{ ولا يزال الذين كفروا في مرية منه } أي : في شك مما ألقى الشيطان على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون : ما باله ذكرها بخير ثم ارتد عنها . وقال ابن جريج : منه . أي من القرآن . وقيل : من الدين ، وهو الصراط المستقيم . { حتى تأتيهم الساعة بغتةً } يعني : القيامة . وقيل : الموت { أو يأتيهم عذاب يوم عقيم } قال الضحاك و عكرمة ( عذاب يوم ) لا ليلة له ، وهو يوم القيامة . والأكثرون على أن اليوم العقيم يوم بدر ، لأنه ذكر الساعة من قبل وهو يوم القيامة . وسمي يوم بدر عقيماً لأنه لم يكن في ذلك اليوم للكفار خير ، كالريح العقيم التي لا تأتي بخير ، سحاب ولا مطر ، والعقم في اللغة : المنع ، يقال : رجل عقيم إذا منع من الولد . وقيل لأنه لا مثل له في عظم أمره لقتال الملائكة فيه . وقال ابن جريج : لأنهم لم ينظروا فيه إلى الليل حتى قتلوا قبل المساء .
{ 55 - 57 } { وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ * الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ }
يخبر تعالى عن حالة الكفار ، وأنهم لا يزالون في شك مما جئتهم به يا محمد ، لعنادهم ، وإعراضهم ، وأنهم{[543]} لا يبرحون مستمرين على هذه الحال { حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً } أي : مفاجأة { أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ } أي : لا خير فيه ، وهو يوم القيامة ، فإذا جاءتهم الساعة ، أو أتاهم ذلك اليوم ، علم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين ، وندموا حيث لا ينفعهم الندم ، وأبلسوا وأيسوا من كل خير ، وودوا لو آمنوا بالرسول واتخذوا معه سبيلا ، ففي هذا تحذيرهم من إقامتهم على مريتهم وفريتهم .
ثم بين - سبحانه - أن الكافرين سيستمرون على شكهم فى القرآن حتى تأتيهم الساعة ، وأنه - تعالى - سيحكم بين الناس يوم القيامة ، فيجازى الذين أساءوا بما عملوا . ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى . فقال - عز وجل - : { وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ . . . } .
قال الجمل : " لما ذكر - سبحانه - حال الكافرين أولا ، ثم حال المؤمنين ثانيا ، عاد إلى شرح حال الكافرين ، فهو رجوع لقوله : { وَإِنَّ الظالمين لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } والمرية بالكسر والضم . لغتان مشهورتان .
والضمير فى قوله : { مِّنْهُ } يعود إلى القرآن الكريم ، أو إلى ما جاء به الرسول من عند ربه ، وقيل إلى ما ألقاه الشيطان .
وقد رجح ابن جرير كونه للقرآن فقال : وأولى الأقوال فى ذلك بالصواب قول من قال : هى كناية من ذكر القرآن الذى أحكم الله آياته وذلك أن ذلك من ذكر قوله : { وَلِيَعْلَمَ الذين أُوتُواْ العلم . . } أقر منه من ذكر قوله { فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِي الشيطان . . } والمعنى ولا يزال الذين كفروا فى شك وريب مما أوحاه الله إليك من قرآن ، بسبب قسوة قلوبهم ، واستيلاء الجحود والعناد على نفوسهم .
وسيستمرون على هذه الحال { حتى تَأْتِيَهُمُ الساعة } أى : القيامة { بَغْتَةً } أى : فجأة { أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ } أى : لا مثل له فى هوله وشدة عذابه ولا يوم بعده ، إذ كل يوم يلد ما بعده عن الأيام إلا هذا اليوم وهو يوم القيامة فإنه لا يوم بعده .
قال ابن كثير : " وقوله : { أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ } قال مجاهد : قال أبى بن كعب : هو يوم بدر .
وكذا قال عكرمة وسعيد بن جبير وقتادة وغير واحد واختاره ابن جرير .
وفى رواية عن عكرمة ومجاهد هو يوم القيامة لا ليلة له ، وكذا قال الضحاك والحسن .
وهذا القول هو الصحيح ، وإن كان يوم بدر من جملة ما أوعدوا به ، لكن هذا هو المراد ، ولهذا قال : { الملك يَوْمَئِذٍ للَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ } كقوله : { مالك يَوْمِ الدين }
لمّا حكى عن الذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم أن ما يلقيه لهم الشيطان من إبطال ما جاءت به الرّسل يكون عليهم فتنة . خصّ في هذه الآية الكافرين بالقرآن بعد أن عمّهم مع جملة الكافرين بالرسل ، فخصّهم بأنهم يستمر شكّهم فيما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ويترددون في الإقدام على الإسلام إلى أن يُحال بينهم وبينه بحلول الساعة بغتة أو بحلول عذاب بهم قبل الساعة ، فالذين كفروا هنا هم مشركو العرب بقرينة المضارع في فعل { لا يزال } وفعل { حتى تأتيهم } الدّالين على استمرار ذلك في المستقبل .
ولأجل ذلك قال جمع من المفسرين : إن ضمير { في مرية منه } عائد إلى القرآن المفهوم من المقام ، والأظهر أنه عائد إلى ما عاد عليه ضمير { أنه الحق من ربك فيؤمنوا به } [ الحج : 54 ] .
و { الساعة } علَم بالغلبة على يوم القيامة في اصطلاح القرآن ، واليوم : يوم الحرب ، وقد شاع إطلاق اسم اليوم على وقت الحرب . ومنه دُعيت حروب العرب المشهورة « أيام العرب » .
والعقيم : المرأة التي لا تلد ؛ استعير العقيم للمشؤوم لأنهم يُعدّون المرأة التي لا تلد مشؤومة .
فالمعنى : يأتيهم يوم يُستأصلون فيه قتلاً : وهذا إنذار بيوم بدر .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولا يزال الذين كفروا} من أهل مكة... {في مرية منه} يعني: في شك من القرآن {حتى تأتيهم الساعة بغتة} يعني: فجأة {أو يأتيهم عذاب يوم عقيم}، يعني: بلا رأفة ولا رحمة؛ القتل يوم بدر...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ولا يزال الذين كفروا بالله في شكّ...
الهاء التي في قوله:"منه"...هي كناية من ذكر القرآن الذي أحكم الله آياته...
وقوله: "حتى تَأْتيَهُمُ السّاعَةُ "يقول: لا يزال هؤلاء الكفار في شك من أمر هذا القرآن إلى أن تأتيهم الساعة بَغْتَةً، وهي ساعة حشر الناس لموقف الحساب، "بغتة"، يقول: فجأة. "أوْ يَأْتيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ".
واختلف أهل التأويد في هذا اليوم أيّ يوم هو؟
وقال آخرون: بل عني به يوم بدر. وقالوا: إنما قيل له يوم عقيم، أنهم لم ينظروا إلى الليل، فكان لهم عقيما...
وهذا القول الثاني أولى بتأويل الآية لأنه لا وجه لأن يقال: لا يزالون في مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة، أو تأتيهم الساعة، وذلك أن الساعة هي يوم القيامة، فإن كان اليوم العقيم أيضا هو يوم القيامة فإنما معناه ما قلنا من تكرير ذكر الساعة مرّتين باختلاف الألفاظ، وذلك ما لا معنى له. فإذ كان ذلك كذلك، فأولى التأويلين به أصحهما معنى وأشبههما بالمعروف في الخطاب، وهو ما ذكرناه في معناه.
فتأويل الكلام إذن: ولا يزال الذين كفروا في مرية منه، حتى تأتيهم الساعة بغتة فيصيروا إلى العذاب الدائم، أو يأتيهم عذاب يوم عقيم له فلا ينظروا فيه إلى الليل ولا يؤخروا فيه إلى المساء، لكنهم يقتلون قبل المساء.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{عذاب يوم عقيم}... وجائز أنه سماه عقيما لأنه لا ترجى النجاة منه ولا الخير.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
... "أو يأتيهم عذاب يوم عقيم"... هو عذاب يوم بدر. وقيل معنى "عقيم "أي لا مثل له في عظم أمره...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
الضمير في {مِرْيَةٍ مّنْهُ} للقرآن أو الرسول صلى الله عليه وسلم. اليوم العقيم: يوم بدر، وإنما وصف يوم الحرب بالعقيم لأنّ أولاد النساء يقتلون فيه، فيصرن كأنهن عقم لم يلدن، أو لأن المقاتلين يقال لهم أبناء الحرب، فإذا قتلوا وصف يوم الحرب بالعقيم على سبيل المجاز. وقيل: هو الذي لا خير فيه، يقال: ريح عقيم إذا لم تنشيء مطراً ولم تلقح شجراً. وقيل: لا مثل له في عظم أمره لقتال الملائكة عليهم السلام فيه. وعن الضحاك أنه يوم القيامة، وأن المراد بالساعة مقدّماته، ويجوز أن يراد بالساعة وبيوم عقيم: يوم القيامة، كأنه قيل: حتى تأتيهم الساعة أو يأتيهم عذابها، فوضع {يَوْمٍ عَقِيمٍ} موضع الضمير.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
وقال قتادة: {بَغْتَةً}، بغت [القوم] أمر الله، وما أخذ الله قومًا قط إلا عند سكرتهم وغرتهم ونعمتهم، فلا تغتروا بالله، إنه لا يغتر بالله إلا القوم الفاسقون...
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
وتقدم فيما نقلنا وجه آخر وهو أن المعنى: لا يزال الذي كفروا في ريب من الحق أو الكتاب، لا تستقر عقولهم عليه حتى تأتي ساعة هلاكهم بغتة، فيلاقون حسابهم عند ربهم. أو إن امتد بهم الزمن، ومادهم الأجل، فسيصيبهم عذاب يوم عقيم، يوم حرب يسامون فيه سوء عذاب القتل أو الأسر. فلا ينتج لهم من ذلك اليوم خير ولا بركة، بل يسلبون ما كان لديهم، ويساقون إلى مصارع الهلكة، وهذا هو العقم في أتم معانيه وأشأم درجاته...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويعقب السياق على تلك الآيات وما فيها من صيانة لدعوة الله من كيد الشيطان بأن الذين يكفرون بها مدحورون ينتظرهم العذاب المهين:... ذلك شأن الذين كفروا مع القرآن كله، يذكره السياق بعد بيان موقفهم مما يلقي الشيطان في أمنيات الأنبياء والرسل، لما بين الشأنين من تشابه واتصال. فهم لا يزالون في ريبة من القرآن وشك. منشأ هذه الريبة أن قلوبهم لم تخالطها بشاشته فتدرك ما فيه من حقيقة وصدق. ويظل هذا حالهم (حتى تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم) بعد قيام الساعة. ووصف هذا اليوم بالعقيم وصف يلقي ظلا خاصا. فهو يوم لا يعقب.. إنه اليوم الأخير...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
لمّا حكى عن الذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم أن ما يلقيه لهم الشيطان من إبطال ما جاءت به الرّسل يكون عليهم فتنة. خصّ في هذه الآية الكافرين بالقرآن بعد أن عمّهم مع جملة الكافرين بالرسل، فخصّهم بأنهم يستمر شكّهم فيما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ويترددون في الإقدام على الإسلام إلى أن يُحال بينهم وبينه بحلول الساعة بغتة أو بحلول عذاب بهم قبل الساعة،...
أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن للشنقيطي 1393 هـ :
القرينة القرآنية هنا دلت على أن المراد باليوم العقيم: يوم القيامة، لا يوم بدر، وذلك أنه تعالى أتبع ذكر اليوم العقيم، بقوله {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ للَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ}. وذلك يوم القيامة وقوله: يومئذ: أي يوم إذ تأتيهم الساعة، أو يأتيهم عذاب عقيم، وكل ذلك يوم القيامة. فظهر أن اليوم العقيم: يوم القيامة، وإن كان يوم بدر عقيماً على الكفار، لأنهم لا خير لهم فيه، وقد أصابهم ما أصابهم.
فالمسلم حريص على أن يحمل منهج رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وحريص على أن يسود هذا المنهج حركة الحياة، لكن لن يدعه الشيطان يحقق هذه الأمنية، كما لم يدع رسوله (صلى الله عليه وسلم) من قبل، فكيده وإلقاؤه لم ينته بموت الرسول، وإنما هو باق، وإلى أن تقوم الساعة لذلك يقول تعالى في الآية بعدها:"ولا يزال الذين كفروا في مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم"... والحق- سبحانه وتعالى- حينما حملنا هذه الرسالة قال: ما دمتم امتدادا لرسالة الرسول، فلا بد أن تتعرضوا لما تعرض له الرسول من استهزاء وإيذاء وإلقاء في أمنياتكم، فإن صمدتم فإن الله تعالى ينسخ ما يلقي الشيطان، وينصر في النهاية أولياءه، وسيظل الإسلام إلى أن تقوم الساعة، وسيظل هناك أناس يعادون الدين ويشككون فيه، وسيظل الملحدون الذين يشككون الناس في وجود الله يخرجون علينا من حين إلى آخر بما يتناقض ودين الله كقولهم: إن هذا الكون خلق بالطبيعة، وترى وتسمع هذا الكلام في كتاباتهم ومقالاتهم...
كما يلقي الشيطان في مسألة الرسول، فنجد منهم من يهاجم شخصية رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وكيف وهو الأمي البدوي يقود أمة ويتهمونه ويخوضون في حقه، وفي مسألة تعدد زوجاته (صلى الله عليه وسلم).. الخ مما يمثل عقبة في سبيل الإيمان به...
ونعجب لهجوم هؤلاء على رسول الله طالما هم كافرون به، إن هذا الهجوم يحمل في طياته إيمانا بأنه رسول الله، وإلا لما استكثروا عليه ولما انتقدوه، فلو كان شخصا عاديا ما تعرض لهذه الانتقادات...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
أي في شك من الحق الذي يمثله القرآن المنزل من الله على رسله، ولكن هذا الشك الذي يبعدهم عن الإيمان ليس مرتكزاً على أساس فكريٍّ يشكل علامات استفهام متعددة تبحث عن جواب حول الكثير من قضايا التوحيد والرسالة والرسول، بل يرتكز على أجواء اللامبالاة التي يواجهون بها المسائل، وعلى رغبة التمرّد على خط الالتزام في الحياة،... ولهذا، فإن هذا الشك السطحيّ الغارق في السلبية لا ينتهي إلى إيمان، كما هي حال الشك المنهجي الذي يبحث دائماً عن الحقيقة من خلال ملاحقة الأفكار الإيمانية ومناقشتها طلباً لتكوين قناعات قاعدتها البحث والتأمل، ولذا فإن هذا الشك قد يصل في نهاية المطاف إلى الإيمان من أقرب طريق.. أمّا الكافرون، فيستمرون على كفرهم رغبةً في البقاء على عقيدة الآباء حتى تأتيهم الساعة الموعودة وهي يوم القيامة، {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} يواجهون فيه نتائج كفرهم وتمردهم، وهو يوم لا يليه آخر يمكن أن يأملوا فيه الخروج من قساوة العذاب وضغطه، لأن ما بعده هو الهلاك، وهذا هو معنى عقم اليوم.. وهكذا يواجهون الموقف الصعب حيث تتكشَّف الأشياء، فيقرّون بالحقائق الإيمانية ولكن بعد فوات الأوان...