بصورة محسوسة لم تتحملها هذه الأجرام والعظام وتفتت من شدتها ، أو أن فظاعتها مجلبة لغضب الله بحيث لولا حلمه لخرب العالم وبدد قوائمه غضبا على من تفوه بها .
وقرأ ابن كثير هنا وفي حم عسق{[8061]} «تكاد » بالتاء «يتفطرون » بياء وفتح الطاء وشدها ، ورواها حفص عن عاصم ، وقرأ أبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر «تكاد » بالتاء «ينفطِرن » بياء ونون وكسر الطاء ، وقرأ نافع والكسائي «يكاد » بالياء على زوال علامة التأنيث «يتفطَّرن » بالياء والتاء وشد الطاء وفتحها في الموضعين ، وقرأ حمزة وابن عامر في مريم مثل أبي عمرو وفي عسق مثل ابن كثير وقال أبو الحسن الأخفش «تكاد » بمعنى تريد ، وكذلك قوله تعالى { أكاد أخفيها }{[8062]} [ طه : 15 ] وأنشد على أن كاد بمعنى أراد قول الشاعر : [ الكامل ]
كادت وكدت وتلك خير إرادة . . . لو عاد من زمن الصبابة ما مضى{[8063]}
ولا حجة في هذا البيت وهذا قول قلق ، وقال الجمهور : إنما هي استعارة لشنعة الأمر أي هذا حقه لو فهمت الجمادات قدره وهذا المعنى مهيع{[8064]} للعرب فمنه قول جرير : [ الكامل ]
لما أتى خبر الزبير تواضعت . . . سور المدينة والجبال الخشع{[8065]}
ألم تر صدعاً في السماء مبيناً . . . على ابن لبينى الحارث بن هشام{[8066]}
وأصبح بطن مكة مقشعراً . . . كأن الأرض ليس بها هشام{[8067]}
والانفطار الانشقاق على غير رتبة مقصودة والهد الانهدام والتفرق في سرعة ، وقال محمد بن كعب : كاد أعداد الله أن يقيموا علينا الساعة .
قرأ نافع والكسائي بياء تحتية على عدم الاعتداد بالتأنيث ، وذلك جائز في الاستعمال إذا لم يكن الفعل رافعاً لضمير مؤنث متصل ، وقرأ البقية : { تكاد } بالتاء المثناة الفوقية ، وهو الوجه الآخر .
والتفطر : الانشقاق ، والجمع بينه وبين { وتنشق الأرض } تفنّن في استعمال المترادف لدفع ثقل تكرير اللفظ . والخرور : السقوط .
ومن في قوله : { منه } للتعليل ، والضمير المجرور بمن عائد إلى { شيئاً إداً } ، أو إلى القول المستفاد من { قالوا اتخذ الرحمن ولداً } .
والكلام جار على المبالغة في التهويل من فظاعة هذا القول بحيث إنه يبلغ إلى الجمادات العظيمة فيُغيّر كيانها .
وقرأ نافع ، وابن كثير ، وحفص عن عاصم ، والكسائي : يتفطرن بمثناة تحتية بعدها تاء فوقية . وقرأ أبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة ، وأبو جعفر ، ويعقوب ، وخلف ، وأبو بكر عن عاصم ، بتحتية بعدها نون ، من الانفطار . والوجهان مطاوع فطَر المضاعف أو فطر المجرد ، ولا يكاد ينضبط الفرق بين البنيتين في الاستعمال . ولعلّ محاولة التّفرقة بينهما كما في « الكشاف » و« الشافية » لا يطرد ، قال تعالى : { ويوم تشقق السماء بالغمام } [ الفرقان : 25 ] ، وقال : { إذا السماء انشقت } [ الانشقاق : 1 ] ، وقرىء في هذه الآية : { ينفطرون } و{ ينفطرن } ، والأصل توافق القرآتين في البلاغة .
والهدّ : هدم البناء . وانتصب { هَدّاً } على المفعولية المطلقة لبيان نوع الخرور ، أي سقوط الهَدم ، وهو أن يتساقط شظايا وقطعاً .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"تَكَادُ السّمَوَاتُ يَتَفَطّرْنَ مِنْهُ" يقول تعالى ذكره: تكاد السموات يتشّقْقن قطعا من قيلهم "اتّخَذَ الرّحْمَنُ وَلَدا"، ومنه قيل: فَطَر نابُه: إذا انشقّ...
عن ابن عباس، قوله: "تَكَادُ السّمَوَاتُ يَتَفَطّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقّ الأرْضُ وتَخِرّ الجِبالُ هَدّا أنْ دَعُوْا للرّحْمَنِ وَلَدا" قال: إن الشرك فزعت منه السموات والأرض والجبال، وجميع الخلائق إلا الثقلين، وكادت أن تزول منه لعظمة الله، وكما لا ينفع مع الشرك إحسان المشرك، كذلك نرجو أن يغفر الله ذنوب الموحّدين.
"وَتَنْشَقّ الأرْضُ" يقول: وتكاد الأرض تنشقّ، فتنصدع من ذلك. "وتَخِرّ الجبالُ هَدّا" يقول: وتكاد الجبال يسقط بعضها على بعض سقوطا. والهدّ: السقوط...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قال بعضهم: مثل هذا إنما يقال على المبالغة في العظيم من الأمور والنهاية من الضيق والشدة على التمثيل. يقول الرجل لآخر: أظلمت الدنيا عليه، وضاقت عليه الأرض بما رحبت، ونحوه على المبالغة في الضيق والشدة...
فعلى ذلك هذا؛ ذكر على المبالغة والنهاية في العظيم من القول الذي قالوا في الله سبحانه، ثم جعل مثل ما قالوا في العظيم في الله بما يعظم من المحسوسات في العقول. وهو ما ذكر من انفطار السماوات وانشقاق الأرض وَهَدِّ الجبال، وهن أصلب الأشياء وأشدها ليعرفوا عظم ما قالوا فيه. وهكذا تعرف الأمور الغائبة التي سبيل معرفتها الاستدلال بالمحسوسات من الأشياء والمشاهدات منها...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وقال أبو الحسن:معنى تكاد السموات:تريد، كقوله "كدنا ليوسف "أي أردنا... ومثله قوله تعالى "أكاد أخفيها" أي أريد. ومعنى "تكاد" في الآية تقرب لأن السموات لا يجوز أن ينفطرن ولا يردن لذلك، ولكن هممن بذلك، وقربن منه إعظاما لقول المشركين. وقال قوم: معناه على وجه المثل، لأن العرب تقول إذا أرادت أمرا عظيما منكرا: كادت السماء تنشق والأرض تنخسف، وأن يقع السقف...
وقال قوم: المعنى لو كان شيء يتفطر استعظاما لما يجري من الباطل لتفطرت السموات والأرض استعظاما، واستنكارا لما يضيفونه إلى الله تعالى من اتخاذ الولد، ومثله قوله "ولو أن قرآنا سيرت به الجبال". ومعنى يتفطرن: يتشققن، والانفطار: الانشقاق في قول ابن جريج،... وقرئ ينفطرن بمعنى يتشققن منه، يعني من قولهم اتخذ الرحمن ولدا، والمراد بذلك تعظيما واستنكارا لهذا القول، وأنه لو كانت السموات يتفطرن تعظيما لقول باطل لانشقت لهذا القول، ولو كانت الجبال تخر لأمر، لخرت لهذا القول. و (الهد) تهدم بشدة صوت.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: ما معنى انفطار السموات وانشقاق الأرض وخرور الجبال؟ ومن أين تؤثر هذه الكلمة في الجمادات؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن الله سبحانه يقول: كدت أفعل هذا بالسموات والأرض والجبال عند وجود هذه الكلمة غضباً مني على من تفوّه بها، لولا حلمي ووقاري، وأني لا أعجل بالعقوبة كما قال: {إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} [فاطر: 41].
والثاني: أن يكون استعظاماً للكلمة، وتهويلاً من فظاعتها، وتصويراً لأثرها في الدين وهدمها لأركانه وقواعده، وأن مثال ذلك الأثر في المحسوسات: أن يصيب هذه الأجرام العظيمة التي هي قوام العالم ما تنفطر منه وتنشق وتخرّ. وفي قوله {لَقَدْ جِئْتُمْ} وما فيه من المخاطبة بعد الغيبة، وهو الذي يسمى الالتفات في علم البلاغة زيادة تسجيل عليهم بالجرأة على الله، والتعرّض لسخطه، وتنبيه على عظم ما قالوا...
... فإن قيل من أين يؤثر القول بإثبات الولد لله تعالى في انفطار السماوات وانشقاق الأرض وخرور الجبال؟ قلنا فيه وجوه:
وثالثها: أن السماوات والأرض والجبال تكاد أن تفعل ذلك لو كانت تعقل من غلظ هذا القول وهذا تأويل أبي مسلم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم بين ثقله بقوله: {تكاد السماوات} على إحكامها، مع بعدها من أصحاب هذا القول {يتفطرن} أي يأخذن في الانشقاق {منه} أي من هذا الشيء الإدّ {وتنشق الأرض} على تحتها شقاً نافذاً واسعاً {وتخر} أي تسقط سريعاً {الجبال} على صلابتها {هداً} كما ينفسخ السقف تحت ما لا يحتمله من الجسم الثقيل.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم يهتز كل ساكن من حولهم ويرتج كل مستقر، ويغضب الكون كله لبارئه. وهو يحس بتلك الكلمة تصدم كيانه وفطرته؛ وتجافي ما وقر في ضميره وما استقر في كيانه؛ وتهز القاعدة التي قام عليها واطمأن إليها: (تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا)...