الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ حَسۡبُكَ ٱللَّهُ وَمَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (64)

قوله تعالى : { وَمَنِ اتَّبَعَكَ } : فيه أوجهٌ ، أحدها : أن يكون " مَنْ " مرفوعَ المحلِّ عطفاً على الجلالة ، أي : يكفيك الله والمؤمنون ، وبهذا فسَّر الحسن البصري وجماعة ، وهو الظاهر ، ولا مَحْذورَ في ذلك من حيث المعنى ، وإن كان بعضُ الناسِ استَصْعَبَ كونَ المؤمنين يكونون كافِين النبي صلى الله عليه وسلم وتأوَّل الآيةَ على ما سنذكره .

الثاني : أن " مَنْ " مجرورةُ المحلِّ عطفاً على الكاف في " حَسْبُك " وهو رأيُ الكوفيين ، وبهذا فسَّر الشعبي وابن زيد ، قالا : معناه : وحسبُ مَن اتَّبعك . الثالث : أن محلَّه نصبٌ على المعيَّة . قال الزمخشري : " ومَن اتبعك " : الواو بمعنى مع ، وما بعده منصوبٌ . تقول : " حَسْبُك وزيداً درهمٌ " ولا تَجُرُّ ؛ لأن عطفَ الظاهرِ المجرورِ على المُكْنى ممتنعٌ . وقال :

2442 . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** فَحَسْبَكَ والضحاكَ سيفٌ مُهَنَّدُ

والمعنى : كفاك وكفى تُبَّاعَك المؤمنين [ اللهُ ] ناصراً " ، وقال الشيخ : " وهذا مخالف كلامَ سيبويه فإنه قال : " حَسْبُك وزيداً درهمٌ " لَمَّا كان فيه معنى كفاك ، وقَبُح أن يَحْملوه على المضمر نَوَوا الفعل كأنه قال : بحسبك ويُحْسِب أخاك [ درهمٌ ] " ، ثم قال : " وفي ذلك الفعل المضمرِ ضميرٌ يعودُ على الدرهمِ ، و النيةُ بالدرهم التقديمُ ، فيكون مِنْ عطفِ الجمل . ولا يجوزُ أن يكونَ من باب الإِعمال ، لأنَّ طلبَ المبتدأ للخبر وعملَه فيه ليس من قبيل طلب الفعل أو ما جرى مَجْراه ولا عمله فلا يُتَوَّهم ذلك فيه " . قلت : وقد سبق الزمخشري إلى كونه مفعولاً معه الزجاج ، إلا أنه جَعَل " حسب " اسمَ فعلٍ فإنه قال : " حسبُ : اسمُ فعلٍ ، والكافُ نصبٌ ، والواو بمعنى مع " وعلى هذا يكون " اللهُ " فاعلاً ، وعلى هذا التقدير يجوز في " ومَنْ " أن يكونَ معطوفاً على الكاف ؛ لأنها مفعول باسم الفعل لا مجرورةٌ ؛ لأن اسم الفعل لا يُضاف . ثم قال الشيخ : " إلا أن مذهب الزجاج خطأٌ لدخولِ العواملِ على " حَسْب " نحو : بحَسْبك درهم " ، وقال تعالى : { فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ } [ الأنفال : 62 ] ، ولم يَثْبُتْ في موضعٍ كونُه اسمَ فعلٍ فيُحْمل هذا عليه " .

وقال ابن عطية بعدما حكى عن الشعبي وابن زيد ما قَدَّمْتُ عنهما من المعنى : " ف " مَنْ " في هذا التأويل في محلِّ نصب عطفاً على موضع الكاف ؛ لأن موضعَها نصبٌ على المعنى ب " يكفيك " الذي سَدَّتْ " حَسبك " مَسَدَّه " . قال الشيخ : " هذا ليس بجيد ؛ لأن " حَسْبك " ليس ممَّا تكونُ الكافُ فيه في موضع نصب بل هذه إضافة صحيحة ليست مِنْ نصب ، و " حسبك " مبتدأ مضافٌ إلى الضمير ، وليس مصدراً ولا اسم فاعل ، إلا إنْ قيل إنه عطف على التوهم ، كأنه تَوَهَّم أنه قيل : يكفيك الله أو كفاك الله ، لكن العطفَ على التوهُّم لا ينقاسُ ، والذي ينبغي أن يُحمل عليه كلامُ الشعبي وابنِ زيد أن تكون " مَنْ " مجرورةً ب " حَسْب " محذوفةً لدلالة " حَسْبك " عليها كقوله :

أكلَّ امرئ تحسبين أمرأً *** ونارٍ توقَّدُ بالليل ناراً

أي : وكلَّ نارٍ ، فلا يكونُ من العطف على الضمير المجرور " . قال ابن عطية : " وهذا الوجهُ مِنْ حَذْفِ المضاف مكروهٌ ، بابُه ضرورةُ الشعر " . قال الشيخ : " وليس بمكروهٍ ولا ضرورة ، بل أجازه سيبويه وخَرَّج عليه البيتَ وغيرَه من الكلام " ، قلت : قوله : " بل إضافةٌ صحيحة ليست من نصب " فيه نظر لأن النحويين على أنَّ إضافةَ " حسب " وأخواتِها إضافةٌ غيرُ محضة ، وعَلَّلوا ذلك بأنها في قوةِ اسمِ فاعلٍ ناصبٍ لمفعولٍ به ، فإن " حَسْبك " بمعنى كافيك وغيرك بمعنى مُغايرك ، وقيد الأوابد بمعنى مقيِّدها قالوا : ويدل على ذلك أنها تُوصف بها النكرات فقال : " مررت برجلٍ حَسْبِك من رجلٍ " .

وجَوَّز أبو البقاء فيه الرفعَ من ثلاثة أوجه أحدها : أنه نسقٌ على الجلالةِ كما تقدَّم ، إلا أنه قال : فيكون خبراً آخر كقولِك : " القائمان/ زيد وعمرو ، ولم يُثَنِّ " حَسْبك " لأنه مصدرٌ . وقال قوم : هذا ضعيفٌ ؛ لأن الواوَ للجمع ولا يَحْسُن ههنا ، كما لا يَحْسُن في قولهم : " ما شاء الله وشئت " . و " ثم " هنا أولى " ، قلت : يعني أنه من طريق الأدب لا يؤتى بالواو التي تقتضي الجمع ، بل تأتي ب " ثم " التي تقتضي التراخي ، والحديثُ دالٌّ على ذلك . الثاني : أن يكونَ خبرَ مبتدأ محذوف تقديرُه : وحسب مَنْ اتبعك . والثالث : هو مبتدأ والخبر محذوف تقديره : ومَن اتبعك كذلك أي : حسبهم الله .

وقرأ الشعبي " ومَنْ " بسكون النون " " أَتْبَعَك " بزنة أَكْرمك .