في هذه السورة أمر الله رسوله بقيام قدر كبير من الليل ، للصلاة وقراءة القرآن مرتلا فيها ، فقام هو وطائفة من الذين معه ، ثم خفف الله عنهم في آخرها ، وأمرهم بالصلاة والزكاة والصدقة والاستغفار .
وفي أثنائها أمره بالصبر على ما يقول المكذبون ، وتركهم لما أعده الله لهم من العذاب ، وهدد الكافرين بمثل العذاب الذي وقع على فرعون ومن معه حين عصوا رسول ربهم وخوفهم ببعض أهوال القيامة .
1 - يا أيها المتلفف بثيابه ، قُمْ الليل مصلياً إلا قليلاً ، قُمْ نصفْ الليل أو انقص من النصف قليلاً حتى تصل إلى الثلث ، أو زد على النصف حتى تصل إلى الثلثين ، واقرأ القرآن متمهلاً مبيناً للحروف والوقوف قراءة سالمة من أي نقصان .
{ بسم الله الرحمن الرحيم . يا أيها المزمل }أي الملتف بثوبه . وأصله التزمل ، أدغمت التاء في الزاي ، ومثله المدثر أدغمت التاء في الدال ، يقال : تزمل وتدثر بثوبه ، إذا تغطى به . وقال السدي : أراد يا أيها النائم قم فصل . قال الحكماء : كان هذا الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم في أول الوحي قبل تبليغ الرسالة ، ثم خوطب بعد بالنبي والرسول .
{ 1 - 11 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا * إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا * وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا * رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا * وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا * وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا }
المزمل : المتغطي بثيابه كالمدثر ، وهذا الوصف حصل من رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أكرمه الله برسالته ، وابتدأه بإنزال [ وحيه بإرسال ] جبريل إليه ، فرأى أمرا لم ير مثله ، ولا يقدر على الثبات له إلا المرسلون ، فاعتراه في ابتداء ذلك{[1258]} انزعاج حين رأى جبريل عليه السلام ، فأتى إلى أهله ، فقال : " زملوني زملوني " وهو ترعد فرائصه ، ثم جاءه جبريل فقال : " اقرأ " فقال : " ما أنا بقارئ " فغطه حتى بلغ منه الجهد ، وهو يعالجه على القراءة ، فقرأ صلى الله عليه وسلم ، ثم ألقى الله عليه الثبات ، وتابع عليه الوحي ، حتى بلغ مبلغا ما بلغه أحد من المرسلين .
فسبحان الله ، ما أعظم التفاوت بين ابتداء نبوته ونهايتها ، ولهذا خاطبه الله بهذا الوصف الذي وجد منه في أول أمره .
1- سورة " المزمل " هي السورة الثالثة والسبعون في ترتيب المصحف ، أما ترتيبها في النزول على النبي صلى الله عليه وسلم فهي السورة الثالثة أو الرابعة ، إذ يرى بعضهم أنه لم يسبقها في النزول سوى سورتي العلق والمدثر ، بينما يرى آخرون أنه لم يسبقها سوى سور العلق ، ونون ، والمدثر .
وعدد آياتها عشرون آية عند الكوفيين ، وتسع عشرة آية عند البصريين وثماني عشرة آية عند الحجازيين .
2- وجمهور العلماء على أن سورة " المزمل " من السور المكية الخالصة ، فابن كثير –مثلا- عند تفسيره لها قال : تفسير سورة " المزمل " ، وهي مكية .
وحكى بعضهم أنها مكية سوى آيتين ، فقد قال القرطبي : مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر ، وقال ابن عباس وقتادة : هي مكية إلا آيتين منها ، وهما قوله –تعالى- : [ واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا ، وذرني والمكذبين . . . ] .
وقال الثعلبي : هي مكية إلا الآية الأخيرة منها وهي قوله –تعالى- : [ إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه . . . ] فإنها نزلت بالمدينة( {[1]} ) .
وقال الشيخ ابن عاشور ما ملخصه : وقال في الإتقان : إن استثناء قوله –تعالى- : [ إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل . . . ] إلى آخر السورة ، يرده ما أخرجه الحاكم عن عائشة أنها قالت : نزلت هذه الآية بعد نزول صدر السورة بسنة . .
ثم قال الشيخ ابن عاشور : وهذا يعني أن السورة كلها مكية ، والروايات تظاهرت على أن هذه الآية قد نزلت منفصلة عما قبلها ، بمدة مختلف في قدرها ، فعن عائشة أنها سنة . . ومن قال بأن هذه الآية مدنية ، يكون نزولها بعد نزول ما قبلها بسنين . .
والظاهر أن هذه الآية مدنية ، لقوله –تعالى- : [ . . . وآخرون يقاتلون في سبيل الله ] ومن المعروف أن القتال لم يفرض إلا في المدينة –إن لم يكن ذلك إنباء بمغيب على وجه المعجزة( {[2]} ) .
والسورة الكريمة : زاخرة بالحديث الذي يدخل التسلية والصبر على قلب النبي صلى الله عليه وسلم ، ويعلي من شأن القرآن الكريم ، ويرشد المؤمنين إلى ما يسعدهم ويصلح بالهم ، ويهدد الكافرين بسوء المصير إذا ما استمروا في طغيانهم ، ويذكّر الناس بأهوال يوم القيامة . . ويسوق لهم ألوانا من يسر شريعته ورأفته –عز وجل- بعباده ، وإثابتهم بأجزل الثواب على أعمالهم الصالحة .
وقد ذكرالمفسرون عند تفسيرهم لهذه السورة الكريمة روايات منها ما رواه البزار والطبرانى فى الأوسط ، وأبو نعيم فى الدلائل عن جابر - رضى الله عنه - قال : اجتمعت قريش فى دار الندوة فقالوا : سموا هذا الرجل اسما تصدوا الناس عنه فقالوا : كاهن . قالوا : ليس بكاهن . قالوا : مجنون . قالوا : ليس بمجنون . قالوا : ساحر . قالوا : ليس بساحر . . فتفرق المشركون على ذلك . فبلغ ذلك النبى صلى الله عليه وسلم فتزمل فى ثيابه وتدثر فيها ، فأتاه جبريل فقرأ عليه : { ياأيها المزمل } { ياأيها المدثر . . . } وقيل : إنه صلى الله عليه وسلم كان نائما بالليل متزملا فى قطيفة . . فجاءه جبريل بقوله - تعالى - { ياأيها المزمل . قُمِ الليل إِلاَّ قَلِيلاً . . } .
وقيل : إن سبب نزول هذه الآيات ما رواه الشيخان وغيرهما من حديث جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " جاورت بحراء ، فلما قضيت جوارى ، هبطت ، فنوديت فنظرت عن يمينى فلم أر شيئا ، ونظرت عن شمالى فلم أر شيئا . . فرفعت رأسى فإذا الذى جاءنى بحراء ، جالس على كرسى بين السماء والأرض . . فرجعت فقلت : دثرونى دثرونى " ، وفى رواية : " فجئت أهلى فقلت : زملونى زملونى ، فأنزل الله - تعالى - : { ياأيها المدثر . . . } " .
وجمهور العلماء يقولون : وعلى أثرها نزلت : { ياأيها المزمل . . . } .
و { المزمل } : اسم فاعل من تزمل فلان بثيابه ، إذا تلفف فيها ، وأصله المتزمل ، فأدغمت التاء فى الزاى والميم .
وافتتح الكلام بالنداء للتنبيه على أهمية ما يلقى على المخاطب من أوامر أو نواه .
وفى ندائه صلى الله عليه وسلم بلفظ " المزمل " تلطف معه ، وإيناس لنفسه ، وتحبب إليه ، حتى يزداد نشاطا ، وهو يبلغ رسالة ربه .
والمعنى : يأيها المزمل بثيابه ، المتلفف فيه ، رهبة مما رآه من عبدنا جبريل . او هما وغما مما سمعه من المشركين ، من وصفهم له بصفات هو برئ منها .
ليس لهذه السورة إلا أسم { سورة المزمل } عرفت بالإضافة لهذا اللفظ الواقع في أولها ، فيجوز أن يراد حكاية اللفظ ، ويجوز أن يراد به النبي صلى الله عليه وسلم موصوفا بالحال الذي نودي به في قوله تعالى { يا أيها المزمل } .
قال ابن عطية : هي في قول الجمهور مكية إلا قوله تعالى { إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل } إلى نهاية السورة فذلك مدني . وحكى القرطبي مثل هذا عن الثعلبي .
وقال في الإتقان : إن استثناء قوله { إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل } إلى آخر السورة يرده ما أخرجه الحاكم عن عائشة نزل بعد نزول صدر السورة بسنة وذلك حين فرض قيام الليل في أول الإسلام قبل فرض الصلوات الخمس اه .
يعني وذلك كله بمكة ، أي فتكون السورة كلها مكية فتعين أن قوله { قم الليل } أمر به في مكة .
والروايات تظاهرت على أن قوله { إن ربك يعلم أنك تقوم } إلى آخر السورة نزل مفصولا عن نزول ما قبله بمدة مختلف في قدرها ، فقالت عائشة نزل بعد صدر السورة بسنة . ومثله روى الطبري عن ابن عباس ، وقال الجمهور : نزل صدر السورة بمكة ونزل { إن ربك يعلم } إلى آخرها بالمدينة ، أي بعد نزول أولها بسنين .
فالظاهر أن الأصح أن نزول { إن ربك يعلم } إلى آخر السورة نزل بالمدينة لقوله تعالى { وآخرون يقاتلون في سبيل الله } إن لم يكن ذلك إنباء بمغيب على وجه المعجزة .
وروى الطبري عن سعيد بن جبير قال لما أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم يا أيها المزمل مكث النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الحال عشر سنين يقوم الليل كما أمره الله وكانت طائفة من أصحابه يقومون معه فأنزل الله بعد عشر سنين { إن ربك يعلم أنك تقوم } إلى { وأقيموا الصلاة } اه ، أي نزلت الآيات الأخيرة في المدينة بناء على أن مقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة كان عشر سنين وهو قول جم غفير .
والروايات عن عائشة مضطربة بعضها يقتضي أن السورة كلها مكية وأن صدرها نزل قبل آخرها بسنة قبل فرض الصلاة وهو ما رواه الحاكم في نقل صاحب الإتقان . وذلك يقتضي أن أول السورة نزل بمكة ، وبعض الروايات يقولون فيها : إنها كانت تفرش لرسول الله صلى الله عليه وسلم حصيرا فصلى عليه من الليل فتسامع الناس فخرج مغضبا وخشي أن يكتب عليهم قيام الليل ونزل { يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا } فكتب عليهم بمنزلة الفريضة ومكثوا على ذلك ثمانية أشهر ثم وضع الله ذلك عنهم ، فأنزل { إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل } إلى { فتاب عليكم } ، فردهم إلى الفريضة ووضع عنهم النافلة . وهذا ما رواه الطبري بسندين إلى أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة ، وهو يقتضي أن السورة كلها مدنية لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبن بعائشة إلا في المدينة ، ولأن قولها فخرج مغضبا يقتضي أنه خرج من بيته المفضي إلى مسجده ، ويؤيده أخبار ثبت قيام الليل في مسجده . ولعل سبب هذا الاضطراب اختلاط في الرواية بين فرض قيام الليل وبين الترغيب فيه .
ونسب القرطبي إلى تفسير الثعلبي قال : قال النخعي في قوله تعالى { يا أيها المزمل } كان النبي صلى الله عليه وسلم متزملا بقطيفة عائشة ، وهي مرط نصفه عليها وهي نائمة ونصفه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي اه ، وإنما بنى النبي صلى الله عليه وسلم بعائشة في المدينة ، فالذي نعتمد عليه أن أول السورة نزل بمكة لا محلة كما سنبينه عند قوله تعالى { إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا } ، وأن قوله { إن ربك يعلم أنك تقوم } إلى آخر السورة نزل بالمدينة بعد سنين من نزول أول السورة لأن فيه ناسخا لوجوب قيام الليل وإنه ناسخ لوجوب قيام الليل عن النبي صلى الله عليه وسلم وأن ما رووه عن عائشة أن أول ما فرض قيام الليل قبل فرض الصلاة غريب .
وحكى القرطبي عن الماوردي : أن ابن عباس وقتادة قالا : إن آيتين وهما { وأصبر على ما يقولون } إلى قوله { ومهلهم قليلا } نزلتا بالمدينة .
واختلف في عد هذه السورة في ترتيب نزول السور ، والأصح التي تضافرت عليه الأخبار الصحيحة : أن أول ما نزل سورة العلق واختلف فيما نزل بعد سورة العلق ، فقيل : سورة ن والقلم ، وقيل نزل بعد العلق سورة المدثر ، ويظهر أنه الأرجح ثم قيل نزلت سورة المزمل بعد القلم فتكون ثالثة . وهذا قول جابر بن زيد في تعداد نزول السور ، وعلى القول بأن المدثر هي الثانية . يحتمل أن تكون القلم ثالثة والمزمل رابعة ، ويحتمل أن تكون المزمل هي الثالثة والقلم رابعة ، والجمهور على أن المدثر نزلت قبل المزمل ، وهو ظاهر حديث عروة بن الزبير عن عائشة في بدء الوحي من صحيح البخاري وسيأتي عند قوله تعالى { يا أيها المزمل } .
والأصح أن سبب نزول { يا أيها المزمل } ما في حديث جابر بن عبد الله الآتي عند قوله تعالى { يا أيها المزمل } الآية .
وعدت آيها في عد أهل المدينة ثمان عشرة آية ، وفي عد أهل البصرة تسع عشرة وفي عد من عداهم عشرون .
أغراضها الإشعار بملاطفة الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بندائه بوصفه بصفة تزمله .
واشتملت على الأمر بقيام النبي صلى الله عليه وسلم غالب الليل والثناء على طائفة من المؤمنين حملوا أنفسهم على قيام الليل .
وعلى تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم بتحمل إبلاغ الوحي .
والأمر بإدامة إقامة الصلاة وأداء الزكاة وإعطاء الصدقات .
وأمره بالتمحض للقيام بما أمره الله من التبليغ وبأن يتوكل عليه .
وأمره بالإعراض عن تكذيب المشركين .
وتكفل الله له بالنصر عليهم وأن جزاءهم بيد الله .
ووعظهم مما حل بقوم فرعون لما كذبوا رسول الله إليهم .
وذكر يوم القيامة ووصف أهواله .
ونسخ قيام معظم الليل بالاكتفاء بقيام بعضه رعيا للأعذار الملازمة .
والوعد بالجزاء العظيم على أفعال الخيرات .
والمبادرة بالتوبة وأدمج في ذلك أدب قراءة القرآن وتدبره .
افتتاح الكلام بالنداء إذا كان المخاطب واحداً ولم يكن بعيداً يدل على الاعتناء بما سيلقى إلى المخاطب من كلام .
والأصل في النداء أن يكون باسم المنادَى العلم إذا كان معروفاً عند المتكلم فلا يعدل من الاسم العلم إلى غيره من وصف أو إضافة إلاّ لغرض يقصده البلغاء من تعظيم وتكريم نحو { يا أيها النبي } [ الأنفال : 65 ] ، أو تلطف وتقرب نحو : يا بُنيِّ ويا أبتِ ، أو قصد تهكم نحو : { وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون } [ الحجر : 6 ] فإذا نودي المنادى بوصف هيئته من لِبسة أو جِلسة أو ضِجعة كان المقصود في الغالب التلطف به والتحبب إليه ولهيئته ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب وقد وجده مضطجعاً في المسجد وقد علق تراب المسجد بجنبه « قُم أَبا تراب » وقوله لحذيفة بن اليمان يوم الخندق « قم يا نَوْمانُ » ، وقولِه لعَبْد الرحمان بن صخر الدوسي وقد رءاه حاملاً هِرّة صَغيرةً في كمه « يا أبا هُريرة » .
فنداء النبي ب { يا أيها المزمل } نداء تلطف وارتفاق ومثله قوله تعالى : { يا أيها المدثر } [ المدثر : 1 ] .
و { المزمل } : اسم فاعل من تزمل ، إذا تلفف بثوبه كالمقرور ، أو مريد النوم وهو مثل التدثر في مآل المعنى وإن كان بينهما اختلاف في أصل الاشتقاق فالتزمل مشتق من معنى التلفف ، والتدثُر مشتق من معنى اتخاذ الدثار للتدفؤ . وأصل التزمل مشتق من الزَّمْل بفتح فسكون وهو الإِخفاء ولا يعرف ل ( تزمَّل ) فعل مجرد في معناه فهو من التفعل الذي تنوسي منه معنى التكلف للفعل ، وأريد في إطلاقه معنى شدة التلبس ، وكثر مثل هذا في الاشتمال على اللباس ، فمنه التزمل ومنه التعَمّم والتأزّر والتقمّص ، وربما صَاغوا له صيغة الافتعال مثل : ارتَدى وائتزر .
وأصل { المزمل } : المتزمل ، أدغمت التاء في الزاي بعد قلبها زاياً لتقاربهما .
وهذا التزمل الذي أشارت إليه الآية قال الزهري وجمهور المفسرين : إنه التزمل الذي جرى في قول النبي صلى الله عليه وسلم « زَمِّلُوني زَمِّلُوني » حين نزل من غار حراء بعد أن نزل عليه { اقرأ باسم ربك } [ العلق : 1 ] الآيات كما في حديث عروة عن عائشة في كتاب بدء الوحي من « صحيح البخاري » وإن لم يذكر في ذلك الحديث نزول هذه السورة حينئذٍ ، وعليه فهو حقيقة .
وقيل : هو ما في حديث جابر بن عبد الله قال : « لما اجتمعت قريش في دار الندوة فقالوا : سَمُّوا هذا الرجل اسماً تصدر الناس عنه ( أي صِفوه وصفاً تتفق عليه الناس ) فقالوا : كاهن ، وقالوا : مجنون ، وقالوا : ساحر ، فصدر المشركون على وصفه ب ( ساحر ) فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فحزن وتزمل في ثيابه وتدثر ، فأتاه جبريل فقال : { يا أيها المزمل } { يا أيها المدثر } [ المدثر : 1 ] .
وسيأتي في سورة المدثر أن سبب نزولها رؤيتُه المَلكَ جالساً على كرسي بين السماء والأرض فرجع إلى خديجة يرجف فؤاده فقال : « دثروني » ، فيتعين أن سبب ندائه ب { يا أيها المزمل } كان عند قوله : « زَمِّلِوني » ، فذلك عندما اغتمّ من وصف المشركين إياه بالجنون وأن ذلك غير سبب ندائه ب { يا أيها المدثر في سورة المدثر .
وقيل : هو تزمُّل للاستعداد للصلاة فنودي { يا أيها المزمل قم اللّيل إلاّ قليلاً } وهذا مروي عن قتادة . وقريب منه عن الضحاك وهي أقوال متقاربة .
ومحملها على أن التزمُّل حقيقة ، وقال عكرمة : معناه زُمِّلْتَ هذا الأمر فقم به ، يريد أمر النبوءة فيكون قوله : { الليل إلاّ قليلاً } مع قوله : { إن لك في النهار سبحاً طويلاً } [ المزمل : 7 ] تحريضاً على استفراغ جهده في القيام بأمر التبليغ في جميع الأزمان من ليل ونهار إلاّ قليلاً من الليل وهو ما يضطر إليه من الهجوع فيه . ومحمل التزمل عنده على المجاز .
فإذا كانت سورة المزمل قد أنزلت قبل سورة المدثر كان ذلك دالاً على أن الله تعالى بعد أن ابتدأ رسوله بالوحي بصدر سورة { اقرأ باسم ربك } [ العلق : 1 ] ثم أنزل عليه سورة القلم لدحض مقالة المشركين فيه التي دبرها الوليد بن المغيرة أن يقولوا : إنه مجنون .
أنزل عليه التلطف به على تزمله بثيابه لما اعتراه من الحزن من قول المشركين فأمره الله بأن يدفع ذلك عنه بقيام الليل ، ثم فتر الوحي فلما رأى المَلَكَ الذي أرسل إليه بحِراء تدثر من شدة وقع تلك الرؤية فأنزل عليه { يا أيها المدثر .
فنداء النبي بوصف { المزمل } باعتبار حالته وقت ندائه وَليس المزمل معدوداً من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم قال السهيلي : ولم يعرف به وذهب بعض الناس إلى عدّه من أسمائه .