اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ حَسۡبُكَ ٱللَّهُ وَمَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (64)

قوله تعالى : { يا أيها النبي حَسْبُكَ الله } الآية .

لمَّا وعده بالنَّصر عند مخادعة الأعداء ، وعده بالنَّصر والظفر في هذه الآية مطلقاً ، وعلى هذا التقرير لا يلزمِ منه التكرار ، وهذه الآية نزلت بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال ، والمرادُ بقوله { وَمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين } الأنصار .

وعن ابنِ عبَّاسٍ : " نزلت في إسلامِ عُمر " {[17476]} .

قال سعيدُ بن جبير : " أسلم مع النَّبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة وثلاثون رجلاً وست نسوة ، ثم أسلم عمر ، فنزلت هذه الآية " {[17477]} .

قال المفسِّرُون : فعلى هذا القول هذه الآية مكية ، [ كتبت في ] سورة مدنية بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم .

قوله " ومن اتَّبعكَ " فيه أوجهٌ .

أحدها : أن يكون " مَنْ " مرفوع المحلِّ ، عطفاً على الجلالة ، أي : يكفيك الله والمؤمنون . وبهذا فسّره الحسن البصري وجماعة وهو الظاهر ولا محذور في ذلك حيث المعنى .

فإن قالوا : من كان الله ناصره امتنع أن يزداد حاله ، أو ينقص بسبب نصرة غير الله ، وأيضاً إسناد الحكم إلى المجموع يوهم أنَّ الواحدَ من ذلك المجموع لا يكفي في حصولِ ذلك المهم وتعالى الله عنه .

ويجابُ : بأنَّ الكُلَّ من اللَّهِ ، إلاَّ أنَّ من أنواع النُّصرة ما يحصل بناء على الأسباب المألوفةِ المعتادةِ ، ومنها ما يحصلُ لا بناءً على الأسباب المألوفة المعتادة ؛ فلهذا الفرق اعتبر نصر المؤمنين ، وإن كان بعضُ الناس استصعب كون المؤمنين يكونون كافين النبي صلى الله عليه وسلم وتأوَّل الآية على ما سنذكره .

الثاني : أنَّ " مَنْ " مجرورُ المحلِّ ، عطفاً على الكافِ في : " حَسْبُكَ " ، وهذا رأي الكوفيين وبهذا فسَّر الشعبي وابن زيد ، قالا : " معناه : وحسبُ من اتَّبعك " .

الثالث : أنَّ محلَّه نصبٌ على المعيَّة .

قال الزمخشري : " ومنِ اتَّبعكَ " الواو بمعنى " مع " وما بعدهُ منصوبٌ ، تقول : حَسْبُكَ وزَيْداً درهمٌ ، ولا تَجُرُّ ؛ لأنَّ عطف الظّاهر المجرور على المكنيّ ممتنعٌ ؛ وقال : [ الطويل ]

. . . *** فَحَسْبُكَ والضَّحَّاكَ سَيْفٌ مُهَنَّدُ {[17478]}

والمعنى : كَفَاك وكَفَى تُبَّاعكَ المؤمنين اللَّه ناصراً .

قال أبو حيَّان{[17479]} : " وهذا مخالفٌ لكلام سيبويه ؛ فإنَّه قال " حَسْبُك وزَيْداً درهم " لمَّا كان فيه معنى : كفاك ، وقبُحَ أن يحملوه على الضمير دون الفعل ، كأنَّهُ قال : حسبك وبحسبِ أخاك " ثم قال : " وفي ذلك الفعل المضمر ضميرٌ يعودُ على الدرهم والنيةُ بالدرهم التقديمُ ، فيكون من عطف الجمل ، ولا يجوزُ أن يكون من باب الإعمال ، لأنَّ طلبَ المبتدأ للخبر وعمله فيه ليس من قبيل طلب الفعل ، أو ما جرى مجراه ، ولا عمله فلا يُتوهَّم ذلك فيه " .

وقد سبق الزمخشريَّ إلى كونه مفعولاً معه الزجاج ، إلاَّ أنه جعل " حسب " اسم فعلٍ ، فإنه قال : " حَسْبُ " اسمُ فعل ، والكافُ نصبٌ ، والواو بمعنى " مع " .

وعلى هذا يكون " اللَّهُ " فاعلاً ، وعلى هذا التقدير يجوز في " ومَنْ " أن يكون معطوفاً على الكاف ، لأنَّها مفعول باسم الفعل ، لا مجرورٌ ، لأنَّ اسم الفعل لا يُضاف .

ثم قال أبو حيان : " إلاَّ أنَّ مذهب الزجاج خطأٌ ، لدخول العوامل على " حَسْب " نحو : بِحَسْبك درهم ، وقال تعالى : { فَإِنَّ حَسْبَكَ الله } ، ولم يثبت في موضع كونه اسم فعل ، فيحمل هذا عليه " .

وقال ابنُ عطية {[17480]}- بعدما حكى عن الشعبي ، وابن زيد ما تقدَّم عنهما من المعنى : ف " مَنْ " في هذا التأويل في محلِّ نصب ، عطفاً على موضع الكاف ؛ لأنَّ موضعها نصبٌ على المعنى ب : " يَكْفِيكَ " الذي سَدَّتْ " حسبك " مَسَدَّه .

قال أبو حيان{[17481]} " هذا ليس بجيد ؛ لأنَّ " حَسْبك " ليس ممَّا تكونُ الكافُ فيه في موضع نصب ، بل هذه إضافة صحيحة ليست من نصب ، و " حَسْبك " مبتدأ مضافٌ إلى الضمير وليس مصدراً ، ولا اسم فاعل ، إلاَّ إن قيل : إنَّه عطف على التوهم كأنه توهَّم أنه قيل : يكفيك الله ، أو كفاك الله ، لكن العطف على التوهُّم لا ينقاسُ " .

والذي ينبغي أن يحمل عليه كلامُ الشعبي وابن زيد أن تكون " مَنْ " مجرورة ب " حَسْب " محذوفة ، لدلالة " حَسْبك " عليها ؛ كقوله : [ المتقارب ]

أكُلَّ امرئ تَححسَبينَ امْرَأً *** ونارٍ توقَّدُ باللَّيْلِ نَارَا{[17482]}

أي : وكلَّ نار ، فلا يكُونُ من العطفِ على الضمير المجرور .

قال ابن عطيَّة :{[17483]} " وهذا الوجهُ من حذفِ المضاف مكروه بأنه ضرورةٌ " .

قال أبو حيان{[17484]} : " وليس بمكروهٍ ، ولا ضرورة بل أجازه سيبويه ، وخرَّج عليه البيت وغيره من الكلام " .

قال شهابُ الدين : " قوله : " بل هذه إضافةٌ صحيحة ، ليست من نصب " فيه نظر ؛ لأنَّ النَّحويين على أنَّ إضافة " حَسْب " وأخواتها إضافةٌ غيرُ محضة ، وعلَّلُوا ذلك بأنها في قوة اسم فاعل ناصبٍ لمفعولٍ به ، فإنَّ " حَسْبكَ " بمعنى : كافيك ، و " غيرك " بمعنى مُغايرك ، و " قيد الأوابد " بمعنى : مُقيدها .

قالوا : ويدلُّ على ذلك أنَّها تُوصفُ بها النَّكرات ، فيقال : مررت برجلٍ حسبك من رجلٍ " .

وجوَّز أبو البقاء{[17485]} : الرفع من ثلاثة أوجهٍ : أنَّهُ نسقٌ على الجلالةِ كما تقدَّم ، إلاَّ أنَّهُ قال : فيكون خبراً آخر ، كقولك : القائمان زيد وعمرو ، ولم يُثَنِّ " حَسْبك " ؛ لأنه مصدرٌ .

وقال قومٌ : هذا ضعيفٌ ؛ لأن الواو للجمع ، ولا يَحْسُن ههنا ، كما لا يَحْسُن في قولهم : " مَا شَاء اللَّهُ وشِئْتَ " ، و " ثم " هاهنا أولى . يعني أنَّهُ من طريق الأدب لا يُؤتَى بالواو التي تقتضي الجمع ، بل يأتي ب " ثم " التي تقتضي التراخي والحديثُ دالٌّ على ذلك .

الثاني : أن يكون خبر مبتدأ محذوف تقديره : وحسب من اتبعك .

الثالث : هو مبتدأ والخبر محذوف تقديره : ومن اتبعك كذلك ، أي : حسبهم الله .

وقرأ الشعبيُّ{[17486]} " ومَنْ " بسكون النون " أْتْبَعك " بزنة " أكْرَمَكَ " .


[17476]:ذكره الرازي في "تفسيره" (15/153) عن ابن عباس.
[17477]:ذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" (7/31) عن ابن عباس وعزاه للطبراني وقال: وفيه إسحق بن بشر الكاهلي وهو كذاب. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/362) وزاد نسبته إلى أبي الشيخ وذكره السيوطي (3/362) عن سعيد بن جبير وعزاه إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
[17478]:عجز بيت وصدره: إذا كانت الهيجاء وانشقت العصا ........................ ينظر: المغني 2/563 والفراء 1/417 وإعراب النحاس 2/195 شرح المفصل لابن يعيش 2/48 القرطبي 8/42 اللسان [حسب] [عصا] [هيج] الدر المصون 3/433.
[17479]:ينظر: البحر المحيط 4/511.
[17480]:ينظر: المحرر الوجيز 2/549.
[17481]:ينظر: البحر المحيط 4/511.
[17482]:تقدم.
[17483]:ينظر: المحرر الوجيز 2/549.
[17484]:ينظر: البحر المحيط 4/511.
[17485]:ينظر: الإملاء لأبي البقاء 2/10.
[17486]:ينظر: البحر المحيط 4/511، الدر المصون 3/435.