قوله تعالى : { وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم } . أي لا تريقون .
قوله تعالى : { دماءكم } . أي : لا يسفك بعضكم دم بعض ، وقيل : لا تسفكوا دماء غيركم فتسفك دماؤكم ، فكأنكم سفكتم دماء أنفسكم .
قوله تعالى : { ولا تخرجون أنفسكم من دياركم } . ولا يخرج بعضكم بعضاً من داره ، وقيل : لا تسيئوا جوار من جاوركم فتلجؤهم إلى الخروج بسوء جواركم .
قوله تعالى : { ثم أقررتم } . بهذا العهد أنه حق وقبلتم .
قوله تعالى : { وأنتم تشهدون } . اليوم على ذلك يا معشر اليهود وتعترفون بالقبول .
{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ }
وهذا الفعل المذكور في هذه الآية ، فعل للذين كانوا في زمن الوحي بالمدينة ، وذلك أن الأوس والخزرج - وهم الأنصار - كانوا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم مشركين ، وكانوا يقتتلون على عادة الجاهلية ، فنزلت عليهم الفرق الثلاث من فرق اليهود ، بنو قريظة ، وبنو النضير ، وبنو قينقاع ، فكل فرقة منهم حالفت فرقة من أهل المدينة .
فكانوا إذا اقتتلوا أعان اليهودي حليفه على مقاتليه الذين تعينهم{[92]} الفرقة الأخرى من اليهود ، فيقتل اليهودي اليهودي ، ويخرجه من دياره إذا حصل جلاء ونهب ، ثم إذا وضعت الحرب أوزارها ، وكان قد حصل أسارى بين الطائفتين فدى بعضهم بعضا .
والأمور الثلاثة كلها قد فرضت عليهم ، ففرض عليهم أن لا يسفك بعضهم دم بعض ، ولا يخرج بعضهم بعضا ، وإذا وجدوا أسيرا منهم ، وجب عليهم فداؤه ، فعملوا بالأخير وتركوا الأولين ، فأنكر الله عليهم ذلك فقال : { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ } وهو فداء الأسير { وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } وهو القتل والإخراج .
وفيها أكبر دليل على أن الإيمان يقتضي فعل الأوامر واجتناب النواهي ، وأن المأمورات من الإيمان ، قال تعالى : { فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } وقد وقع ذلك فأخزاهم الله ، وسلط رسوله عليهم ، فقتل من قتل ، وسبى من سبى منهم ، وأجلى من أجلى .
{ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ } أي : أعظمه { وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }
{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَآءِكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مّن دِيَارِكُمْ ثُمّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ }
قال أبو جعفر : قوله : { وَإذْ أخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ } في المعنى والإعراب نظير قوله : { وَإذْ أخَذْنا مِيثَاقَ بَنِي إسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إلاّ اللّهَ } . وأما سفك الدم ، فإنه صبه وإراقته .
فإن قال قائل : وما معنى قوله : لا تَسْفِكونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ؟ وقال : أَوَ كان القوم يقتلون أنفسهم ، ويخرجونها من ديارها ، فنهوا عن ذلك ؟ قيل : ليس الأمر في ذلك على ما ظننتَ ، ولكنهم نهوا عن أن يقتل بعضهم بعضا ، فكان في قتل الرجل منهم الرجلَ قتلُ نفسه ، إذْ كانت ملّتهما بمنزلة رجل واحد ، كما قال عليه الصلاة والسلام : «إنّمَا المُؤْمِنُونَ فِي تَرَاحُمِهمْ وَتَعَاطُفِهِمْ بَيْنَهُمْ بمَنْزِلَةِ الجَسَدِ الوَاحِدِ إذَا اشْتَكَى بَعْضُهُ تَدَاعَى لَهُ سائرُ الجَسَدِ بِالحُمّى وَالسّهَرِ » .
وقد يجوز أن يكون معنى قوله : { لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ } أي لا يقتل الرجل منكم الرجل منكم ، فيقاد به قصاصا ، فيكون بذلك قاتلاً نفسه لأنه كان الذي سبب لنفسه ما استحقت به القتل ، فأضيف بذلك إليه قتل وليّ المقتول إياه قصاصا بوليه ، كما يقال للرجل يركب فعلاً من الأفعال يستحقّ به العقوبة فيعاقب العقوبة : أنت جنيت هذا على نفسك .
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل : ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { وَإذْ أخَذْنَا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ } أي لا يقتل بعضكم بعضا ، { وَلاَ تُخْرِجُونَ أنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ }ونفسُك يا ابن آدم أهل ملّتك .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية في قوله : { وَإذْ أَخَذْنَا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ } يقول : لا يقتل بعضكم بعضا ، { وَلاَ تُخْرِجُونَ أنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ } يقول : لا يخرج بعضكم بعضا من الديار .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن قتادة في قوله : { لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ } يقول : لا يقتل بعضكم بعضا بغير حق { وَلا تُخْرِجُونَ أنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ } فتسفك يا ابن آدم دماء أهل ملتك ودعوتك .
القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمّ أقْرَرْتُمْ } .
يعني بقوله : { ثُمّ أقْرَرْتُمْ } بالميثاق الذي أخذنا عليكم { لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ } . كما :
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : { ثُمّ أقْرَرْتُمْ } يقول : أقررتم بهذا الميثاق .
وحدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع مثله .
القول في تأويل قوله تعالى : { وأنْتُمْ تَشْهَدُونَ } .
اختلف أهل التأويل فيمن خوطب بقوله { وأنْتُمْ تَشْهَدُونَ } .
فقال بعضهم : ذلك خطاب من الله تعالى ذكره لليهود الذين كانوا بين ظهرانَيْ مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام هجرته إليه مؤنبا لهم على تضييع أحكام ما في أيديهم من التوراة التي كانوا يقرّون بحكمها ، فقال الله تعالى لهم : ثُمّ أقْرَرْتُمْ يعني بذلك إقرار أوائلكم وسلفكم وأنْتُمُ تَشْهَدُونَ على إقراركم بأخذ الميثاق عليهم ، بأن لا يسفكوا دماءهم ، ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم ، ويصدقون بأن ذلك حقّ من ميثاقي عليهم . وممن حكي معنى هذا القول عنه ابن عباس .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثني ابن إسحاق ، قال : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : وَإذْ أخَذْنا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلاَ تخْرِجُونَ أنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمّ أَقْرَرْتُمْ وأنْتُمُ تَشْهَدُونَ أن هذا حق من ميثاقي عليكم .
وقال آخرون : بل ذلك خبر من الله جل ثناؤه عن أوائلهم ، ولكنه تعالى ذكره أخرج الخبر بذلك عنهم مخرج المخاطبة على النحو الذي وصفنا في سائر الاَيات التي هي نظائرها التي قد بينا تأويلها فيما مضى . وتأولوا قوله وأنْتُمْ تَشْهَدُونَ على معنى : وأنتم شهود . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية قوله : { وأنتُمْ تَشْهَدُونَ }يقول : وأنتم شهود .
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب عندي أن يكون قوله : { وأنْتُمْ تَشْهَدُونَ } خبرا عن أسلافهم ، وداخلاً فيه المخاطبون منهم الذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما كان قوله : { وَإذْ أخَذْنا ميثاقَكُمْ } خبرا عن أسلافهم وإن كان خطابا للذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الله تعالى أخذ ميثاق الذين كانوا على عهد رسول الله موسى صلى الله عليه وسلم من بني إسرائيل على سبيل ما قد بينه لنا في كتابه ، فألزم جميع من بعدهم من ذريتهم من حكم التوراة مثل الذي ألزم منه من كان على عهد موسى منهم . ثم أنّب الذين خاطبهم بهذه الاَيات على نقضهم ونقض سلفهم ذلك الميثاق ، وتكذيبهم ما وكدوا على أنفسهم له بالوفاء من العهود ، بقوله : { ثُمّ أقْرَرْتُمْ وأنْتُمْ تَشْهَدُونَ } ، فإنْ كان خارجا على وجه الخطاب للذين كانوا على عهد نبينا صلى الله عليه وسلم منهم ، فإنه معنيّ به كل من واثق بالميثاق منهم على عهد موسى ومن بعده ، وكل من شهد منهم بتصديق ما في التوراة لأن الله جل ثناؤه لم يخصص بقوله : { ثُمّ أقْرَرْتُمْ وأنْتُمْ تَشْهَدُونَ } وما أشبه ذلك من الاَي بعضهم دون بعض والآية محتملة أن يكون أريد بها جميعهم .
فإنْ كان ذلك كذلك فليس لأحد أن يدعي أنه أريد بها بعض منهم دون بعض . وكذلك حكم الآية التي بعدها ، أعني قوله : { ثُمّ أنْتُمُ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أنْفُسَكُمْ } الآية ، لأنه قد ذكر لنا أن أوائلهم قد كانوا يفعلون من ذلك ما كان يفعله أواخرهم الذين أدركوا عصر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .
{ وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم } على نحو ما سبق والمراد به أن لا يتعرض بعضهم بعضا بالقتل والإجلاء عن الوطن . وإنما جعل قتل الرجل غيره قتل نفسه ، لاتصاله به نسبا أو دينا ، أو لأنه يوجبه قصاصا . وقيل معناه لا ترتكبوا ما يبيح سفك دمائكم وإخراجكم من دياركم ، أو لا تفعلوا ما يرديكم ويصرفكم عن الحياة الأبدية فإنه القتل في الحقيقة ، ولا تقترفوا ما تمنعون به عن الجنة التي هي داركم ، فإنه الجلاء الحقيقي { ثم أقررتم } بالميثاق واعترفتم بلزومه { وأنتم تشهدون } توكيد كقولك . أقر فلان شاهدا على نفسه . وقيل وأنتم أيها الموجودون تشهدون على إقرار أسلافكم ، فيكون إسناد الإقرار إليهم مجازا .
{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ } ( 84 )
والسفك صب الدم وسرد الكلام ، وقرأ طلحة بن مصرف وشعيب بن أبي حمزة «لا تسفُكون » بضم الفاء ، وقرأ أبو نهيك «تُسفِّكون » بضم التاء وكسر الفاء وتضعيفها ، وإعراب { لا تسفكون } كما تقدم في { لا تعبدون } ، و { دماءكم } جمع دم ، وهو اسم منقوص أصله دمي ، وتثنيته دميان ، وقيل أصله دمْي بسكون الميم ، وحركت في التثنية لتدل الحركة على التغيير الذي في الواحد .
وقوله تعالى { ولا تخرجون أنفسكم من دياركم } معناه ولا ينفي بعضكم بعضاً بالفتنة والبغي ، ولما كانت ملتهم واحدة وأمرهم واحداً وكانوا في الأمم كالشخص الواحد ، جعل قتل بعضهم لبعض ونفي بعضهم بعضاً قتلاً لأنفسهم ونفياً لها ، وكذلك حكم كل جماعة تخاطب بهذا اللف في القول( {[885]} ) ، وقيل { لا تسفكون دماءكم } أي لا يقتل أحد فيقتل قصاصاً ، فكأنه سفك دم نفسه لما سبب ذلك ولا يفسد في الأرض فينفى فيكون قد أخرج نفسه من دياره ، وهذا تأويل فيه تكلف ، وإنما كان الأمر أن الله تعالى قد أخذ على بني إسرائيل في التوراة ميثاقاً أن لا يقتل بعضهم بعضاً ولا ينفيه ولا يسترقه ولا يدعه يسترق إلى غير ذلك من الطاعات .
وقوله تعالى { ثم أقررتم } أي خلفاً بعد سلف أن هذا الميثاق أخذ عليكم والتزمتموه فيتجه في هذه اللفظة أن تكون من الإقرار الذي هو ضد الجحد وتتعدى بالباء ، وأن تكون من الإقرار الذي هو إبقاء الأمر على حاله ، أي أقررتم هذا الميثاق ملتزماً .
وقوله { وأنتم تشهدون }( {[886]} ) قيل الخطاب يراد به من سلف منهم والمعنى وأنتم شهود أي حضور أخذ الميثاق والإقرار ، وقيل إن المراد من كان في مدة محمد صلى الله عليه وسلم ، والمعنى وأنتم شهداء أي بينة أن هذا الميثاق أخذ على أسلافكم فمن بعدهم .
{ وَإِذْ أَخَذْنَا ميثاقكم لاَ تَسْفِكُونَ دِمَآءِكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِّن دياركم ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ } .
تفنن الخطاب هنا فجاء على نسق ما قبل الآية السابقة ، إذ عبر هنا عن جميع بني إسرائيل بضمير الخطاب على طريق التغليب لأن المخاطبين حين نزول القرآن هم المقصودون من هذه الموعظة أو على طريق تنزيل الخلف منزلة السلف كما تقدم ، لأن الداعي للإظهار عند الانتقال من الاستطراد إلى بقية المقصود في الآية السابقة قد أخذ ما يقتضيه فعاد أسلوب الخطاب إلى ما كان عليه .
والقول في { لا تسفكون } كالقول في { لا تعبدون إلا الله } [ البقرة : 83 ] والسفك الصب . وإضافة الدماء إلى ضمير فاعل { تسفكون } اقتضت أن مفعول { تسفكون } هو دماء السافكين وليس المراد النهي عن أن يسفك الإنسان دم نفسه أو يخرج نفسه من داره لأن مثل هذا مما يزع المرء عنه وازعه الطبيعي فليس من شأن الشريعة الاهتمام بالنهي عنه ، وإنما المراد أن لا يسفك أحد دم غيره ولا يخرج غيره من داره على حد قوله تعالى : { فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم } [ النور : 61 ] أي فليسلم بعضكم على بعض .
فوجه إضافة الدماء إلى ضمير السافكين أن هذه الأحكام المتعلقة بالأمة أو القبيلة يكون مدلول الضمائر فيها مجموع الناس ، فإذا تعلقت أحكام بتلك الضمائر من إسناد أو مفعولية أو إضافة أرجع كل إلى ما يناسبه على طريقة التوزيع وهذا كثير في استعمال القرآن ونكتته الإشارة إلى أن المغايرة في حقوق أفراد الأمة مغايرة صورية وأنها راجعة إلى شيء واحد وهو المصلحة الجامعة أو المفسدة الجامعة ، ومثله قوله تعالى : { لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } [ البقرة : 188 ] ومن هذا القبيل قول الحماسي الحارث بن وعلة الذهلي :
قومي هم قتلوا أُميم أخي *** فإذا رميت يصيبني سهمـي
فلئن عفوت لأعفون جللا *** ولئن سطوت لأوهنن عظمي
يريد أن سهمه إذا أصاب قومه فقد أضرَّ بنفسه وإلى هذا الوجه أشار ابن عطية وسماه اللف في القول ، أي الإجمال المراد به التوزيع ، وذهب صاحب « الكشاف » إلى أنه من تشبيه الغير بالنفس لشدة اتصال الغير بالنفس في الأصل أو الدين فإذا قتل المتصل به نسباً أو ديناً فكأنما قتل نفسه وهو قريب من الأول ومبناه على المجاز في الضمير المضاف إليه في قوله : { دماءكم } و { أنفسكم } .
وقيل : إن المعنى لا تسفكون دماءكم بالتسبب في قتل الغير فيقتص منكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم بالجناية على الغير فتنفوا من دياركم ، وهذا مبني على المجاز التبعي في { تفسكون } و { تخرجون } بعلاقة التسبب .
وأشارت هذه الآية إلى وصيتين من الوصايا الإلهية الواقعة في العهد المعروف بالكلمات العشر المنزلة على موسى عليه السلام من قوله : « لا تقتل ، لا تشته بيت قريبك » فإن النهي عن شهوة بيت القريب لقصد سد ذريعة السعي في اغتصابه منه بفحوى الخطاب .
وعليه فإضافة { ميثاق } إلى ضمير المخاطبين مراعى فيها أنهم لما كانوا متدينين بشريعة التوراة فقد التزموا بجميع ما تحتوي عليه .
وقوله : { ثم أقررتم وأنتم تشهدون } مرتب ترتيباً رتبياً أي أخذ عليكم العهد وأقررتموه أي عملتم به وشهدتم عليه فالضميران في { أقررتم وأنتم تشهدون } راجعان لما رجع له ضمير { ميثاقكم } وما بعده لتكون الضمائر على سنن واحد في النظم . وجملة { وأنتم تشهدون } حالية أي لا تنكرون إقراركم بذلك إذ قد تقلدتموه والتزمتم التديُّن به .