المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{۞إِنَّ رَبَّكَ يَعۡلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدۡنَىٰ مِن ثُلُثَيِ ٱلَّيۡلِ وَنِصۡفَهُۥ وَثُلُثَهُۥ وَطَآئِفَةٞ مِّنَ ٱلَّذِينَ مَعَكَۚ وَٱللَّهُ يُقَدِّرُ ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّهَارَۚ عَلِمَ أَن لَّن تُحۡصُوهُ فَتَابَ عَلَيۡكُمۡۖ فَٱقۡرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلۡقُرۡءَانِۚ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرۡضَىٰ وَءَاخَرُونَ يَضۡرِبُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ يَبۡتَغُونَ مِن فَضۡلِ ٱللَّهِ وَءَاخَرُونَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۖ فَٱقۡرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنۡهُۚ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَقۡرِضُواْ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنٗاۚ وَمَا تُقَدِّمُواْ لِأَنفُسِكُم مِّنۡ خَيۡرٖ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ هُوَ خَيۡرٗا وَأَعۡظَمَ أَجۡرٗاۚ وَٱسۡتَغۡفِرُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمُۢ} (20)

20- إن ربك يعلم أنك تقوم - يا محمد - أقل من ثلثي الليل أحياناً ، وتقوم نصفه وثلثه أحياناً أخرى ، ويقوم طائفة من أصحابك كما تقوم ، ولا يقدر على تقدير الليل والنهار وضبط ساعاتهما إلا الله . علم أنه لا يمكنكم إحصاء كل جزء من أجزاء الليل والنهار . فخفف عليكم ، فاقرءوا في الصلاة ما تيسر من القرآن . علم أنه سيكون منكم مرضى يشق عليهم قيام الليل ، وآخرون يتنقلون في الأرض للتجارة والعمل يطلبون رزق الله ، وآخرون يجاهدون في سبيل الله لإعلاء كلمته ، فاقرءوا ما تيسر من القرآن وواظبوا على فرائض الصلاة ، وأعطوا الزكاة الواجبة عليكم ، وأقرضوا الله قرضاً حسناً بإعطاء الفقراء نافلة فوق ما وجب لهم ، وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوا ثوابه عند الله هو خيراً مما خلفتم وتركتم ، وأجزل ثواباً ، واستغفروا الله من فعل السيئات والتقصير في الحسنات . إن الله غفور لذنوب المؤمنين ، رحيم بهم .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{۞إِنَّ رَبَّكَ يَعۡلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدۡنَىٰ مِن ثُلُثَيِ ٱلَّيۡلِ وَنِصۡفَهُۥ وَثُلُثَهُۥ وَطَآئِفَةٞ مِّنَ ٱلَّذِينَ مَعَكَۚ وَٱللَّهُ يُقَدِّرُ ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّهَارَۚ عَلِمَ أَن لَّن تُحۡصُوهُ فَتَابَ عَلَيۡكُمۡۖ فَٱقۡرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلۡقُرۡءَانِۚ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرۡضَىٰ وَءَاخَرُونَ يَضۡرِبُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ يَبۡتَغُونَ مِن فَضۡلِ ٱللَّهِ وَءَاخَرُونَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۖ فَٱقۡرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنۡهُۚ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَقۡرِضُواْ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنٗاۚ وَمَا تُقَدِّمُواْ لِأَنفُسِكُم مِّنۡ خَيۡرٖ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ هُوَ خَيۡرٗا وَأَعۡظَمَ أَجۡرٗاۚ وَٱسۡتَغۡفِرُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمُۢ} (20)

{ إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى } أقل من ، { ثلثي الليل ونصفه وثلثه } قرأ أهل مكة والكوفة : { نصفه وثلثه } بنصب " الفاء " و " الثاء " وإشباع الهاءين ضماً ، أي : وتقوم نصفه وثلثه وقرأ الآخرون بجر الفاء والثاء وإشباع الهاءين كسراً ، عطفاً على ثلثي ، { وطائفة من الذين معك } يعني المؤمنين وكانوا يقومون معه ، { والله يقدر الليل والنهار } قال عطاء : يريد لا يفوته علم ما تفعلون ، إي أنه يعلم مقادير الليل والنهار فيعلم القدر الذي تقومون من الليل ، { علم أن لن تحصوه } قال الحسن : قاموا حتى انتفخت أقدامهم ، فنزل : { علم أن لن تحصوه } لن تطيقوه . وقال مقاتل : كان الرجل يصلي الليل كله ، مخافة أن لا يصيب ما أمر به من القيام ، فقال : { علم أن لن تحصوه } لن تطيقوا معرفة ذلك . { فتاب عليكم } فعاد عليكم بالعفو والتخفيف ، { فاقرؤوا ما تيسر من القرآن } يعني في الصلاة ، قال الحسن : يعني في صلاة المغرب والعشاء . قال قيس بن حازم : صليت خلف ابن عباس بالبصرة فقرأ في أول ركعة بالحمد وأول آية من البقرة ، ثم قام في الثانية فقرأ بالحمد والآية الثانية من البقرة ، ثم ركع ، فلما انصرف أقبل علينا بوجهه فقال : إن الله عز وجل يقول : فاقرؤوا ما تيسر منه .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أبو منصور السمعاني ، حدثنا أبو جعفر الرياني ، حدثنا حميد بن زنجويه ، حدثنا عثمان بن صالح ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثني حميد بن مخراق ، عن أنس بن مالك " أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من قرأ خمسين آية في يوم أو في ليلة لم يكتب من الغافلين ، ومن قرأ مائة آية كتب من القانتين ، ومن قرأ مائتي آية لم يحاججه القرآن يوم القيامة ، ومن قرأ خمسمائة آية كتب له قنطار من الأجر " .

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أنبأنا عبد الغافر بن محمد ، أنبأنا محمد بن عيسى ، حدثنا إبراهيم بن محمد ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثني القاسم بن زكريا بن عبيد الله بن موسى ، عن شيبان ، عن يحيى ، عن محمد عبد الرحمن مولى ابن زهرة ، عن أبي سلمة عن عبد الله بن عمرو قال : " قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اقرأ القرآن في كل شهر ، قال قلت : إني أجد قوة ، قال : فاقرأه في كل عشرين ليلة ، قال قلت : إني أجد قوة ، قال : فاقرأه في كل سبع ولا تزد على ذلك " . قوله عز وجل : { علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله } يعني المسافرين للتجارة يطلبون من رزق الله ، { وآخرون يقاتلون في سبيل الله } لا يطيقون قيام الليل . روى إبراهيم عن ابن مسعود قال : أيما رجل جلب شيئا ماً إلى المدينة من مدائن المسلمين صابراً محتسباً فباعه بسعر يومه كان عند الله بمنزلة الشهداء ، ثم قرأ عبد الله : { وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرؤوا ما تيسر منه } أي ما تيسر عليكم من القرآن . قال أهل التفسير كان هذا في صدر الإسلام ثم نسخ بالصلوات الخمس ، وذلك قوله : { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضاً حسناً } قال ابن عباس : يريد ما سوى الزكاة من صلة الرحم ، وقرى الضيف . { وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيراً } تجدوا ثوابه في الآخرة أفضل مما أعطيتم ، { وأعظم أجراً } من الذي أخرتم ، ولم تقدموه ، ونصب خير وأعظم على المفعول الثاني ، فإن الوجود إذا كان بمعنى الرؤية يتعدى إلى مفعولين ، وهو فصل في قول البصريين ، وعماد في قول الكوفيين ، لا محل له في الإعراب .

أخبرنا أبو القاسم يحيى بن علي الكشمهيني ، أنبأنا أبو نصر أحمد بن علي البخاري بالكوفة ، أنبأنا أبو القاسم نصر بن أحمد الفقيه بالموصل ، حدثنا أبو يعلى الموصلي ، حدثنا أبو خيثمة ، حدثنا جرير ، عن الأعمش ، عن إبراهيم التيمي ، عن الحارث بن سويد قال : قال عبد الله : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أيكم ماله أحب إليه من مال وارثه ؟ قالوا : يا رسول الله ما منا من أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثه . قال : اعلموا ما تقولون قالوا ما نعلم إلا ذلك يا رسول الله ، قال : ما منكم رجل إلا مال وارثه أحب إليه من ماله ، قالوا : كيف يا رسول الله ؟ قال : إنما مال أحدكم ما قدم ومال وارثه ما أخر " . { واستغفروا الله } لذنوبكم ، { إن الله غفور رحيم } .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{۞إِنَّ رَبَّكَ يَعۡلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدۡنَىٰ مِن ثُلُثَيِ ٱلَّيۡلِ وَنِصۡفَهُۥ وَثُلُثَهُۥ وَطَآئِفَةٞ مِّنَ ٱلَّذِينَ مَعَكَۚ وَٱللَّهُ يُقَدِّرُ ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّهَارَۚ عَلِمَ أَن لَّن تُحۡصُوهُ فَتَابَ عَلَيۡكُمۡۖ فَٱقۡرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلۡقُرۡءَانِۚ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرۡضَىٰ وَءَاخَرُونَ يَضۡرِبُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ يَبۡتَغُونَ مِن فَضۡلِ ٱللَّهِ وَءَاخَرُونَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۖ فَٱقۡرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنۡهُۚ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَقۡرِضُواْ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنٗاۚ وَمَا تُقَدِّمُواْ لِأَنفُسِكُم مِّنۡ خَيۡرٖ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ هُوَ خَيۡرٗا وَأَعۡظَمَ أَجۡرٗاۚ وَٱسۡتَغۡفِرُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمُۢ} (20)

{ 20 } { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }

ذكر الله في أول هذه السورة أنه أمر رسوله بقيام نصف الليل أو ثلثه أو ثلثيه ، والأصل أن أمته أسوة له في الأحكام ، وذكر في هذا الموضع ، أنه امتثل ذلك هو وطائفة معه من المؤمنين .

ولما كان تحرير الوقت المأمور به مشقة على الناس ، أخبر أنه سهل عليهم في ذلك غاية التسهيل فقال : { وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ } أي : يعلم مقاديرهما وما يمضي منهما ويبقى .

{ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ } أي : [ لن ] تعرفوا مقداره من غير زيادة ولا نقص ، لكون ذلك يستدعي انتباها وعناء زائدا أي : فخفف عنكم ، وأمركم بما تيسر عليكم ، سواء زاد على المقدر أو نقص ، { فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ } أي : مما تعرفون ومما لا يشق عليكم ، ولهذا كان المصلي بالليل مأمورا بالصلاة ما دام نشيطا ، فإذا فتر أو كسل أو نعس ، فليسترح ، ليأتي الصلاة بطمأنينة وراحة .

ثم ذكر بعض الأسباب المناسبة للتخفيف ، فقال : { عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى } يشق عليهم صلاة ثلثي الليل أو نصفه أو ثلثه ، فليصل المريض المتسهل عليه{[1268]} ، ولا يكون أيضا مأمورا بالصلاة قائما عند مشقة ذلك ، بل لو شقت عليه الصلاة النافلة ، فله تركها [ وله أجر ما كان يعمل صحيحا ] . { وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ } أي : وعلم أن منكم مسافرين يسافرون للتجارة ، ليستغنوا عن الخلق ، ويتكففوا عن الناس{[1269]}  أي : فالمسافر ، حاله تناسب التخفيف ، ولهذا خفف عنه في صلاة الفرض ، فأبيح له جمع الصلاتين في وقت واحد ، وقصر الصلاة الرباعية .

وكذلك { آخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } فذكر تعالى تخفيفين ، تخفيفا للصحيح المقيم ، يراعي فيه نشاطه ، من غير أن يكلف عليه تحرير الوقت ، بل يتحرى الصلاة الفاضلة ، وهي ثلث الليل بعد نصفه الأول .

وتخفيفا للمريض أو المسافر ، سواء كان سفره للتجارة ، أو لعبادة ، من قتال أو جهاد ، أو حج ، أو عمرة ، ونحو ذلك{[1270]} ، فإنه أيضا يراعي ما لا يكلفه ، فلله الحمد والثناء ، الذي ما جعل على الأمة في الدين{[1271]}  من حرج ، بل سهل شرعه ، وراعى أحوال عباده ومصالح دينهم وأبدانهم ودنياهم .

ثم أمر العباد بعبادتين ، هما أم العبادات وعمادها : إقامة الصلاة ، التي لا يستقيم الدين إلا بها ، وإيتاء الزكاة التي هي برهان الإيمان ، وبها تحصل المواساة للفقراء والمساكين ، ولهذا قال :

{ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ } بأركانها ، وشروطها ، ومكملاتها ، { وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا } أي : خالصا لوجه الله ، من نية صادقة ، وتثبيت من النفس ، ومال طيب ، ويدخل في هذا ، الصدقة الواجبة ؟ والمستحبة ، ثم حث على عموم الخير وأفعاله فقال : { وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا } الحسنة بعشر أمثالها ، إلى سبعمائة ضعف ، إلى أضعاف كثيرة .

وليعلم أن مثقال ذرة من الخير في هذه الدار ، يقابله أضعاف أضعاف الدنيا ، وما عليها في دار النعيم المقيم ، من اللذات والشهوات ، وأن الخير والبر في هذه الدنيا ، مادة الخير والبر في دار القرار ، وبذره وأصله وأساسه ، فواأسفاه على أوقات مضت في الغفلات ، وواحسرتاه على أزمان تقضت بغير الأعمال الصالحات ، وواغوثاه من قلوب لم يؤثر فيها وعظ بارئها ، ولم ينجع فيها تشويق من هو أرحم بها منها{[1272]} ، فلك اللهم الحمد ، وإليك المشتكى ، وبك المستغاث ، ولا حول ولا قوة إلا بك .

{ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وفي الأمر بالاستغفار بعد الحث على أفعال الطاعة والخير ، فائدة كبيرة ، وذلك أن العبد ما يخلو من التقصير فيما أمر به ، إما أن لا يفعله أصلا أو يفعله على وجه ناقص ، فأمر بترقيع ذلك بالاستغفار ، فإن العبد يذنب آناء الليل والنهار ، فمتى لم يتغمده الله برحمته ومغفرته ، فإنه هالك .

تم تفسير سورة المزمل{[1273]}


[1268]:- في ب: ما يسهل عليه.
[1269]:- في ب: ويتكففوا عنهم.
[1270]:- في ب: أو لعبادة من جهاد أو حج أو غيره.
[1271]:- في ب: حيث لم يجعل علينا في الدين.
[1272]:- في ب: أرحم بها من نفسها.
[1273]:- في ب: تم تفسيرها والحمد لله.
 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{۞إِنَّ رَبَّكَ يَعۡلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدۡنَىٰ مِن ثُلُثَيِ ٱلَّيۡلِ وَنِصۡفَهُۥ وَثُلُثَهُۥ وَطَآئِفَةٞ مِّنَ ٱلَّذِينَ مَعَكَۚ وَٱللَّهُ يُقَدِّرُ ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّهَارَۚ عَلِمَ أَن لَّن تُحۡصُوهُ فَتَابَ عَلَيۡكُمۡۖ فَٱقۡرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلۡقُرۡءَانِۚ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرۡضَىٰ وَءَاخَرُونَ يَضۡرِبُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ يَبۡتَغُونَ مِن فَضۡلِ ٱللَّهِ وَءَاخَرُونَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۖ فَٱقۡرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنۡهُۚ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَقۡرِضُواْ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنٗاۚ وَمَا تُقَدِّمُواْ لِأَنفُسِكُم مِّنۡ خَيۡرٖ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ هُوَ خَيۡرٗا وَأَعۡظَمَ أَجۡرٗاۚ وَٱسۡتَغۡفِرُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمُۢ} (20)

وبعد هذه الإِنذارات المتعددة للمكذبين ، عادت السورة الكريمة إلى الحديث عن قيام الليل لعبادة الله - تعالى - وطاعته . . فقال - سبحانه - :

{ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدنى مِن . . . } .

المراد بالقيام فى قوله - تعالى - : { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدنى مِن ثُلُثَيِ الليل وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ . . . } التهجد بالليل عن طريق الصلاة تقربا إلى الله - تعالى - .

وقوله : { أدنى } بمعنى أقرب ، من الدنو بمعنى القرب ، تقول : رأيت فلانا أدنى إلى فعل الخير من فلان . أى : أقرب ، واستعير هنا للأقل ، لأن المسافة التى بين الشئ والشئ إذا قربت كانت قليلة ، وهو منصوب على الظرفية بالفعل " تقوم " .

وقوله : { وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ } قرأه بعض القراء السبعة بالجر عطفا على { ثُلُثَيِ الليل } وقرأه الجمهور بالنصب عطفا على أدنى .

والمعنى على قراءة الجمهور : إن ربك - أيها الرسول الكريم - يعلم أنك تقوم من الليل ، مدة قد تصل تارة إلى ثلثى الليل ، وقد تصل تارة أخرى إلى نصفه أو إلى ثلثه . . على حسب ما يتيسر لك ، وعلى حسب أحوال الليل فى الطول والقصر .

والمعنى على قراءة غير الجمهور : إن ربك يعلم أنك تقوم تارة أقل من ثلثى الليل وتارة أقل من نصفه ، وتارة أقل من ثلثه . . وذلك لأنك لم تستطع ضبط المقدار الذى تقومه من الليل ضبطا دقيقا ، ولأن النوم تارة يزيد وقته وتارة ينقص ، والله - تعالى - قد رفع عنك المؤاخذة بسبب عدم تعمدك القيام أقل من ثلث الليل . .

فالآية الكريمة المقصود منها بيان رحمة الله - تعالى - بنبيه صلى الله عليه وسلم حيث قبل منه قيامه بالليل متهجدا ، حتى ولو كان هذا القيام أقل من ثلث الليل . .

وافتتاح الآية الكريمة بقوله - سبحانه - { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ . . . } يشعر بالثناء علريه صلى الله عليه وسلم . وبالتلطف معه فى الخطاب ، حيث إنه صلى الله عليه وسلم كان مواظبا على قيام الليل . على قدر استطاعته ، بدون تقصير أو فتور .

وفى الحديث الشريف : أنه صلى الله عليه وسلم قام الليل حتى تورمت قدماه .

والتعبير بقوله - تعالى - : { أدنى مِن ثُلُثَيِ الليل وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ } يدل على أن قيامه صلى الله عليه وسلم ، وعلى حسب طول الليل وقصره .

وقوله - سبحانه - : { وَطَآئِفَةٌ مِّنَ الذين مَعَكَ } معطوف على الضمير المستتر فى قوله : { تقوم }

أى : أنت أيها الرسول الكريم - تقوم أدنى من ثلثى الليل ونصفه وثلثه ، وتقوم طائفة من أصحابك للصلاة معك ، أما بقية أصحابك فقد يقومون للتهجد فى منازلهم .

روى البخارى فى صحيحه عن عائشة ، " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ذات ليلة فى المسجد ، فصلى بصلاته ناس ، ثم صلى من القابلة فكثر الناس ، ثم اجتمعوا فى الليلة الثالثة أو الرابعة ، فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أصبح قال : " قد رأيت الذى صنعتم ، ولم يمنعنى من الخروج إليكم ، إلا أنى خشيت أن تفرض عليكم " " .

قال بعض العلماء : قوله : { وَطَآئِفَةٌ مِّنَ الذين مَعَكَ } معطوف على الضمير المستكن فى { تقوم }

وهو - وإن كان ضمير رفع متصل - ، قد سوغ العطف عليه الفصل بينه وبين المعطوف .

والمعنى : أن الله يعلم أنه كان يقوم كذلك جماعة من الذين آمنوا بك ، واتبعوا هداك . .

وقد يقال : إن هذا يدل على أن قيام الليل لم يكن فرضا على جميع الأمة ، وهو خلاف ما تقرر تفسيره فى أول السورة ، ويخالف - أيضا - ما دلت عليه الآثار المتقدمة هناك . .

والجواب : أنه ليس فى الآية ما يفيد أن الصحابة - رضوان الله عليهم - كانوا جميعا يصلون مع النبى صلى الله عليه وسلم صلاة التهجد فى جماعة واحدة ، فلعل بعضهم كان يقيمها فى بيته ، فلا ينافى ذلك فريضة القيام على الجميع . .

وقوله - سبحانه - : { والله يُقَدِّرُ الليل والنهار } بيان لشمول علمه - تعالى - ولنفاذ إرادته . أى : والله - تعالى - وحده ، هو الذى يعلم مقادير ساعات الليل والنهار ، وهو الذى يحدد زمانهما - طولا وقصرا - على حسب ما تقتضيه مشيئته وحكمته .

والآية الكريمة تفيد الحصر والاختصاص ، عن طريق سياق الكلام ، ودلالة المقام .

وقوله - تعالى - : { عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ } مؤكد لما قبله ، وإحصاء الأشياء ، عدها والإِحاطة بها .

والضمير المنصوب فى قوله : { تُحْصُوهُ } يعود على المصدر المفهوم من قوله : { يقدر } فى الجملة السابقة .

والتوبة فى قوله - سبحانه - : { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } يصح أن تكون بمعنى المغفرة ، وعدم المؤاخذة ، أو بمعنى قبولها منهم ، والتيسير عليهم فى الأحكام ، وتخفيفها عنهم .

أى : والله - تعالى - هو الذى يقدر أجزاء الليل والنهار ، وهو الذى يعلم - دون غيره - أنكم لن تستطيعوا تقدير ساعاته تقديرا دقيقا . . ولذلك خفف الله عنكم فى أمر القيام ، ورفع عنكم المقدار المحدد ، وغفر لكم ما فرط منكم من تقصير غير مقصود ، ورخص لكم أن تقوموا المقدار الذى تستطيعون قيامه من الليل ، مصلين ومتهجدين . .

فالجملة الكريمة تقرر جانبا من فضل الله - تعالى - على عباده ، ومن رحمته بهم .

والفاء فى قوله - تعالى - : { فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن } للإِفصاح ، والمراد بالقراءة الصلاة ، وعبر عنها بالقراءة ، لأنها من أركانها . . أى : إذا كان الأمر كما وضحت لكم ، فصلوا ما تيسر لكم من الليل .

قال الآلوسى : قوله : { فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن } أى : فصلوا ما تيسر لكم من صلاة الليل ، وعبر عن الصلاة بالقراءة كما عبر عنها بسائر أركانها ، وقيل : الكلام على حقيقته ، من طلب قراءة القرآن بعينها وفيه بعد عن مقتضى السياق .

ومن ذهب إلى الأول قال : إن الله - تعالى - افترض قيام مقدار معين من الليل ، لقوله :

{ قُمِ الليل إِلاَّ قَلِيلاً . نِّصْفَهُ . . . } الخ . ثم نسخ بقيام مقدار ما منه ، فى قوله : { فَتَابَ عَلَيْكُمْ فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن . . . } فالأمر فى الموضعين للوجوب ، إلا أن الواجب أولا كان معينا من معينات ، وثانيا كان بعضا مطلقا ، ثم نسخ وجوب القيام على الأمة مطلقا بالصلوات الخمس .

ومن قال بالثانى : ذهب إلى أن الله - تعالى - رخص لهم فى ترك جميع القيام بالصلاة ، وأمر بقراءة شئ من القرآن ليلا ، فكأنه قيل : فتاب عليكم ورخص لكم من الترك ، فاقرءوا ما تيسر من القرآن ، إن شق عليكم القيام . .

وقال الإِمام ابن كثير : وقوله : { فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن } أى : من غير تحديد بوقت ، أى : لكن قوموا من الليل ما تيسر ، وعبر عن الصلاة بالقراءة ، كما قال فى آية أخرى : { وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ } أى : بقراءتك { وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا } وقد استدل الأحناف بهذه الآية على أنه لا يتعين قراءة الفاتحة فى الصلاة ، بل لو قرأ بها أو بغيرها من القرآن ، ولو بآية . أجزأه واعتضدوا بحديث المسئ صلاته الذى فى الصحيحين ، وفيه : " ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن " .

وقد أجابهم الجمهور بحديث عبادة بن الصامت ، وهو فى الصحيحين - أيضا - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " كل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهى خداج . . غير تمام " وفى صحيح ابن خزيمة عن أبى هريرة مرفوعا : " لا تجزئ صلاة من لم يقرأ بفاتحة الكتاب " .

وقوله - سبحانه - بعد ذلك : { عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مرضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرض يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ الله وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ . . } بدل اشتمال من جملة : { عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ . . } ، أو هو كلام مستأنف لبيان الحكمة التى من أجلها خفف الله على المسلمين قيام الليل .

أى : صلوا من الليل على قدر استطاعتكم من غير تحديد بوقت ، فالله - تعالى - يعلم أنكم لا تستطيعون ضبط ساعات الليل ولا أجزائه ، فخفف عليكم لذلك ، ولعلمه - أيضا - أن منكم المرضى الذين يعجزون عن قيام ثلثى الليل أو نصفه أو أقل من ذلك بقليل .

ومنكم - أيضا - الذين { يَضْرِبُونَ فِي الأرض } أى : يسافرون فيها للتجارة وللحصول على مطالب الحياة ، وهم فى كل ذلك يبتغون ويطلبون الرزق من فضله - تعالى - . ومنكم - أيضا - الذين يقاتلون من أجل إعلاء كلمة الله ، ويجاهدون من أجل نشر دينه وما دام الأمر كذلك ، فقد أبحت لكم - بفضلى وإحسانى - أن تصلوا من الليل ما تيسر لكم .

وقد جمع - سبحانه - بين السعى فى الأرض لطلب الرزق ، وبين الجهاد فى سبيله ، للإِشعار بأن الأول لا يقل فى فضله عن الثانى ، متى توفرت فيه النية الطيبة ، وعدم الانشغال به عن ذكر الله - تعالى - .

قال الإِمام القرطبى : سوى الله - تعالى - فى هذه الآية بين درجة المجاهدين والمكتسبين المال والحلال ، للنفقة على النفس والعيال . . فكان هذا دليلا على أن كسب المال بمنزلة الجهاد فى سبيل الله .

وفى الحديث الشريف : " ما من جالب يجلب طعاما من بلد إلى بلد ، فيبيعه بسعر يومه ، إلا كانت منزلته عند الله كمنزلة الشهداء ، ثم قرأ صلى الله عليه وسلم هذه الآية . . " .

وأعيدت جملة { فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } لتأكيد التيسير والتخفيف وتقريره ، وليعطف عليه ما بعده من بقية الأوامر ، وهى قوله - تعالى - : { وَأَقِيمُواْ الصلاة } أى : وأدوها كاملة الأركان والخشوع والسنن . . فى وقتها بدون تأخير .

{ وَآتُواْ الزكاة } أى : قدموها لمستحقيها من الفقراء والمساكين وغيرهما .

قال ابن كثير : أى : أقيموا الصلاة الواجبة عليكم ، وآتوا الزكاة المفروضة ، وهذا يدل لمن قال : إن فرض الزكاة نزل بمكة ، لكن مقادير النصاب لم تبين إلا بالمدينة . .

وقوله : { وَأَقْرِضُواُ الله قَرْضاً حَسَناً } . والقرض : ما قدمته لغيرك من مال ، على أن يرده إليك بعد ذلك . والمراد من إقراض الله - تعالى - : إعطاء الفقراء والمساكين ما يحتاجونه على سبيل المعاونة والمساعدة .

وشبه - سبحانه - إعطاء الصدقة للمحتاج ، بقرض يقدم له - تعالى - ، للإِشعار بأن ما سيعطى لهذا المحتاج ، سعود إضعافه على المعطى . لأن الله - تعالى - قد وعد أن يكافئ على الصدقة بعشر أمثالها ، وهو - سبحانه - بعد ذلك يضاعف لمن يشاء الثواب والعطاء .

ووصف القرض بالحسن ، لحض النفوس على الإخلاص وعلى البعد عن الرياء والأذى . .

ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بقوله : { وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ } أى : أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ، وأقرضوا الله قرضا حسنا ، وافعلوا ما تستطيعونه - بعد ذلك - من وجوه الخير ، وما تقدموا لأنفسكم من هذا الخير الذى يحبه - سبحانه - { تَجِدُوهُ عِندَ الله } أى : تجدوا ثوابه وجزاءه عند الله - تعالى - ، ففى الكلام إيجاز بالحذف ، وقد استغنى عن المحذوف بذكر الجزاء عليه . والهاء فى قوله { تَجِدُوهُ } هو المفعول الأول .

والضمير المنفصل فى قوله : { هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً } هو ضمير الفصل . . . { خَيْراً } هو المفعول الثانى . أى : كل فعل موصوف بأنه خير ، تقدمونه عن إخلاص لغيركم ، لن يضيع عند الله - تعالى - ثوابه ، بل ستجدون جزاءه وثوابه مضاعفا عند الله - تعالى - .

{ واستغفروا الله إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أى : وواظبوا على الاستغفار وعلى التوبة النصوح ، وعلى التضرع إلى الله - تعالى - أن يغفر لكم ما فرط منكم ، فإنه - سبحانه - واسع المغفرة والرحمة ، لمن تاب إليه وأناب . .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{۞إِنَّ رَبَّكَ يَعۡلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدۡنَىٰ مِن ثُلُثَيِ ٱلَّيۡلِ وَنِصۡفَهُۥ وَثُلُثَهُۥ وَطَآئِفَةٞ مِّنَ ٱلَّذِينَ مَعَكَۚ وَٱللَّهُ يُقَدِّرُ ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّهَارَۚ عَلِمَ أَن لَّن تُحۡصُوهُ فَتَابَ عَلَيۡكُمۡۖ فَٱقۡرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلۡقُرۡءَانِۚ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرۡضَىٰ وَءَاخَرُونَ يَضۡرِبُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ يَبۡتَغُونَ مِن فَضۡلِ ٱللَّهِ وَءَاخَرُونَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۖ فَٱقۡرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنۡهُۚ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَقۡرِضُواْ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنٗاۚ وَمَا تُقَدِّمُواْ لِأَنفُسِكُم مِّنۡ خَيۡرٖ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ هُوَ خَيۡرٗا وَأَعۡظَمَ أَجۡرٗاۚ وَٱسۡتَغۡفِرُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمُۢ} (20)

{ إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك ، والله يقدر الليل والنهار علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرءوا ما تيسر من القرآ ، }

من هنا يبتدىء ما نزل من هذه السورة بالمدينة كما تقدم ذكره في أول السورة .

وصريح هذه الآية ينادي على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل قبل نزول الآية وأن طائفة من أصحابه كانوا يقومون عملاً بالأمر الذي في أول السورة من قوله : { قم الليل إلاّ قليلاً } الآية [ المزمل : 2 ] ، فتعين أن هذه الآية نزلت للتخفيف عنهم جميعاً لقوله فيها : { فتاب عليكم } فهي ناسخة للأمر الذي في أول السورة .

واختلف السلف في وقت نزولها ومكانه وفي نسْبة مقتضاها من مقتضى الآية التي قبلها . والمشهور الموثوق به أن صدر السورة نزل بمكة .

ولا يغتر بما رواه الطبري عن أبي سلمة بن عبد الرحمان عن عائشة مما يوهم أن صدر السورة نزل بالمدينة . ومثلُه ما روي عن النخعي في التزمل بمرط لعائشة .

ولا ينبغي أن يطال القول في أنَّ القيام الذي شُرع في صدر السورة كان قياماً واجباً على النبي صلى الله عليه وسلم خاصة ، وأن قيام من قام من المسلمين معه بمكة إنما كان تأسياً به وأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم عليه ولكن رأت عائشة أن فرض الصلوات الخمس نسَخ وجوب قيام الليل ، وهي تريد أن قيام الليل كان فرضاً على المسلمين ، وهو تأويل ، كما لا ينبغي أن يختلف في أن أول ما أوجب الله على الأمة هو الصلوات الخمس التي فرضت ليلة المعراج وأنها لم يكن قبلها وجوب صلاة على الأمة ولو كان لجَرى ذكر تعويضه بالصلوات الخمس في حديث المعراج ، وأن جوب الخمس على النبي صلى الله عليه وسلم مثل وجوبها على المسلمين . وهذا قول ابن عباس لأنه قال : إن قيام الليل لم ينسخه إلاّ آية : { إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل } الآية ، ولا أن يختلف في أن فرض الصلوات الخمس لم ينسخ فرض القيام على النبي صلى الله عليه وسلم سوى أنه نسخ استيعاب نصف الليل أو دونه بقليل فنسخه { فاقرءوا ما تيسر من القرآن } .

وقد بين ذلك حديث ابن عباس ليلةَ بات في بيت خالته ميمونة أم المؤمنين قال فيه : « نام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهله حتى إذا كان نصف الليل أو قبله بقليل أو بعدَه بقليل استيقظ رسول الله » ثم وصف وُضوءه وأنه صلى ثلاث عشرة ركعة ثم نام حتى جاءه المنادي لصلاة الصبح . وابن عباس يومئذٍ غلام فيكون ذلك في حدود سنة سبع أو ثمان من الهجرة .

ولم ينقل أن المسلمين كانوا يقومون معه إلاّ حين احتجز موضعاً من المسجد لقيامه في ليالي رمضان فتسامع أصحابه به فجعلوا يَنْسِلون إلى المسجد ليصلّوا بصلاة نبيئهم صلى الله عليه وسلم حتى احتبس عنهم في إحدى الليالي وقال لهم : " لقد خشيت أن تفرض عليكم " وذلك بالمدينة وعائشة عنده كما تقدم في أول السورة .

وهو صريح في أن القيام الذي قاموه مع الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن فرضاً عليهم وأنهم لم يدوموا عليه وفي أنه ليس شيء من قيام الليل بواجب على عموم المسلمين وإلاّ لما كان لخشية أن يفرض عليهم موقع لأنه لو قُدر أن بعض قيام الليل كان مفروضاً لكان قيامهم مع النبي صلى الله عليه وسلم أداء لذلك المفروض ، وقد عضد ذلك حديث ابن عمر « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لحفصة وقد قصَّت عليه رؤيا رآها عبد الله بن عمر أن عبد الله رجل صالح لو كان يقوم في الليل » .

وافتتاح الكلام ب { إن ربك يعلم أنك تقوم } يشعر بالثناء عليه لوفائه بحق القيام الذي أُمر به وأنه كان يبسط إليه ويهتم به ثم يقتصر على القدرِ المعين فيه النصففِ أو أنقصَ منه قليلاً أو زائدٍ عليه بل أخذ بالأقصى وذلك ما يقرب من ثُلثي الليل كما هو شأن أولي العزم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : { فلما قضى موسى الأجل } [ القصص : 29 ] أنه قضى أقصَى الأجلين وهو العشر السنون .

وقد جاء في الحديث : " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تورمت قدماه "

وتأكيد الخبر ب { إِنَّ } للاهتمام به ، وهو كناية عن أنه أرضى ربّه بذلك وتوطئة للتخفيف الذي سيذكر في قوله : { فتاب عليكم } ليعلم أنه تخفيف رحمة وكرامة ولإفراغ بعض الوقت من النهار للعمل والجهاد .

ولم تزل تكثر بعد الهجرة أشغال النبي صلى الله عليه وسلم بتدبير مصالح المسلمين وحماية المدينة وتجهيز الجيوش ونحو ذلك ، فلم تبق في نهاره من السعة ما كان له فيه أيامَ مقامه بمكة ، فظهرت حكمة الله في التخفيف عن رسوله صلى الله عليه وسلم من قيام الليل الواجِب منه والرغيبةِ .

وفي حديث علي بن أبي طالب " أنه سئل عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى منزله فقال : كان إذا أوَى إلى منزله جزَّأ دخوله ثلاثة أجزاء : جُزءاً لله ، وجزءاً لأهله ، وجزءاً لنفسه ، ثم جزَّأ جزأه بينه وبين الناس فيرد ذلك بالخاصة على العامة ولا يدخر عنهم شيئاً فمنهم ذو الحاجة ومنهم ذو الحاجتين ومنهم ذو الحوائج فيتشاغل بهم ويشغلهم فيما يصلحهم والأمةَ من مسألته عنهم وإخبارهم بالذي ينبغي لهم " .

وإيثار المضارع في قوله : { يعلم } للدلالة على استمرار ذلك العلم وتجدده وذلك إيذان بأنه بمحل الرضى منه .

وفي ضده قوله : { قد يعلم الله المعوقين منكم } [ الأحزاب : 18 ] لأنه في معرض التوبيخ ، أي لم يزل عالماً بذلك حيناً فحيناً لا يخفى عليه منه حصة .

و { أدْنى } أصله أقرب ، من الدنُوّ ، استعير للأَقَلّ لأن المسافة التي بين الشيء والأدنى منه قليلة ، وكذلك يستعار الأبعد للأكثر .

وهو منصوب على الظرفيّة لفعل { تقوم } ، أي تقوم في زمان يقدر أقل من ثلثي الليل وذلك ما يزيد على نصف الليل وهو ما اقتضاه قوله تعالى : { أو زد عليه } [ المزمل : 4 ] .

وقرأ الجمهور : { ثُلثي } بضم اللام على الأصل . وقرأه هشام عن ابن عامر بسكون اللام على التخفيف لأنه عرض له بعض الثقل بسبب التثنية .

وقرأ نافع وابن عامر وأبو عمرو وأبو جعفر ويعقوب { ونصفَه وثلثَه } بخفضهما عطفاً على { ثلثي الليل } ، أي أدنى من نصفه وأدنى من ثلثه .

وقرأ ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي وخلف بنصب { ونصفه وثلثه } على أنهما منصوبان على المفعول ل { تقومُ } ، أي تقوم ثلثي الليل ، وتقوم نصف الليل ، وتقوم ثلثَ الليل ، بحيث لا ينقص عن النصف وعن الثلث . وهذه أحوال مختلفة في قيام النبي صلى الله عليه وسلم بالليل تابعة لاختلاف أحوال الليالي والأيام في طول بعضها وقصر بعض وكلها داخلة تحت التخيير الذي خيره الله في قوله { قم الليل إلاّ قليلاً } [ المزمل : 2 ] إلى قوله : { أو زد عليه } [ المزمل : 4 ] .

وبه تظهر مناسبة تعقيب هذه الجملة بالجملة المعترضة ، وهي جملة { والله يقدر الليل والنهار } أي قد علمها الله كلها وأنبأه بها . فلا يختلف المقصود باختلاف القراءات . فمن العجاب قول الفرّاء أن النصب أشبه بالصواب .

و { طائفة } عطف على اسم { إنَّ } بالرفع وهو وجه جائز إذا كان بعدَ ذكرِ خبرِ { إنّ } لأنه يقدر رفعه حينئذٍ على الاستئناف كما في قوله تعالى : { أن الله بريء من المشركين ورسوله } [ التوبة : 3 ] . وهو من اللطائف إذا كان اتصاف الاسم والمعطوف بالخبر مختلفاً فإن بين قيام النبي صلى الله عليه وسلم وقيام الطائفة التي معه تفاوتاً في الحكم والمقدار ، وكذلك براءة الله من المشركين وبراءة رسوله . فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يدعوهم ويقرأ عليهم القرآن ويعاملهم ، وأما الله فغاضب عليهم ولاَعنُهم . وهذا وجه العدول عن أن يقول : إنَّ الله يعلم أنكم تقومون . إلى قوله : { أنك تقوم } ثم قوله : { وطائفة } الخ .

ووُصف { طائفة } بأنهم ( من الذين معه ) ، فإن كان المراد بالمعية المعية الحقيقية ، أي المصاحبة في عمل مما سيق له الكلام . أي المصاحبين لك في قيام الليل ، لم يكن في تفسيره تعيين لناس بأعيانهم ، ففي حديث عائشة في « صحيح البخاري » « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلَّى ذات ليلة في المسجد فصلى بصلاته ناس ثم صلى من القابلة فكثر الناس ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أصبح قال : قد رأيتُ الذي صنعتم ولم يمنعني من الخروج إليكم إلاّ أني خشِيت أن تُفرض عليكم ، وذلك في رمضان » .

وإن كانت المعية معية مجازية وهي الانتساب والصحبة والموافقة فقد عَدَدْنا منهم : عبدَ الله بن مسعود ، وعبد الله بن عَمْرو ، وسلمان الفارسي وأبا الدرداء ، وزينبَ بنتَ جحش ، وعبدَ الله بن عُمَرَ ، والحَولاء بنتَ تُوَيْت الأسدية ، فهؤلاء ورد ذكرهم مفرقاً في أحاديث التهجد من « صحيح البخاري » .

واعلم أن صدر هذه الآية إيماء إلى الثناء على النبي صلى الله عليه وسلم في وفائه بقيام الليل حق الوفاء وعلى الطائفة الذين تابعوه في ذلك .

فالخبر بأن الله يعلم أنك تقوم مراد به الكناية عن الرضى عنهم فيما فعلوا .

والمقصود : التمهيد لقوله : { علم أن لن تحصوه } إلى آخر الآية .

ولأجل هذا الاعتبار أعيد فعل { عَلِم } في جملة { علم أن سيكون منكم مرضى } الخ ولم يقل : وأن سيكون منكم مرضى بالعطف .

وجملة { والله يقدر الليل والنهار } معترضة بين جملتي { إن ربّك يعلم أنك تقوم } وجملة { علم أن لن تحصوه } وقد علمت مناسبة اعتراضها آنفاً .

وجملة { علم أن لن تحصوه } يجوز أن تكون خبراً ثانياً عن { إنَّ } بعد الخبر في قوله : { يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل } الخ .

ويجوز أن تكون استئنافاً بيانياً لما ينشأ عن جملة { إن ربّك يعلم أنك تقوم } من ترقب السامع لمعرفة ما مُهّد له بتلك الجملة ، فبعد أن شكرهم على عملهم خفف عنهم منه .

والضمير المنصوب في { تحصوه } عائد إلى القيام المستفاد من { أنك تقوم .

والإِحصاء حقيقته : معرفة عدد شيء معدود مشتق من اسم الحصى جمع حصاة لأنهم كانوا إذا عدّوا شيئاً كثيراً جعلوا لكل واحد حصاة وهو هنا مستعار للإِطاقة . شُبهت الأفعال الكثيرة من ركوع وسجود وقراءة في قيام الليل ، بالأشياء المعدودة ، وبهذا فسر الحسن وسفيان ، ومنه قوله في الحديث استقيموا ولن تُحصوا أي ولن تطيقوا تمام الاستقامة ، أي فخذوا منها بقدر الطاقة .

و{ أنْ } مخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير شأن محذوف وخبره الجملة ، وقد وقع الفصل بين { أنْ } وخبرها بحرف النفي لكون الخبر فعلاً غير دعاء ولا جامد حسب المتبع في الاستعمال الفصيح .

و{ أنْ } وجملتها سادة مسد مفعولي { علم } إذ تقديره علم عَدَم إحصائِكُمُوه واقعاً .

وفرع على ذلك { فتاب عليكم } وفعل { تاب } مستعار لعدم المؤاخذة قبل حصول التقصير لأن التقصير متوقع فشابه الحاصل فعبر عن عدم التكليف بما يتوقع التقصير فيه ، بفعل { تاب } المفيد رفع المؤاخذة بالذنب بعد حصوله .

والوجه أن يكون الخطاب في قوله : { تحصوه } وما بعده موجهاً إلى المسلمين الذين كانوا يقومون الليل : إِما على طريقة الالتفات من الغيبة إلى الخطاب بعد قوله : { وطائفة من الذين معك ، } وإِما على طريقة العام المراد به الخصوص بقرينة أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يُظن تعذر الإِحصاء عليه ، وبقرينة قوله : { أن سيكونُ منكم مرضى } الخ .

ومعنى { فاقرأوا ما تيسر من القرآن } فصلُّوا ما تيسر لكم ، ولما كانت الصلاة لا تخلو عن قراءة القرآن أُتبع ذلك بقوله هنا : { فاقرأوا ما تيسر من القرآن } ، أي صلوا كقوله تعالى : { وقرآنَ الفجر } [ الإسراء : 78 ] أي صلاة الفجر وفي الكناية عن الصلاة بالقرآن جمع بين الترغيب في القيام والترغيب في تلاوة القرآن فيه بطريقة الإِيجاز .

والمراد القرآن الذي كان نزل قبل هذه الآية المدنيّة وهو شيء كثير من القرآن المكيُّ كله وشيء من المدني ، وليس مثل قوله في صدر السورة { ورتل القرءان ترتيلاً } [ المزمل : 4 ] كما علمت هنالك .

وقوله : { ما تيسر من القرءان } أي ما تيسر لكم من صلاة الليل فلا دلالة في هذه الآية على مقدار ما يجزىء من القراءة في الصلاة إذ ليس سياقها في هذا المهيع ، ولئن سلمنا ، فإن ما تيسر مجمل وقد بينه قول النبي صلى الله عليه وسلم " لا صَلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب " ، وأما السورة مع الفاتحة فإنه لم يرو عنه أنه قرأ في الصلاة أقلَّ من سورة ، وهو الواجب عند جمهور الفقهاء ، فيكره أن يَقرأ المصلي بعضَ سورة في الفريضة . ويجوز في القيام بالقرآن في الليل وفي قيام رمضان ، وعند الضرورة ، ففي « الصحيح » « أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ فأخذته بُحَّة فركع » ، أي في أثناء السّورة .

وقال أبو حنيفة وأحمد في رواية عنه : تجزىء قراءة آية من القرآن ولو كانت قصيرة ومثَّله الحنفية بقوله تعالى : { مُدْهامَّتَان } [ الرحمن : 64 ] ولا تتعين فاتحة الكتاب وخالفه صاحباه في الأمرين .

وتعيين من تجب عليه القراءة من منفرد وإمام ومأموم مُبين في كتب الفقه .

وفعلُ ( تاب ) إذا أريد به قبول توبة التائب عدي بحرف ( على ) لتضمينه معنى مَنَّ وإذا كان بمعنى الرجوع عن الذنب والندم منه عدي بما يناسب .

وقد نسخت هذه الآية تحديدَ مدة قيام الليل بنصفه أو أزيد أو أقل من ثلثه ، وأصحاب التحديد بالمقدار المتيسر من غير ضبط ، أما حكم ذلك القيام فهو على ما تقدم شرحه .

{ علم أن سيكون منكم مرضى وءاخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وءاخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرءوا ما تيسر منه وأقيموا الصلاة وءاتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضا حسنا } .

هذه الجملة بدل اشتمال من جملة { عَلِمَ أنْ لَنْ تُحصوه } ، وهذا تخفيف آخر لأجل أحوال أخرى اقتضت التخفيف .

وهذه حكمة أخرى لنسخ تحديد الوقت في قيام الليل وهي مراعاة أحوال طرأت على المسلمين من ضروب ما تدعو إليه حالة الجماعة الإِسلامية . وذكر من ذلك ثلاثة أضرب هي أصول الأعذار :

الضرب الأول : أعذار اختلال الصحة وقد شملها قوله : { أن سيكون منكم مرضى .

الضرب الثاني : الأشغال التي تدعو إليها ضرورة العيش من تجارة وصناعة وحراثة وغير ذلك ، وقد أشار إليها قوله : { وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله } وفضل الله هو الرزق .

الضرب الثالث : أعمال لمصالح الأمة وأشار إليها قوله : { وآخرون يقاتلون في سبيل الله } ودخل في ذلك حراسة الثغور والرِباط بها ، وتدبير الجيوش ، وما يرجع إلى نشر دعوة الإِسلام من إيفاد الوفود وبعث السفراء .

وهذا كله من شؤون الأمة على الإِجمال فيدخل في بعضها النبي صلى الله عليه وسلم كما في القتال في سبيل الله ، والمرض ففي الحديث : اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقم ليلة أو ليلتين .

وإذا كانت هذه الآية مما نزل بمكة ففيها بشارة بأن أمر المسلمين صائر إلى استقلال وقترة على أعدائهم فيقاتلون في سبيل الله وإن كانت مدنية فهو عذر لهم بما ابتدأوا فيه من السرايا والغزوات .

وقد كان بعض الصحابة يتأول من هذه الآية فضيلة التجارة والسفر للتجر حيث سوى الله بين المجاهدين والمكتسبين المال الحلال ، يعني أن الله ما ذكر هذين السببين لنسخ تحديد القيام إلاّ تنويهاً بهما لأن في غيرهما من الأعذار ما هو أشبه بالمرض ، ودقائق القرآن ولطائفه لا تنحصر .

روي عن ابن مسعود أنه قال « أيما رجل جلب شيئاً إلى مدينة من مدائن المسلمين محتسباً فباعه بسعر يومه كان له عند الله منزلة الشهداء ، وقرأ { وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله } » .

وعن ابن عمر : « ما خلق الله موتة بعد الموت في سبيل الله أحب إليَّ من أن أموت بين شُعْبَتَي رَحْلي أبتغي من فضل الله ضارباً في الأرض » .

فإذا كانت هذه الآية مما نزل بمكة ففيها بشارة بأن أمر المسلمين صائر إلى قترة على عدوهم وإن كانت مدنية فهي عذر لهم بما عرض لهم .

ومعنى { يضربون في الأرض } يسيرون في الأرض .

وحقيقة الضرب : قرع جسم بجسم آخر ، وسُمّي السير في الأرض ضرباً في الأرض لتضمين فعل { يضربون } معنى يسيرون فإن السير ضرب للأرض بالرجلين لكنه تنوسي منه معنى الضرب وأريد المشي فلذلك عدي بحرف { في } لأن الأرض ظرف للسير كما قال تعالى : { فسيروا في الأرض } [ آل عمران : 137 ] وقد تقدم عند قوله تعالى : { وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } في سورة النساء ( 101 ) .

والابتغاء من فضل الله طلب الرزق قال تعالى : { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربّكم } [ البقرة : 198 ] أي التجارة في مدة الحج ، فقوله تعالى : { يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله } مراد بالضرب في الأرض فيه السفر للتجارة لأن السير في الأسفار يكون في الليل كثيراً ويكون في النهار فيحتاج المسافر للنوم في النهار .

وفُرع عليه مثل ما فرع على الذي قبله فقال : { فاقرأوا ما تيسر منه } أي من القرآن .

وقد نيط مقدار القيام بالتيسير على جميع المسلمين وإن اختلفت الأعذار .

وهذه الآية اقتضت رفع وجوب قيام الليل عن المسلمين إن كان قد وجب عليهم من قبل على أحد الاحتمالين ، أو بيانَ لم يوجب عليهم وكانوا قد التزموه فبين لهم أن ما التزموه من التأسّي بالنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك غير لازم لهم .

وعلل عدم وجوبه عليهم بأن الأمة يكثر فيها أصحاب الأعذار التي يشق معها قيام الليل فلم يجعله الله واجباً عليهم أو رفَع وجوبه . ولولا اعتبار المظنة العامة لأبقِيَ حكمُ القيام ورُخص لأصحاب العذر في مدة العذر فقط فتبين أن هذا تعليل الحكم الشرعي بالمظنة والحكم هنا عدمي ، أي عدم الإِيجاب فهو نظير قصر الصلاة في السفر على قول عائشة أم المؤمنين : « إن الصلاة فرضت ركعتين ثم زيد في ثلاث من الصلوات في الحضر وأبقيت صلاة السفر » ، وعلة بقاء الركعتين هو مظنة المشقة في السفر .

وأوجب الترخص في قيام الليل أنه لم يكن ركناً من أركان الإِسلام فلم تكن المصلحة الدينية قوية فيه .

وأما حكم القيام فهو ما دلّ عليه قوله : { قم الليل إلاّ قليلاً } [ المزمل : 2 ] وما دلت عليه أدلة التحريض عليه من السنة . وقد مضى ذلك كله . فهذه الآية صالحة لأن تكون أصلاً للتعليل بالمظنة وصالحة لأن تكون أصلاً تقاس عليه الرخص العامة التي تراعى فيها مشقة غالب الْأمة مثل رخصة بيع السلم دون الأحوال الفردية والجزئية .

وقوله : { وأقيموا الصلاة } تذكير بأن الصلوات الواجبة هي التي تحرصون على إقامتها وعدم التفريط فيها كما قال تعالى : { إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً } [ النساء : 103 ] .

وفي هذا التعقيب بعطف الأمر بإقامة الصلاة إيماء إلى أن في الصلوات الخمس ما يرفع التبعة عن المؤمنين وأن قيام الليل نافلة لهم وفيه خير كثير وقد تضافرت الآثار على هذا ما هو في كتب السنة .

وعطف { وءاتوا الزكاة } تتميم لأن الغالب أنه لم يَخلُ ذكر الصلاة من قرن الزكاة معها حتى استنبط أبو بكر رضي الله عنه من ذلك أن مانع الزكاة يقاتل عليها ، فقال لعمر رضي الله عنه « لأقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة » .

وإقراض الله هو الصدقات غير الواجبة ، شبه إعطاء الصدقة للفقير بقرض يُقرضه الله لأن الله وعد على الصدقة بالثواب الجزيل فشابه حالُ معطي الصدقة مستجيباً رغبة الله فيه بحال من أقرض مستقرضاً في أنه حقيق بأن يُرجع إليه ما أقرضه ، وذلك في الثواب الذي يُعطاه يوم الجزاء .

ووصف القرض بالحسن يفيد الصدقة المراد بها وجه الله تعالى والسالمة من المنّ والأذى ، والحُسن متفاوت .

والحَسن في كل نوع هو ما فيه الصفات المحمودة في ذلك النوع في بابه ، ويعرف المحمود من الصدقة من طريق الشرع بما وصفه القرآن في حسن الصدقات وما ورد في كلام النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك .

وقد تقدم في سورة البقرة ( 245 ) قوله : { من ذا الذي يُقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له ضعافاً كثيرة } وفي سورة التغابن ( 17 ) { إن تقرضوا الله قرضاً حسناً يضاعفْه لكم } .

{ وَمَا تُقَدِّمُواْ لاَِنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ الله هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً } .

تذييل لما سبق من الأمر في قوله : { فاقرأوا ما تيسر منه وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضاً حسناً } ، فإن قوله : { من خير } يعم جميع فعل الخير .

وفي الكلام إيجازُ حَذْف . تقدير المحذوف : وافعلوا الخير وما تقدموا لأنفسكم منه تجدوه عند الله ، فاستغني عن المحذوف بذكر الجزاء على الخير .

و { ما } شرطية . ومعنى تقديم الخير : فعله في الحياة ، شُبِّه فعل الخير في مدة الحياة لرجاء الانتفاع بثوابه في الحياة الآخرة بتقديم العازم على السفر ثَقَلَه وأدوَاتِه وبعضَ أهله إلى المحل الذي يروم الانتهاء إليه ليجد ما ينتفع به وقت وصوله .

و { من خير } بيان لإِبهام { ما } الشرطية .

والخير : هو ما وصفه الدين بالحُسْن ووعد على فعله بالثواب .

ومعنى { تجدوه } تجدوا جزاءه وثوابه ، وهو الذي قصده فاعله ، فكأنه وجد نفس الذي قدَّمه ، وهذا استعمال كثير في القرآن والسنة أن يعبر عن عوض الشيء وجزائِه باسم المعوض عنه والمجازَى به ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يَكنز المال ولا يؤدي حقه « مُثِّل له يوم القيامة شُجاعاً أقْرَعَ يأخذ بلِهْزِمَتَيْه يقول : أنا مالك أنا كنزك » .

وضمير الغائب في { تجدوه } هو المفعول الأول ل ( تجدوا ) ومفعوله الثاني { خيراً } .

والضمير المنفصل الذي بينهما ضمير فعل ، وجاز وقوعه بين معرفة ونكرة خلافاً للمعروف في حقيقة ضمير الفصل من وجوب وقوعه بين معرفتين لأنَّ أفْعَلَ مِن كَذا ، أشبه المعرفة في أنه لا يجوز دخول حرف التعريف عليه .

و { خيراً } : اسم تفضيل ، أي خيراً مما تقدمونه إذ ليس المراد أنكم تجدونه من جنس الخير ، بل المراد مضاعفة الجزاء ، لما دل عليه قوله تعالى : { إن تقرضوا الله قرضاً حسناً يُضاعفه لكم } [ التغابن : 17 ] وغير ذلك من كثير من الآيات .

وأفاد ضمير الفصل هنا مجرد التأكيد لتحقيقه .

وعُطف { وأعظمَ أجراً } على { خيراً } أو هو منسحب عليه تأكيد ضمير الفصل{[437]} .

وانتصب { أجراً } على أنه تمييز نسبة ل { أعظمَ } لأنه في معنى الفعل . فالتقدير : وأعظم أجره ، كما تقول : وجدته مُنبسطاً كفاً ، والمعنى : أن أجره خيرٌ وأعظمُ ممّا قدمتوه .

{ واستغفروا الله إن الله غفور رحيم }

يجوز أن تكون الواو للعطف فيكون معطوفاً على جملة { وما تقدموا لأنفسكم } الخ ، فيكون لها حكم التذييل إرشاداً لتدارك ما عسى أن يعرض من التفريط في بعض ما أمره الله بتقديمه من خير فإن ذلك يشمل الفرائض التي يقتضي التفريط في بعضها توبةً منه .

ويجوز أن تكون الواو للاستئناف وتكون الجملة استئنافاً بيانياً ناشئاً عن الترخيص في ترك بعض القيام إرشاداً من الله لما يسُدّ مسدّ قيام الليل الذي يعرض تركه بأن يستغفر المسلم ربّه إذا انتبه من أجزاء الليل ، وهو مشمول لقوله تعالى : { وبالأسحار هم يستغفرون } [ الذاريات : 18 ] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم « ينزل ربّنا كل ليلة{[438]} إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول : من يدعوني فأستجيبَ له ، من يسألني فأعْطيَه ، من يستغفرني فأغفرَ له » . وقال : « من تَعَارَّ من الليل{[439]} فقال : لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، الحمد لله وسبحان الله ولا إله إلاّ الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلاّ بالله ثم قال اللهم اغفر لي أوْ دعا استجيب له » .

وجملة { إن الله غفور رحيم } تعليل للأمر بالاستغفار ، أي لأن الله كثير المغفرة شديد الرحمة . والمقصود من هذا التعليل الترغيبُ والتحريض على الاستغفار بأنه مرجوّ الإِجابة . وفي الإِتيان بالوصفين الدّالين على المبالغة في الصفة إيماء إلى الوعد بالإِجابة .


[437]: - ضمير الفصل هنا وقع بين معرفة وهو الضمير المفعول الأول لفعل { تجدوه} وبين ما هو بمنزلة المعرفة وهو اسم التفضيل لشبهه بالمعرفة في امتناع دخول حرف التعريف عليه كما ذكره في المفصل والكشاف.
[438]: - هذا المتشابه، وتـأويله : أنه ينزل رضاه على عباده.
[439]: - التعارر: التقلب على الفراش ليلا بعد نوم حين ينتبه النائم فيبدل جنبا عوض جنب.