قوله تعالى : { يا أيها النبي حَسْبُكَ الله } الآية .
لمَّا وعده بالنَّصر عند مخادعة الأعداء ، وعده بالنَّصر والظفر في هذه الآية مطلقاً ، وعلى هذا التقرير لا يلزمِ منه التكرار ، وهذه الآية نزلت بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال ، والمرادُ بقوله { وَمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين } الأنصار .
وعن ابنِ عبَّاسٍ : " نزلت في إسلامِ عُمر " {[17476]} .
قال سعيدُ بن جبير : " أسلم مع النَّبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة وثلاثون رجلاً وست نسوة ، ثم أسلم عمر ، فنزلت هذه الآية " {[17477]} .
قال المفسِّرُون : فعلى هذا القول هذه الآية مكية ، [ كتبت في ] سورة مدنية بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قوله " ومن اتَّبعكَ " فيه أوجهٌ .
أحدها : أن يكون " مَنْ " مرفوع المحلِّ ، عطفاً على الجلالة ، أي : يكفيك الله والمؤمنون . وبهذا فسّره الحسن البصري وجماعة وهو الظاهر ولا محذور في ذلك حيث المعنى .
فإن قالوا : من كان الله ناصره امتنع أن يزداد حاله ، أو ينقص بسبب نصرة غير الله ، وأيضاً إسناد الحكم إلى المجموع يوهم أنَّ الواحدَ من ذلك المجموع لا يكفي في حصولِ ذلك المهم وتعالى الله عنه .
ويجابُ : بأنَّ الكُلَّ من اللَّهِ ، إلاَّ أنَّ من أنواع النُّصرة ما يحصل بناء على الأسباب المألوفةِ المعتادةِ ، ومنها ما يحصلُ لا بناءً على الأسباب المألوفة المعتادة ؛ فلهذا الفرق اعتبر نصر المؤمنين ، وإن كان بعضُ الناس استصعب كون المؤمنين يكونون كافين النبي صلى الله عليه وسلم وتأوَّل الآية على ما سنذكره .
الثاني : أنَّ " مَنْ " مجرورُ المحلِّ ، عطفاً على الكافِ في : " حَسْبُكَ " ، وهذا رأي الكوفيين وبهذا فسَّر الشعبي وابن زيد ، قالا : " معناه : وحسبُ من اتَّبعك " .
الثالث : أنَّ محلَّه نصبٌ على المعيَّة .
قال الزمخشري : " ومنِ اتَّبعكَ " الواو بمعنى " مع " وما بعدهُ منصوبٌ ، تقول : حَسْبُكَ وزَيْداً درهمٌ ، ولا تَجُرُّ ؛ لأنَّ عطف الظّاهر المجرور على المكنيّ ممتنعٌ ؛ وقال : [ الطويل ]
. . . *** فَحَسْبُكَ والضَّحَّاكَ سَيْفٌ مُهَنَّدُ {[17478]}
والمعنى : كَفَاك وكَفَى تُبَّاعكَ المؤمنين اللَّه ناصراً .
قال أبو حيَّان{[17479]} : " وهذا مخالفٌ لكلام سيبويه ؛ فإنَّه قال " حَسْبُك وزَيْداً درهم " لمَّا كان فيه معنى : كفاك ، وقبُحَ أن يحملوه على الضمير دون الفعل ، كأنَّهُ قال : حسبك وبحسبِ أخاك " ثم قال : " وفي ذلك الفعل المضمر ضميرٌ يعودُ على الدرهم والنيةُ بالدرهم التقديمُ ، فيكون من عطف الجمل ، ولا يجوزُ أن يكون من باب الإعمال ، لأنَّ طلبَ المبتدأ للخبر وعمله فيه ليس من قبيل طلب الفعل ، أو ما جرى مجراه ، ولا عمله فلا يُتوهَّم ذلك فيه " .
وقد سبق الزمخشريَّ إلى كونه مفعولاً معه الزجاج ، إلاَّ أنه جعل " حسب " اسم فعلٍ ، فإنه قال : " حَسْبُ " اسمُ فعل ، والكافُ نصبٌ ، والواو بمعنى " مع " .
وعلى هذا يكون " اللَّهُ " فاعلاً ، وعلى هذا التقدير يجوز في " ومَنْ " أن يكون معطوفاً على الكاف ، لأنَّها مفعول باسم الفعل ، لا مجرورٌ ، لأنَّ اسم الفعل لا يُضاف .
ثم قال أبو حيان : " إلاَّ أنَّ مذهب الزجاج خطأٌ ، لدخول العوامل على " حَسْب " نحو : بِحَسْبك درهم ، وقال تعالى : { فَإِنَّ حَسْبَكَ الله } ، ولم يثبت في موضع كونه اسم فعل ، فيحمل هذا عليه " .
وقال ابنُ عطية {[17480]}- بعدما حكى عن الشعبي ، وابن زيد ما تقدَّم عنهما من المعنى : ف " مَنْ " في هذا التأويل في محلِّ نصب ، عطفاً على موضع الكاف ؛ لأنَّ موضعها نصبٌ على المعنى ب : " يَكْفِيكَ " الذي سَدَّتْ " حسبك " مَسَدَّه .
قال أبو حيان{[17481]} " هذا ليس بجيد ؛ لأنَّ " حَسْبك " ليس ممَّا تكونُ الكافُ فيه في موضع نصب ، بل هذه إضافة صحيحة ليست من نصب ، و " حَسْبك " مبتدأ مضافٌ إلى الضمير وليس مصدراً ، ولا اسم فاعل ، إلاَّ إن قيل : إنَّه عطف على التوهم كأنه توهَّم أنه قيل : يكفيك الله ، أو كفاك الله ، لكن العطف على التوهُّم لا ينقاسُ " .
والذي ينبغي أن يحمل عليه كلامُ الشعبي وابن زيد أن تكون " مَنْ " مجرورة ب " حَسْب " محذوفة ، لدلالة " حَسْبك " عليها ؛ كقوله : [ المتقارب ]
أكُلَّ امرئ تَححسَبينَ امْرَأً *** ونارٍ توقَّدُ باللَّيْلِ نَارَا{[17482]}
أي : وكلَّ نار ، فلا يكُونُ من العطفِ على الضمير المجرور .
قال ابن عطيَّة :{[17483]} " وهذا الوجهُ من حذفِ المضاف مكروه بأنه ضرورةٌ " .
قال أبو حيان{[17484]} : " وليس بمكروهٍ ، ولا ضرورة بل أجازه سيبويه ، وخرَّج عليه البيت وغيره من الكلام " .
قال شهابُ الدين : " قوله : " بل هذه إضافةٌ صحيحة ، ليست من نصب " فيه نظر ؛ لأنَّ النَّحويين على أنَّ إضافة " حَسْب " وأخواتها إضافةٌ غيرُ محضة ، وعلَّلُوا ذلك بأنها في قوة اسم فاعل ناصبٍ لمفعولٍ به ، فإنَّ " حَسْبكَ " بمعنى : كافيك ، و " غيرك " بمعنى مُغايرك ، و " قيد الأوابد " بمعنى : مُقيدها .
قالوا : ويدلُّ على ذلك أنَّها تُوصفُ بها النَّكرات ، فيقال : مررت برجلٍ حسبك من رجلٍ " .
وجوَّز أبو البقاء{[17485]} : الرفع من ثلاثة أوجهٍ : أنَّهُ نسقٌ على الجلالةِ كما تقدَّم ، إلاَّ أنَّهُ قال : فيكون خبراً آخر ، كقولك : القائمان زيد وعمرو ، ولم يُثَنِّ " حَسْبك " ؛ لأنه مصدرٌ .
وقال قومٌ : هذا ضعيفٌ ؛ لأن الواو للجمع ، ولا يَحْسُن ههنا ، كما لا يَحْسُن في قولهم : " مَا شَاء اللَّهُ وشِئْتَ " ، و " ثم " هاهنا أولى . يعني أنَّهُ من طريق الأدب لا يُؤتَى بالواو التي تقتضي الجمع ، بل يأتي ب " ثم " التي تقتضي التراخي والحديثُ دالٌّ على ذلك .
الثاني : أن يكون خبر مبتدأ محذوف تقديره : وحسب من اتبعك .
الثالث : هو مبتدأ والخبر محذوف تقديره : ومن اتبعك كذلك ، أي : حسبهم الله .
وقرأ الشعبيُّ{[17486]} " ومَنْ " بسكون النون " أْتْبَعك " بزنة " أكْرَمَكَ " .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.