قوله تعالى : { يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين } ، قال سعيد بن جبير : أسلم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة وثلاثون رجلاً وست نسوة ، ثم أسلم عمر بن الخطاب فتم به الأربعون ، فنزلت هذه الآية . واختلفوا في محل ( من ) فقال أكثر المفسرين محله خفض ، عطفاً على الكاف في قوله : { حسبك الله } وحسب من اتبعك ، وقال بعضهم : هو رفع عطفاً على اسم الله معناه : حسبك الله ومتبعوك من المؤمنين .
ثم قال تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ ْ } أي : كافيك { وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ْ } أي : وكافي أتباعك من المؤمنين ، . وهذا وعد من اللّه لعباده المؤمنين المتبعين لرسوله ، بالكفاية والنصرة على الأعداء .
فإذا أتوا بالسبب الذي هو الإيمان والاتباع ، فلابد أن يكفيهم ما أهمهم من أمور الدين والدنيا ، وإنما تتخلف الكفاية بتخلف شرطها .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَأَيّهَا النّبِيّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : يا أيها النبيّ حسبك الله ، وحسب من اتبعك من المؤمنين الله . يقول لهم جلّ ثناؤه : ناهضوا عدوّكم ، فإن الله كافيكم أمرهم ، ولا يهولنكم كثرة عددهم وقلة عددكم ، فإن الله مؤيدكم بنصره .
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا مؤمل بن إسماعيل ، قال : حدثنا سفيان ، عن شوذب بن معاذ ، عن الشعبيّ في قوله : يا أيّها النّبيّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتّبَعَكَ منَ المُؤْمِنِينَ قال : حسبك الله وحسب من اتبعك من المؤمنين الله .
حدثني أحمد بن عثمان بن حكيم الأودي ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا سفيان ، عن شوذب ، عن الشعبيّ ، في قوله : يا أيّها النّبيّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتّبَعَكَ منَ المُؤْمِنِينَ قال : حسبك الله وحسب من معك .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبيد الله ، عن سفيان ، عن شوذب ، عن عامر ، بنحوه ، إلا أنه قال : حسبك الله وحسب من شهد معك .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، عن ابن زيد ، في قوله : يا أيّها النّبيّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتّبَعَكَ منَ المُؤْمِنِينَ قال : يا أيها النبيّ حسبك الله وحسب من اتبعك من المؤمنين ، إنّ حسبك أنت وهم الله .
ف«مَنْ » من قوله : وَمَنِ اتّبَعَكَ منَ المُؤْمِنِينَ على هذا التأويل الذي ذكرناه عن الشعبي نصب عطفا على معنى الكاف في قوله : حَسْبُكَ اللّهُ لا على لفظه ، لأنها في محل خفض في الظاهر وفي محل نصب في المعنى ، لأن معنى الكلام : يكفيك الله ، ويكفي من اتبعك من المؤمنين . وقد قال بعض أهل العربية في «مَن » : إنها في موضع رفع على العطف على اسم الله ، كأنه قال : حسبك الله ومتبعوك إلى جهاد العدوّ من المؤمنين دون القاعدين عنك منهم . واستشهد على صحة قوله ذلك بقوله : حَرّضِ المُؤْمِنينَ على القِتالِ .
{ يا أيها النبي حسبك الله } كافيك . { ومن اتبعك من المؤمنين } أما في محل النصب على المفعول معه كقوله :
إذا كانت الهيجاء واشتجر القنا *** فحسبك والضّحّاك سيف مهنّد
أو الجر عطفا على المكني عند الكوفيين ، أو الرفع عطفا على اسم الله تعالى أي كفاك الله والمؤمنون . والآية نزلت بالبيداء في غزوة بدر ، وقيل أسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة وثلاثون رجلا وست نسوة ، ثم أسلم عمر رضي الله عنه فنزلت . ولذلك قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما نزلت في إسلامه .
وقوله تعالى : { يا أيها النبي أحسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين } قال النقاش : نزلت هذه الآية بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال ، وحكي عن ابن عباس أنها نزلت في الأوس والخزرج خاصة ، قال ويقال إنها نزلت حين أسلم عمر وكمل المسلمون أربعين ، قاله ابن عمر وأنس ، فهي على هذا مكية ، و { حسبك } في كلام العرب و{ شرعك }{[5459]} بمعنى : كافيك ويكفيك ، والمحسب الكافي ، وقالت فرقة : معنى هذه الآية يكفيك الله ويكفيك من اتبعك من المؤمنين ، ف { من } في هذا التأويل رفع عطفاً على اسم الله عز وجل ، وقال عامر الشعبي وابن زيد : معنى الآية حسبك الله وحسب من اتبعك من المؤمنين ، ف { من } في هذا التأويل في موضع نصب عطفاً على موضع الكاف ، لأن موضعها نصب على المعنى ليكفيك التي سدَّت { حسبك } مسدَّها ، ويصح أن تكون { من } في موضع خفض بتقدير محذوف كأنه قال وحسب وهذا كقول الشاعر : [ المتقارب ]
أكلُّ امرىءٍ تحسبين امرأً*** ونار توقَّدُ بالليلِ نارا{[5460]}
التقدير وكل نار ، وهذا الوجه من حذف المضاف مكروه بابه ضرورة الشعر{[5461]} ، ويروى البيت وناراً ، ومن نحو هذا قول الشاعر : [ الطويل ]
إذا كانت الهيجاءُ وانشقَّت العصا*** فحسبُك والضحَّاكُ سيف مهند{[5462]}
يروى «الضحاك » مرفوعاً والضحاك منصوباً والضحاك مخفوضاً فالرفع عطف على قوله سيف بنية التأخير كما قال الشاعر :
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** عليك ورحمة الله السلام{[5463]}
ويكون «الضحاك » على هذا محسباً للمخاطب{[5464]} ، والنصب عطفاً على موضع الكاف من قوله «حسبك » والمهند على هذا محسب للمخاطب ، والضحاك على تقدير محذوف كأنه قال فحسبك الضحاك .
استئناف ابتدائي بالإقبال على خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم بأوامر وتعاليم عظيمة ، مُهّد لقبولها وتسهيلها بما مضى من التذكير بعجيب صنع الله والامتنان بعنايته برسوله والمؤمنين ، وإظهار أن النجاح والخير في طاعته وطاعة الله ، من أوّل السورة إلى هنا ، فموقع هذه الآية بعد التي قبلها كَامل الاتّساق والانتظام ، فإنّه لمّا أخبره بأنّه حَسبه وكافيه ، وبيّن ذلك بأنّه أيّده بنصره فيما مضى وبالمؤمنين ، فقد صار للمؤمنين حظّ في كفاية الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم فلا جرم أنتج ذلك أنّ حسبه الله والمؤمنون ، فكانت جملة : { يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين } كالفذلكة للجملة التي قبلها .
وتخصيص النبي بهذه الكفاية لتشريف مقامه بأنّ الله يكفي الأمّة لأجله .
والقول في وقوع « حسب » مسنداً إليه هنا كالقول في قوله آنفاً { فإنّ حسبك الله } [ الأنفال : 62 ] .
وفي عطف المؤمنين « على اسم الجلالة هنا : تنويه بشأن كفاية الله النبي صلى الله عليه وسلم بهم ، إلاّ أنّ الكفاية مختلفة وهذا من عموم المشترك لا من إطلاَق المشترك على معنيين ، فهو كقوله : { إن الله وملائكته يصلون على النبي } .
وقيل يُجعل { ومن اتبعك } مفعولاً معه لقوله : { حسبك } بناء على قول البصريين إنّه لا يعطف على الضمير المجرور اسم ظاهر ، أو يجعل معطوفاً على رأي الكوفيين المجوّزين لمثل هذا العطف . وعلى هذا التقدير يكون التنويه بالمؤمنين في جعلهم مع النبي صلى الله عليه وسلم في هذا التشريف ، والتفسير الأول أولى وأرشق .
وقد روي عن ابن عبّاس : أنّ قوله : { يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين } نزلت يوم أسلم عمر بن الخطاب . فتكون مكّيّة ، وبقيت مقروءة غير مندرجة في سورة ، ثم وقعت في هذا الموضع بإذن من النبي صلى الله عليه وسلم لكونه أنسب لها .
وعن النقّاش نزلت هذه الآية بالبيداء في بدر ، قبل ابتداء القتال ، فيكون نزولها متقدّما على أوّل السورة ثم جعلت في هذا الموضع من السورة .
والتناسب بينها وبين الآية التي بعدها ظاهر مع اتّفاقهم على أنّ الآية التي بعدها نزلت مع تمام السورة فهي تمهيد لأمر المؤمنين بالقتال ليحقّقوا كِفايتهم الرسول .