فالله تعالى ، دعا جميع العباد إلى الإنابة إليه والتوبة من التقصير ، فانقسموا -بحسب الاستجابة له- إلى قسمين : مستجيبين وصفهم بقوله { وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ }
أي : يستجيبون لربهم لما دعاهم إليه وينقادون له ويلبون دعوته ، لأن ما معهم من الإيمان والعمل الصالح يحملهم على ذلك ، فإذا استجابوا له ، شكر الله لهم ، وهو الغفور الشكور .
وزادهم من فضله توفيقا ونشاطا على العمل ، وزادهم مضاعفة في الأجر زيادة عن ما تستحقه أعمالهم من الثواب والفوز العظيم .
وأما غير المستجيبين للّه وهم المعاندون الذين كفروا به وبرسله ، ف { لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } في الدنيا والآخرة .
وقوله - تعالى - : { وَيَسْتَجِيبُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ } معطوف على قوله : { يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ } .
أى : ويستجيب سبحانه من الذين آمنوا دعاءهم ، ويزيدهم من فضله وإحسانه ، بأن يعطيهم من النعم والخيرات أكثر مما سألوا .
قال الآلوسى ما ملخصه : والموصول مفعول بدون تقدير شئ ، بناء على أن { يَسْتَجِيبُ } يتعدى بنفسه ، كما يتعدى باللام ، نحو شكرته وشكرت له ، أو بتقدير اللام على أنه من باب الحذف والإِيصال ، والأصل : ويستجيب للذين آمنوا . .
{ والكافرون لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } أى : هذا هو حال المؤمنين يجيب لهم - سبحانه - دعاءهم ، ويزيدهم من فضله وإحسانه . . . أما الكافرون الذين ستروا نعمه ، وجحدوا فضله ، فلهم عذاب شيدد لا يعلم مقداره إلا هو- سبحانه - .
{ ويستجيب الذين آمنوا وعلموا الصالحات } أي يستجيب الله لهم فحذف اللام كما حذف في { وإذا كالوهم } والمراد إجابة الدعاء أو الإثابة على الطاعة ، فإنها كدعاء وطلب لما يترتب عليها . ومنه قوله صلى الله عليه وسلم " أفضل الدعاء الحمد لله " ، أو يستجيبون لله بالطاعة إذا دعاهم إليها . { ويزيدهم من فضله } على ما سألوا واستحقوا واستوجبوا له بالاستجابة . { والكافرون لهم عذاب شديد } بدل ما للمؤمنين من الثواب والتفضل .
وقوله تعالى : { ويستجيب } قال الزجاج وغيره معناه : يجيب ، والعرب تقول : أجاب واستجاب بمعنى ومنه قول الشاعر [ كعب بن سعد الغنوي ] : [ الطويل ]
وداع دعا يا من يجيب الندا . . . فلم يستجبه عند ذاك مجيب{[10140]}
و : { الذين } على هذاا لقول مفعول ب { يستجيب } ، وروي هذا المعنى عن معاذ بن جبل رضي الله عنه{[10141]} ونحوه عن ابن عباس ، وقالت فرقة المعنى : ويستدعي الذين آمنوا الإجابة من ربهم بالأعمال الصالحة .
ودل قوله : { ويزيدهم من فضله } على أن المعنى فيجيبهم ، وحملت هذه الفرقة استجاب على المعهود من باب استفعل ، أي طلب الشيء . و : { الذين } على هذا القول فاعل ب { يستجيب } . وقالت فرقة : المعنى ويجيب المؤمنون ربهم ، ف { الذين } : فاعل بمعنى يجيبون دعوة شرعه ورسالته . والزيادة من فضله : هي تضعيف الحسنات ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «هي قبول الشفعات في المذنبين والرضوان »{[10142]} .
والاستجابة : مبالغة في الإجابة ، وخُصت الاستجابة في الاستعمال بامتثال الدعوةِ أو الأمر . وظاهر النظم أن فاعل { يستجيب } ضمير يعود إلى ما عاد إليه ضمير { وهو الذي يقبل التوبة } وأن { الذين آمنوا } مفعول { يستجيب } وأن الجملة معطوفة على جملة { يقبل التوبة } .
والغالب في الاستعمال أن يقال : استجاب له ، كقوله : { ادعوني أستجب لكم } [ غافر : 60 ] وقد يحذفون اللام فيعدُّونه بنفسه ، كقول كعب بن سعد :
ودَاعٍ دَعا يَا من يجيب إلى الندا *** فلم يستجبه عند ذَاك مجيب
والمعنى : أن الله يستجيب لهم ما يرجونه منه من ثواب ، وما يدْعُونه .
ويجوز أن يكون { الذين آمنوا } فعل { يستجيب } أي يستجيبون لله فيطيعونه وتكون جملة { ويستجيب } عطفاً على مجموع جملة { وهو الذي يقبل التوبة } ، أي ذلك شأنه وهذا شأن عباده المؤمنين .
ومعنى { ويزيدهم من فضله } على الوجهين أنه يعطيهم ما أمَّلوا من دعائهم وعملهم وأعظم مما أملوا حين استجابوا له ولرسوله ، وأنه يعطيهم من الثواب أكثر مما عملوا من الصالحات إذ جعل لهم الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف كما في الحديث ، وأنه يعطيهم من خير الدنيا ما لم يسألوه إياه كل ذلك لأنه لطيف بهم ومدبر لمصالحهم .
ولما كانت الاستجابة والزيادة كرامةً للمؤمنين ، أظهر اسم { الذين آمنوا } وجيء به مَوْصُولاً للدلالة على أن الإيمان هو وجه الاستجابة لهم والزيادة لهم .
وجملة { والكافرون لهم عذاب شديد } اعتراض عائد إلى ما سبق من قوله : { ترى الظالمين مُشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم } [ الشورى : 22 ] توكيداً للوعيد وتحذيراً من الدوام على الكفر بعد فتح باب التوبة لهم .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ويجيب الذين آمنوا بالله ورسوله، وعملوا بما أمرهم الله به، وانتهوا عما نهاهم عنه لبعضهم دعاء بعض...
وقوله:"وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ" يقول تعالى ذكره: ويزيد الذين آمنوا وعملوا الصالحات مع إجابته إياهم دعاءهم، وإعطائه إياهم مسألتهم من فضله على مسألتهم إياه، بأن يعطيهم ما لم يسألوه. وقيل: إن ذلك الفضل الذي ضمن جلّ ثناؤه أن يزيدهموه، هو أن يشفعهم في إخوان إخوانهم إذا هم شفعوا في إخوانهم، فشفعوا فيهم... وقوله: "والكافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ "يقول جلّ ثناؤه: والكافرون بالله لهم يوم القيامة عذاب شديد على كفرهم به.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات} أي يجيب الذين آمنوا بما يدعون ويسألون ربهم، وهو كقوله تعالى: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الدّاع إذا دعانِ} [البقرة: 186] أي يجيبهم على الذي ذكر في الآية.
{ويزيدهم من فضله} أي يزيدهم من فضله وهو قوله صلى الله عليه وسلم:] (ما لا عين رأت، ولا أُذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) [البخاري 3244 ومسلم 2824]، وهي الجنة، وذلك زيادة من فضله.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} أي يطيع الّذين آمنوا ربّهم في قول بعضهم. جعل الفعل للّذين آمنوا، وقال الآخرون: (وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُواْ) جعلوا الإجابة فعل الله تعالى، وهو الأصوب والأعجب إليَّ لأنّه وقع بين فعلين لله تعالى: الأول قوله: {يَقْبَلُ} والثاني {وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ}، ومعنى الآية: ويجيب الله المؤمنين إذا دعوه، وقيل: معناه نجيب دعاء المؤمنين بعضهم لبعض...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
قيل: الاستجابة موافقة عمل العامل ما يدعو اليه، لأجل دعائه إليه، فلما كان المؤمن يوافق بعمله ما يدعو النبي (صلى الله عليه وآله) من أجل دعائه كان مستجيبا له، وكذلك من وافق بعمله داعي عقابه كان مستجيبا للداعي بالفعل. وقيل: معناه ويستجيب دعاء المؤمنين، ولا يستجيب دعاء الكافرين، لأنه ثواب، ولا ثواب للكافرين.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
إذا دَعَوْه استجابَ لهم بعظيم الثواب في الآخرة.
{وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ} يقول المفسرون من أهل السُّنَّة في هذه الزيادة إنها الرؤية.
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
(ويزيدهم من فضله) أي: الثناء الحسن في الدنيا، وقيل: الشفاعة في الآخرة، والمعروف مضاعفة الحسنات...
إن قالوا تخصيص المؤمنين بإجابة الدعاء هل يدل على أنه تعالى لا يجيب دعاء الكفار؟ قلنا قال بعضهم لا يجوز لأن إجابة الدعاء تعظيم، وذلك لا يليق بالكفار وقيل يجوز على بعض الوجوه، وفائدة التخصيص أن إجابة دعاء المؤمنين تكون على سبيل التشريف، وإجابة دعاء الكافرين تكون على سبيل الاستدراج،...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{والكافرون} أي العريقون في هذا الوصف، الذين منعتهم عراقتهم من التوبة والإيمان. {لهم عذاب شديد} ولا يجيب دعاءهم، فغيرهم من العصاة لهم عذاب غير لازم التقيد بشديد، والآية من الاحتباك: ذكر الاستجابة أولاً دليلاً على ضدها ثانياً، والعذاب ثانياً دليلاً على ضده أولاً، وسره أنه ذكر الحامل على الطاعة والصاد عن المعصية.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الاستجابة: مبالغة في الإجابة، وخُصت الاستجابة في الاستعمال بامتثال الدعوةِ أو الأمر، وظاهر النظم أن فاعل {يستجيب} ضمير يعود إلى ما عاد إليه ضمير {وهو الذي يقبل التوبة} وأن {الذين آمنوا} مفعول {يستجيب} وأن الجملة معطوفة على جملة {يقبل التوبة}.
والغالب في الاستعمال أن يقال: استجاب له، كقوله: {ادعوني أستجب لكم} [غافر: 60] وقد يحذفون اللام فيعدُّونه بنفسه...
وجملة {والكافرون لهم عذاب شديد} اعتراض عائد إلى ما سبق من قوله: {ترى الظالمين مُشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم} [الشورى: 22] توكيداً للوعيد وتحذيراً من الدوام على الكفر بعد فتح باب التوبة لهم...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
قد تمّ ذكر تفاسير مختلفة للأمر الذي سيستجيبه من المؤمنين، حيث أن بعض المفسّرين حدد ذلك في طلبات معينة، منها: أنّه سيستجيب دعاء المؤمنين أحدهم للآخر. ومنها أنّه سيقبل عباداتهم وطاعاتهم. ومنها أن ذلك مختص بشفاعتهم لاخوانهم. ولكن لا يوجد أي دليل على هذا التحديد، حيث أن الخالق سيستجيب أي طلب للمؤمنين الذين يعملون الصالحات والأكثر من ذلك فإنّه سيهبهم من فضله أُموراً قد لا تخطر على بالهم ولم يطلبوها، وهذا غاية اللطف والرحمة الإلهية بخصوص المؤمنين...